والسعيد السعيد في هذا البلد هو من يهتدي في حلبة السياسة إلى الجواد الرابح، والشقي الشقي هو من ربط مصيره بجواد خاسر.
نظرة الطائر
يرتفع الطائر إلى السماء وينظر، فتكون نظرته واسعة المدى بعيدة الأفق، وأما الدودة فتنكفئ بوجهها نحو الأرض زاحفة، فينحصر نطاق النظر عندها حتى لا يمتد إلى أبعد من أنفها.
ونحن في كثير جدا من أمورنا - أفرادا ودولة - أقرب إلى الدود الزاحف منا إلى الطير المحلق في الفضاء، فترانا ننظر إلى «هنا» و«الآن» - على حد تعبير الإنجليز - أي ننظر إلى مواضع أقدامنا وإلى اللحظة الزمنية القصيرة التي نجتازها، ثم نتصرف بما يرضي ذلك المكان المحدود وهذا الزمن القصير العابر، بغض النظر عما يترتب على ذلك من نتائج فيما هو أبعد قليلا من نطاقنا المكاني والزماني الضيق المحدود، ولا غرابة إذا أن ترانا ننقض غدا ما أبرمناه اليوم، ثم نهدم بعد غد ما نبنيه في الغد؛ ذلك لأننا اليوم لا نفكر في غد أو بعد غد، وفي غد ننسي اليوم ونتناسى ما يتلوه من أيام - كالتي نقضت غزلها، لولا أن التي كانت تغزل غزلها لكي تنقضه، ثم تغزله مرة جديدة لتنقضه، وهكذا، إنما كانت تقصد إلى المماطلة حتى يعود زوجها من سفره البعيد المجهول، تخلصا من خطابها الكثيرين الذين لبثوا ينتظرون قرارها، وقد وعدتهم ألا تنطق بقرار حتى تتم غزلها، ثم قصدت ألا تتمه أبدا، فراحت تغزل وتنقض ما غزلت، وهي عالمة بما تفعل مدبرة له، وإذا فمن الظلم على تلك المفكرة المدبرة التي ترسم لنفسها الخطة وتأخذ في تنفيذها؛ من الظلم عليها أن نقيس أنفسنا بها حين نريد تشبيها يصور حالنا، إذ نبني اليوم ما نهدمه بعد حين، عن غير تدبر ولا تفكير.
حين يرتفع الطائر إلى السماء لينظر، تعتدل في عينيه النسب بين الأشياء مقرونا بعضها إلى بعض، فيرى على وجه الدقة ضآلة الضئيل وعظمة العظيم، إذ يرى - مثلا - كم يكبر هذا البناء العالي ذلك الكوخ الصغير الوطيء؛ لأنه يراهما معا بنظرة واحدة فتسهل الموازنة والمقارنة، أما إذا وقف ذلك الطائر على باب الكوخ ونظر، فسيخيل إليه أنه إزاء عمارة جبارة، أين هو منها طولا وعرضا وارتفاعا، وسيحجب الكوخ عن عينيه ما وراءه من قمم عالية، فينقلب الكوخ الصغير الوطيء في عينيه مثلا أعلى في الارتفاع والسمو.
إن إدراك النسبة الصحيحة بين الأشخاص والأشياء والأفكار نعمة كبرى، ليست تتوافر للناس جميعا على السواء، فهذا قد تدق عنده «حاسة النسبة» بين الأشياء دقة تهديه إلى وضع الأمور في نصابها الصحيح، وذلك قد تنعدم عنده تلك «الحاسة» انعداما حتى لتراه يكبر الصغير ويصغر الكبير وهو لا يدري، وما أشبه هذين برجلين متساويين في الدخل، فأما أولهما فيوزع ماله المكسوب على مقتضيات الحياة - ضروراتها وكمالياتها - توزيعا تراعى فيه النسبة الصحيحة، فلا يضطرب له أمر، وأما الثاني فقد تتملكه الشهوة نحو شيء بعينه فيزيغ بصره عما عداه، وينفق ماله كله في ناحية واحدة لأن عينه قد عميت عن سائر النواحي، فيختل التوازن وتضطرب الحياة.
ولعلنا إذ نصف إنسانا بأنه «عاقل» في طريقة تصرفه في حياته، فإنما نريد بهذه الصفة أنه ينظر إلى أموره الكثيرة نظرة الطائر؛ ليراها كلها في لمحة واحدة، فيتسنى له أن يوازن ليقدر النسبة الصحيحة بين أحجامها، وعندئذ يقدم الأهم على المهم لأنه قد وقف الوقفة التي تكشف له أين الأهم وأين المهم وأين ما ليست له أهمية فيحذف من قائمة الحساب. فالإنسان حزمة من شهوات ورغبات، وليس من الحكمة أن تقتلع تلك الشهوات والرغبات اقتلاعا من أساسها، فتلك هي النظرة القديمة التي استبدت بتفكير الإنسان عصورا طويلة، على اعتبار أن الشهوات والرغبات هي من مقتضيات الجسد، والجسد منبوذ مكروه محتقر دنيء، بكل ما يتعلق به وبكل ما يقتضيه، أما الصحيح فهو أن نضع هذا الجسد البشري موضع التقدير، وكدت أقول موضع التقديس. ولكم عانى الناس ضروب العنت والإرهاق بسبب أن أجسادهم لم تكن هي موضع الاعتبار من أولي الأمر؛ فلبثت تلك الأجساد تتضور من جوع، وتئن من ألم؛ لأن أصحاب الشأن مشغولون «بالمثل العليا» التي هي وراء الأجساد وتزدري التفكير في الجوع والألم! لكن ذلك استطراد قد بعد بنا عما أخذنا في تقريره، وهو أن الإنسان حزمة من شهوات ورغبات، ليس من الحكمة في شيء أن تجتث وتقتلع، وإنما الحكمة هي في نسبتها بعضها إلى بعض نسبة صحيحة، فأشبع هذه الرغبة مني ضعف ما أشبع تلك، إذا رأيت ذلك يحقق لي في النهاية اتزان الحياة وهدوءها واطراد رقيها. ولست أستطيع إدراك هذا التناسب إلا إن وقفت من رغباتي جميعا موقف الذي يراها دفعة واحدة، وتلك هي نظرة الطائر.
وما أكثر ما نصف بالجنون إنسانا، إذا حللنا وجه النقص فيه، وجدناه انحصار نظره في نطاق ضيق من جوانب حياته، أو خضوعه خضوعا تاما لعاطفة واحدة أو فكرة واحدة فرضت نفسها عليه فلم يعد يستطيع رؤية ما وراءها أو الإحساس بما عداها، فالذي ينصرف بكل شعوره نحو الحزن على وليد فقده أو مال أضاعه، مجنون جنون الذي ينصرف بكل إنفاقه نحو الخمر غير آبه لما يتطلبه العيش من رداء ومسكن وخبز وماء، وموضع الجنون هنا هو في النظر بين الدودة المنكفئة بوجهها نحو الأرض فلا ترى أبعد من مليمترين أو ثلاثة، فتفوتها الدنيا الواسعة العريضة من حولها.
و«العاقل» في نظرته إلى الأمور نظرة الطائر، يضيف المستقبل إلى الحاضر في اعتباره، وكلما ارتفع الطائر الرائي ازداد الطول الزمني الذي يقع له في مجال رؤيته، واتسعت أمامه رقعة المستقبل الذي لا بد أن يدخله في حسابه وهو يقضي في شئونه بهذا القرار أو ذاك، ومن هنا قيل إن الموازنة بين الرغبات عند إشباعها وتفضيل بعضها على بعض، تحسب حساب المدة إلى جانب حسابها للحدة، فقد تكون الرغبة الآن حادة شديدة ملحة تناديك بإشباعها إشباعا سريعا، لكن أثر إشباعها لن يقيم معك إلا لحظة قصيرة ثم يمضي، بل قد تترك وراءها من النتائج ما يسبب آلاما أضعاف أضعاف اللذة التي نجمت عن إشباعها، فمثل هذه الرغبة - عند «العاقل» - يجب أن تفسح الطريق لرغبة أخرى أطول منها أمدا في بقاء الأثر وإن تكن أقل منها حدة وإلحاحا في اللحظة الراهنة.
وكذلك الأمر في الدولة وسياستها، فقد توصف الدولة بأنها بعيدة المدى في سياستها أو قصيرة المدى، والفرق بين الحالتين هو الفرق بين نظرة الطائر ونظرة الدودة: الدولة في الحالة الأولى توسع من نطاق الرؤية حتى لتضع مئات السنين المقبلة في اعتبارها وحسابها، وهي في الحالة الثانية تضع أنفها على الرغام وتنظر، فإذا اللحظة الراهنة ومقتضياتها هي كل ما هناك، وأنا أترك للقارئ أن يحكم لنفسه بأي النظرتين تنظر الدولة في بلادنا: أهي من قبيل ما ينظر الطير أم من قبيل ما ينظر الدود؟
صفحه نامشخص