كان برناردشو في زيارة جار له عندما جاءه نبأ اغتيال غاندي، فقال - وقد تأثر للنبأ: «لقد قلتها مرارا، إن الرجل الطيب دائما في خطر.»
وأذكر أني لما قرأت ذلك في حينه، جعلت أفكر لنفسي: من ذا يكون الرجل الطيب الذي تجيء طيبته خطرا عليه؟ وأذكر كذلك أني لم أجد سبيل الجواب عن هذا السؤال ميسرا؛ لأنني كلما قلبت في رأسي هذه الصفة أو تلك، مما عساه أن يحدد لي معنى هذه «الطيبة» المشئومة الخطرة على صاحبها، وجدتها هي بذاتها صفة مطلوبة محمودة، ويستحيل - من الوجهة البيولوجية على الأقل - أن تطلب الصفات التي تودي بأصحابها إلى التهلكة.
لكنه ما من شك في أن هنالك نوعا من «الضعف» ينعتونه في لغة الحديث الجارية «بالطيبة» - ولغة الحديث في هذا مؤدية للمعنى المراد أبلغ الأداء، حين يصف لك الناس هذا الشخص أو ذاك بأنه «رجل طيب» في نغمة صوتية خاصة، تبين لك على الفور بأن المقصود هنا، هو أن بالشخص الموصوف سذاجة أو بلاهة أو سرعة تصديق، تجعله في خطر من الناس، وتجعل الناس في مأمن منه ... لكن غاندي «الطيب» لم يكن هذا الساذج الأبله، فأين يكون العنصر المشترك بين الطيبة هنا والطيبة هناك؟
للهنود في ذلك قصة لطيفة ربما أنارت أمامنا بعض الطريق، فهم يحكون أن ثعبانا راح ينفث سمومه في الناس هنا وهناك بلا حساب، فيلدغ من يستحق ومن لا يستحق بغير تمييز، حتى كانت ساعة تحرك فيها ضميره، فندم على هذا الشر كله الذي يصيب به الناس أخيارا وأشرارا، وصمم على التوبة، فقصد من فوره إلى راهب متعبد يستفتيه نوع الحياة التي يحياها ليرضى عنه الله والناس، فأفتاه الراهب بأن يعيش كما يعيش هو، أعني أن ينتبذ من وجه الأرض مكانا معزولا، فيكتفي بالقوت اليسير، بعيدا عن الحياة ومغرياتها، فعاد الثعبان يبحث لنفسه عن ركن مهجور، ووجد بغيته في منطقة خلاء من العمران، وهنالك تحوى هادئ البال راضي النفس، لكن ذلك لم يدم له طويلا، إذ جاءت جماعة من الصبيان تلهو، وأبصر أحدهم بالثعبان متكوما في ركن الخرابة، فصاح صيحة الذعر وجرى وتبعه الباقون، ثم عادوا في اليوم التالي ليجدوا الثعبان على حاله هناك، فأمسك صبي بحجر من بعيد وألقاه وجرى وتبعه بقية الإخوان، وعادوا في اليوم الثالث ليجدوا الثعبان على استكانته، فألقوا عليه بدل الحجر حجرين، وأخذت القذائف تكثر في كل يوم عن سابقه، حتى هان أمر الثعبان في أعينهم، واقتربوا منه في غير خوف، وراحوا يمطرونه وابلا من حجارة كل يوم، فكادوا يرجمونه رجما يمزقه ويقضي عليه.
فلم يسع الثعبان إلا أن يعود إلى الراهب يستفتيه في هذا الموقف الجديد، فها هو ذا قد تاب وأناب، وانزوى عن الناس واعتكف، لكن شرار الناس لم يتركوه، واعتدوا عليه بما لم يعد به احتمال عليه، فماذا عساه صانع حتى لا يغضب الله والناس؟ فقال له الراهب: إنني لم أقصد حين أرشدتك إلى طريق الهدى، أن تتلقى الاعتداء بغير عدوان يقيك آنا بعد آن، فلا بد لك في الأسبوع مرة من نفثة تنفثها في الهواء؛ ليعلم هؤلاء الصبيان الأشرار أنك تستطيع - إن أردت - أن تجيبهم إيذاء بإيذاء.
أقول: إن هذه القصة الهندية تنير أمامنا بعض الطريق في التفرقة بين «طيبة» و«طيبة» - بين الطيبة التي ترضي الله والناس في غير ضعف ولا خطر، والطيبة التي تستعدي على صاحبها عوامل الضر والأذى، فالطيب من الصنف الأول هو من لا يعتدي بادئا بالاعتداء، لكنه لا يسكت عن رد اعتداء وقع عليه، والطيب من الصنف الثاني هو من لا يعتدي، ثم يسكت عن رد الاعتداء - وإذا فلغة الحديث الجارية على صواب، حين تنعت الناس بالطيبة في نغمتين مختلفتين: نغمة تدل على أن الشخص الموصوف على خلق قويم، لكنه في الوقت نفسه ذو لحم مر لا يسهل أكله التهاما، ونغمة أخرى تدل على أنه إلى جانب استقامة أخلاقه يمكن أن يكون نهبا للطامعين.
إنني لا أحسن دراسة طبائع الحيوان، فلعلي لا أكون بعيدا عن الصواب إذا زعمت أن الليث والذئب والحمل تمثل ثلاثة ضروب مختلفة من الطبائع في ميدان العدوان ورده، فالليث - فيما أعلم - يرد الاعتداء إذا وقع لكنه لا يبادئ به، والذئب يصنع الصنيعين معا، فيبدأ بالعدوان ويرد، والحمل لا يفعل هذا ولا ذاك، فلا اعتداء ولا رد اعتداء، ومن ثم وداعته التي ذهبت بذكرها الأمثال، فإن كان لنا أن نختار من هذه الطبائع الثلاثة واحدا، فهو طبع الليث؛ لأن الذئب شر والحمل ضعف، ففي الليث «طيبة» بالمعنى القوي - إن صح هذا التعبير - وفي الحمل «طيبة» بالمعنى الضعيف، وأما الذئب فكله خبيث.
وأساس القوة في الطيبة القوية، هو أن مقومات الحياة الصحيحة تتوافر فيها، وأول هذه المقومات للحياة، بل تعريف الحياة وتحديد معناها - في رأي هربرت سبنسر - هو استمرار المواءمة بين ما يحدث في باطن الكائن الحي وما يحدث في محيطه الخارجي، الحياة - في صميم معناها - هي أن يستجيب الكائن الحي لما يقع حوله، والموت هو أن تقف هذه الاستجابة للمؤثرات الآتية من خارج، الكائن الحي يرد على المنبهات المحيطة به ردودا ملائمة ليوفق بين داخله وخارجه، والجسم الميت تأتيه المنبهات فلا يتنبه ولا يجيب.
الفرق بين الفاعلية والقابلية هو نفسه الفرق بين الحياة والموت، الحي فاعل والميت قابل، الحي يتلقى عوامل الجو - مثلا - من حرارة وبرودة، فيتخذ منها موقفا ملائما، وأما قطعة الحجر الملقاة في الفلاة، فتتلقى هي كذلك عوامل الجو نفسها من حرارة وبرودة، فتفعل فيها تلك العوامل فعلها من تفتيت وتحليل وتهديم وبعثرة، وهي إزاء هذا كله قابلة وكفى، لا حيلة لها ولا سبيل.
والحياة - بهذا المعنى - تكون درجات يتفاوت بها الأحياء، فليس كل ما هنالك من فرق هو أن يكون هذا حيا وهذا ميتا، بل هنالك فروق فسيحة بين الأحياء أنفسهم في نصيبهم من الحياة؛ لأن هنالك فروقا فسيحة بينهم في القدرة على إجابات المنبهات الخارجية بما يلائمها، وها هنا أيضا نرى في لغة الحديث الجارية بلاغة في الأداء، حيث تصف شخصا بأنه «مليء بالحياة»، إذ أكواب الأحياء تتفاوت - كما رأينا - في مقدار ما بها من العصارة الحيوية، فكوب مليء إلى حافته، وكوب فيه العصارة إلى نصفه أو ربعه، وثالث فارغ، يعد صاحبه بين الأحياء بهتانا وزورا، حين يجيء أوان التعداد وإحصاء السكان.
صفحه نامشخص