فلئن كان الأدب خيالا، فهو هذا الخيال الذي يستمد من الواقع جناحه، فلا بد لي - إذا - قبل أن أكتب في «الحب الصامت» أن أراه ...
يا لسعدي! وقلما شاءت لي الأيام سعدا! لقد وقعت عيناي ليلة المولد على مثل عجيب من الحب الصامت، وإذا فسأكتب للصديقة الأديبة ما أرادت!
هذا صبي في العاشرة وقف أمام بائع العرائس - عرائس المولد - وقفة تفيض بالمعاني، وقف على بعد ثلاثة أمتار أو نحوها، مثبتا ناظريه في عروس كبيرة، والأعجب من هذا أن راحت العروس «الحلوة» بدورها تنظر إليه لا تزيح عنه البصر! ... والله لن أمضي في طريقي حتى أتبين حقيقة هذا الغزل النادر، إن الصبي ينظر إلى معشوقته وعلى فمه ابتسامة خفيفة كلها هيام، والأعجب من ذلك أن راحت العروس «الحلوة» بدورها تبتسم له في حنان ظاهر! من ذا يرتاب في أن العروس قد وقفت هنالك على شرفتها العالية من دكان البائع تصوب نحو الصبي نظراتها وتبعث إليه ابتسامتها؟ ألا إنهما عاشقان صامتان، لولا أن حبه هو قد كان ممتزجا باشتهاء الحبيبة، وأما حبها هي فصادر منها عن عطف وإشفاق، ترى شهوته في عينيه ولعاب شفتيه، ويرى عطفها في ابتسامتها ...
لكن أوجه الخلاف بين العاشقين الصامتين بعد ذلك فسيحة المدى، إنه صبي فقير وقف هناك في هلاهيله رغم البرد الشديد، وقف مرتعش الأطراف تريد عضلاته الصغيرة أن يزحم بعضها بعضا ليدفئ بعضها بعضا! ورأيته يرفع إحدى قدميه فيقف بها على أطراف أصابعها، ونظرت إلى القدم المرفوعة فإذا آثار جرح كبير في عقبها، تعرفه جرحا بحواشيه القرمزية المنتفخة، وأما فجوة الجرح نفسه فقد ملئت بالطين الجاف، كأنه بركان ثار وأرسل الحمم ثم خمد مؤقتا ليثور من جديد بعد حين. لكن الصبي الولهان ظل واقفا هنالك يرتعش ويرقب معشوقته المشتهاة في شرفتها العالية، إنها بادية الثراء، لبست ثوبا نظيفا جديدا لامعا، عليه «الترتر» اللامع الساطع.
شعر الصبي ملبد فوق رأسه خشن بأوساخه غليظ، وشعر العروس ممشط ناعم مرسل، وجسد الصبي ملطع ببقع بيضاء من ملح، وجسد العروس كله في حلاوة السكر وأشهى، شتان ما كان من فرق بين العاشق الفقير ومعشوقته الثرية: إنه بقعة سوداء في محيط لامع من الأضواء المختلفة الألوان والبريق، كان المكان كله يتوهج بالنور ليلة المولد، وكان الهواء كتلة من الصوت، فاختلط الصوت بالضوء اختلاطا يكاد يخيل لك معه أنك ترى الضوء بأذنيك وتسمع الصوت بعينيك - إلا هذا الصبي العاشق الولهان، فقد وقف وسط الضوء اللامع بقعة سوداء من فقر، ووقف وسط الصوت المدوي قطعة ساكنة من ذل، ترتعش أطرافه من برد ديسمبر، وترتفع قدمه الجريحة تخفيفا للألم، وذراعاه ضاغطتان على بطنه، إما طلبا لدفء أو دفعا لجوع، وقف هنالك بقعة سوداء ساكنة، رافعا رأسه قليلا إلى أعلى، شاخصا ببصره إلى عروسه لا يتحول عنها يمينا أو يسارا ولا يتقدم خطوة ولا يتأخر.
فأين ذلك كله من عروسه اللامعة من محيطها اللامع، المزدانة في اتساق مع ما حولها من زينة؟ إنها وقفت هنالك تنظر إليه وتبتسم، لماذا لا تنزل الدرج ساعية إليه؟ إن الفقير والغنية إذا تحابا، كان على الطبيعة أن تغير مجراها، فتخطب الأنثى ود الذكر؛ لأن الذكر هنا عاجز مهيض الجناح منتوف الريش! لقد كان محالا على الصبي أن يتصور أن عروسه تلك المزدانة، قد وقفت هنالك في بهرجها، أمة رقيقة معروضة في السوق للبيع، ولا تتحرك إلا بإذن صاحبها الذي يتقدم لشرائها، كان محالا أن يطوف بباله أن هذه «الحلاوة» كلها تباع بمال، وأكثر من ذلك استحالة على تصوره أن يكون بين الناس من يملك المال الذي يستطيع به الشراء!
كيف كان يمكن لصبي في فقره وخبرته أن يتصور أن عروسه تلك مما يؤكل؟ كيف يأكلها آكلوها؟ هل يبدءون بالرأس أم يبدءون بالقدم؟ وهذا الشعر المنساب الناعم على رأسها، وهذا الثوب المزخرف الجميل اللامع ...
طاخ! نزلت صفعة الشرطي على الصبي إذ هو شاخص ببصره إلى عروسه يحلم، والشرطي معذور؛ لأنه مطالب بحفظ النظام، وليس من النظام في شيء أن يشتهي مثل هذا الصبي مثل تلك العروس، إن في ذلك خلطا كريها لطبقات الأمة غنيها وفقيرها، وقد كان العشق منذ أقدم العصور مقيدا بقيود الطبقات، فلا يكون عاشق من طبقة ومعشوقه من أخرى ... طاخ! صدمت ركلة الشرطي قدم الصبي الجريحة، فجرى المسكين صارخا من الألم في صوت يشبه عواء الكلب الجريح، وظل يحجل على قدم واحدة وهو يصيح، حتى أوى إلى فجوة باب مغلق خلف حظيرة الحلوى التي عرضت فيها عروسه، وجلس هناك في الظلام باكيا، يهز جذعه إلى خلف وإلى أمام، ممسكا بقدمه الجريحة بين كفيه.
ونظرت إلى الصبي في ظلامه نظرة أخيرة، ثم نظرت إلى عروسه في زينتها وضوئها؟ نظرت إليهما بعد أن فرق قانون الدولة بينهما إلى الأبد، فإلى الأبد سيظل حب الصبي لحبيبته مكتوما في قلبه، وسيظل حب العروس لفتاها حبا صامتا، لكن ابتسامة الصبي قد حولها قانون الدولة بكاء وأسالها على وجه البائس دموعا، وأما ابتسامة العروس فستبقى ابتسامة، وإن تبدل معناها من عطف إلى سخرية، ستبقى لها ابتسامتها لأنها في السوق لا تباع بغير ابتسامة.
ومضيت في طريقي وأنا أحمل بين جنبي قلبا من حجر، وهل أدعي غير ذلك ما دمت قد رأيت وسمعت، ثم مضيت في طريقي؟ وما هو إلا أن رأيت قوما تحلقوا يذكرون الله في ورع وتقوى، فهل كان يسعني عندئذ إلا أن أتذكر «فيفيكا ناندا» - من رسل الإصلاح الديني في الهند - إذ يقول: «أسمى الحقائق هي هذه: الله كائن في الأشياء كلها، إنها صوره الكثيرة ... إننا نريد عقيدة دينية تعمل على تكوين الإنسان ... اطرح هذه التصوفات المنهكة للقوى وكن قويا ... ولنمح من صفحات أذهاننا - في الخمسين عاما المقبلة - كل ما عدا ذلك من آلهة، جنسنا البشري هو الإله الوحيد اليقظان، يداه في كل مكان، قدماه في كل مكان، أذناه في كل مكان، إنه يشمل كل شيء ... إن أولى العبادات كلها هي عبادة من حولنا، ليس يعبد الله إلا من يخدم سائر الكائنات جميعا.»
صفحه نامشخص