إنني تلك النحلة الدائرة لمتعة غيرها، أضرب بالسياط لئلا أقف فتنقطع متعة المتمتعين - لا تقل إنه وهمك وخيالك؛ لأنه عندئذ لا فرق بين حقيقة وخيال، فانطلقت خواطري متلاحقة، ساعات العصر سوداء قاتمة، كأنها أسراب الغربان تحوم في الهواء سابحة متعاقبة، ثم تدور دورتها لتعود من جديد ... انطلقت خواطري السوداء متلاحقة فلا أرى الناس إلا معذبا بعضهم بعضا - كذب ونفاق هذا الذي يكتبونه في الكتب ويعظون به في المحافل من أن الإنسان يرجو لغيره الراحة والخير، فأنت مشاهد في كل خطوة تخطوها وفي كل ثنية ينعرج بك الطريق فيها، دليلا شاهدا على أن الناس يمقت بعضهم بعضا ويوقع بعضهم ببعض الضر والأذى.
وخطر لي خاطر عجيب، وهو أن أمزق كتبا عندي تمتلئ صفحاتها بمثل هذا الكذب الذي يكتبه الكاتبون على سبيل الوعظ والتقويم، أو لست أدري لماذا يكتبونه وهم يعلمون أنه كذب، أو لعلهم لا يعلمون.
لكن خاطر التمزيق لم يكد يطوف برأسي، حتى اشتدت سرعة الخواطر الهدامة المشتعلة بالحقد والانتقام؛ رأيت نفسي أنتظر حتى ينسدل ظلام الليل، فأتخفى تحت ستاره وأقصد إلى دار خصمي الذي يبتسم لي رياء، والذي تصورته يضربني بعذبة سوطه لأدور كما كان الصبي يضرب نحلته على بلاط الإفريز؛ أقصد إلى دار خصمي ذاك فأشعل فيها النار ثم أجري إلى التليفون القريب لأنادي رجال المطافئ ، والعجيب أني استشعرت الراحة للصورتين معا: لصورة النار أشعلها انتقاما، ولصورة الشهامة أبديها في محاولة الإنقاذ ...
قلت لصديقي: ليس عليك من بأس، فأنت خير حالا من شيطانة دوستويفسكي؛ لأنك هدمت وأصلحت، أما هي ...
فسألني: وما شيطانة دوستويفسكي؟
فقلت: هي «ليز» الفتاة التي أحبت «أليوشا» في قصة الإخوان كارامازوف، ثم أخذتها هذه الدفعة الجامحة نحو ارتكاب الشر وإيقاع الأذى حتى بنفسها، فأرسلت إلى «أليوشا» - وهو الشاب المتبتل الورع - فلما سألها: ماذا تريدين؟ قالت: أردت أن أعبر لك عن شوق شديد بنفسي، وهو أن يتزوجني زوج ليعذبني ثم يخدعني ويفر عني هاربا، إني لا أريد أن أكون سعيدة.
فقال لها «أليوشا»: أتنشدين السوء؟ فأجابته: أن نعم، وما أنفك راغبة في إشعال النار في بيتي، بحيث لا يدرك الناس الخطر إلا بعد فوات الأوان فيحترق كل شيء.
قال صديقي - وقد اطمأن نفسا أن يرى الناس في ذلك سواء: يظهر أن هنالك لحظات يحب الإنسان فيها ارتكاب الشر وينزع إلى الجريمة، ليس الناس ملائكة ولا قديسين، لكن ما الذي دفع «ليز» في قصة دستويفسكي أن تنزع إلى هذا الشر كله؟
فقلت: لعله مرضها؛ كانت كسيحة ثم برئت، لكنها لم تبرأ كل البرء، فربما أشعلت العلة في نفسها نار الحقد والرغبة في الانتقام.
قال: انتقام ممن؟! لقد أرادت أن تشعل النار في دارها هي، فهي الخاسرة.
صفحه نامشخص