سلسلة كن صحابيًا_جيل فريد
اختار الله لنبيه محمد ﷺ أصحابًا كرامًا بررة، فأخذوا عنه الدين وبلغوه لمن بعدهم من الأجيال، وزكاهم الله في كثير من آي القرآن الكريم، واستحقوا بذلك أن يكونوا أفضل جيل على الإطلاق، وقد أمرنا باتباعهم والسير على نهجهم، فهم أبر قلوبًا، وأعمق علمًا، وأقل تكلفًا، والطعن فيهم طعن في الدين، وتكريمهم وتعظيمهم تعظيم للدين.
1 / 1
منزلة الصحابة في الإسلام
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فهذه المجموعة هي مجموعة من المحاضرات، وقد أطلقت عليها اسم: (كن صحابيًا)، وهي محاولة للاقتراب جدًا من جيل الصحابة، هذا الجيل الراقي رفيع المستوى، الذي ما تكرر مثله في التاريخ، سواء في السابق لجيل الصحابة أو بعده، وقد أخبر رسول الله ﷺ أنه لن يأتي جيل مثله إلى يوم القيامة، فعظمة هذا الجيل وقيمته تأتي من كون هذا الجيل بأكمله يتصف بصفات معينة، من سلامة العقيدة، وكمال الأخلاق، وأمانة النقل، وصفاء القلب، وقوة العزيمة، وحب الجهاد، فكان بأكمله جيلًا على هذه الدرجة الراقية من الأخلاق والصفات.
وقد يظهر إنسان نابغة في زمان من الأزمان، أو تظهر مجموعة من الأمناء الصادقين الأبرار في جيل من الأجيال، أما أن يكون جيل الصحابة بكامله على صورة معينة من النقاء والبهاء فهذا هو الغريب حقًا، وهذا هو الأمر الملفت للنظر، فلو أنه في زمن من الأزمان ظهر رجل كـ عمر بن الخطاب مثلًا، فهذا من سعادة هذا الجيل، ومن سعادة هذا الزمن، وكذلك لو ظهر شخص مثل أبي بكر الصديق، أو مثل طلحة بن عبيد الله، أو مثل خالد بن الوليد، أو مثل أبي هريرة وهكذا، لكن أن يظهر كل هؤلاء في زمن واحد فهذا هو الأمر العجيب حقًا، والأمر الفريد حقًا، ولذلك فليس الغرض من هذه المجموعة من المحاضرات أن نسرد الأقوال والأفعال التي قام بها الصحابة، يعني: ليس مجرد سيرة ذاتية للصحابة، وكذلك ليس الغرض أن نتعرض إلى كل الأحداث التي مر بها الصحابة، ولكن الغرض أن نتعلم: كيف نقلد جيل الصحابة؟ كيف نكون كجيل الصحابة؟ كيف نسير في طريق الصحابة؟ كيف نصل إلى ما وصل إليه الصحابة، سواء في الدنيا أو في الآخرة؟ وقبل أن نتعلم كيفية وصول الصحابة إلى هذا المستوى الراقي، وكيف وصلوا إلى ما وصلوا إليه؟ وقبل أن نتعلم كيف يمكن أن نسير في طريقهم؟ أريد في هذه المحاضرة أن أتحدث عن قيمة هذا الجيل في ميزان الإسلام، وقيمة هذا الجيل في ميزان التاريخ، بل وقيمة هذا الجيل في ميزان الله ﷿، فهو الجيل الوحيد في الإسلام الذي تستطيع أن تعرف قيمته في ميزان الله ﷿؛ لأن هذا لا يتأتى ولا يمكن معرفته أبدًا على وجه اليقين إلا بإخبار من الله ﷿ في كتابه أو عن طريق رسوله الكريم ﷺ، أما عموم البشر بعد هذا الجيل فلا يمكن الجزم أبدًا بأن هذا الجيل جيل ثقيل في ميزان الله ﷿، أو يمكن أن نرجح أن هذا الإنسان إنسان فاضل أو إنسان يسير على طريق الهدى، لكن لا يمكن الجزم بأنه فعلًا على طريق الله ﷿؛ لأن التقييم الإلهي للفرد لا يعتمد فقط على ظاهر الأعمال التي نراها نحن بأعيننا، وإنما يعتمد أيضًا على القلب وعلى النوايا، وهذا ما لا يمكن للبشر أن يتيقنوا منه أبدًا، نعم قد يكون هناك شواهد تشير إلى فضائل الرجال والنساء، لكن هذا كما ذكرنا لا يمكن أن يكون على وجه اليقين، فنحن يمكن أن نرى رجلًا حسنًا من ظاهره، لكن من داخله مختلف تمامًا، ولا يعلم ذلك إلا الله ﷿.
لكن تعالوا نرى جيل الصحابة، وماذا قال الله عنهم، يقول الله ﷿ عن أصحاب بيعة الرضوان: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [الفتح:١٨] أي: أن الله قد رضي عنهم، وقضي الأمر وانتهى، ثم قال: ﴿إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح:١٨]، فهذه الآية لم تذكر في حق صحابي أو مجموعة صحابة، لا، بل ذكرت في حق ألف وأربعمائة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، واسمع إلى قوله ﷾: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:١١٧]، وهذه الآية قيلت في حق ثلاثين ألفًا من الصحابة الذين اشتركوا في غزوة تبوك، ولذا فمن المستحيل بالنسبة للأجيال التي تلت جيل الصحابة أن نصل إلى اليقين، وأن الله ﷿ قد تاب على إنسان بعينه، مهما بلغ ذلك الإنسان من العمل في الدنيا، فلا نستطيع أبدًا أن نجزم بخيريته عند الله، أو بمكانته عند الله، أو بدرجته في الجنة، أو بنجاته الحتمية من النار، من أجل هذا نستطيع أن نفهم المعنى اللطيف الذي زرعه الرسول ﷺ في صحابته، ففي
1 / 2
من أسباب رقي الصحابة: اختيار الله ﷿ لهم
السبب الأول: أن هذا الجيل جيل مختار من الله ﷿، أي: أن هؤلاء الصحابة بأعيانهم خلقوا ليكونوا أصحاب النبي ﷺ، فكان لازمًا أن يكون أبا بكر موجود ﵁، لأن له دورًا لا بد أن يقوم به، ولن يستطيع أن يقوم به غيره، وكذلك عمر يكون موجودًا، وعثمان وعلي وطلحة والزبير وبلال وخالد والسيدة خديجة والسيدة عائشة، فكل الصحابة لا بد أن يكونوا موجودين بأعيانهم، وكما يصطفي الله ﷿ رسله من الملائكة ومن البشر فكذلك يصطفي أصحاب رسله عليهم الصلاة والسلام: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [الحج:٧٥].
وتأمل إلى الله ﷾ وهو يتكلم على أصحاب عيسى ﵇ إذ يقول: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا﴾ [المائدة:١١١]، يعني: أن أصحاب عيسى ﵇ قد خاطبهم الله ﷿ عن طريق الإلهام أو الوحي غير المباشر، واختيار الله ﷿ لأصحاب رسله لا بد أن يكون ذلك بطريقة معينة، وهذه الطريقة قد تكون عسيرة وصعبة، كأصحاب موسى الذين اشتهروا بالشر والأذى وسوء الأدب، ومع ذلك يقول الله ﷿ عنهم في كتابه: ﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ﴾ [الدخان:٣٢ - ٣٣].
أما عن أصحاب رسول الله ﷺ فقد روى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت ﵁ وأرضاه قال: (فقد النبي ﷺ ليلة أصحابه -يعني: أن الصحابة فقدوا النبي ﷺ وكانوا إذا نزلوا أنزلوه أوسطهم) يعني: إذا كانوا في سفر وأرادوا النوم في ليلتهم تلك جعلوا رسول الله ﷺ في وسطهم؛ حماية له ﷺ، (فلما استيقظوا من نومهم في جوف الليل لم يجدوا رسول الله ﷺ، يقول عبادة بن الصامت: ففزعوا وظنوا -وانتبه لهذه الكلمات- أن الله ﵎ قد اختار له أصحابًا غيرهم، فإذا هم بخيال رسول الله ﷺ، فكبروا حين رأوه، قالوا: يا رسول الله أشفقنا أن يكون الله ﵎ اختار لك أصحابًا غيرنا، فقال رسول الله ﷺ: لا، بل أنتم أصحابي في الدنيا والآخرة).
فالصحابة مختارون؛ لأن على أكتافهم تبعة حمل هذا الدين كاملًا من فم رسول الله ﷺ إلى أهل الأرض أجمعين، وليس هناك بعد رسول الله ﷺ رسول، فماذا لو كان أصحابه يتصفون بكذب أو خيانة أو كسل أو فتور أو حب لدنيا وانغماس فيها؟! وماذا سيكون حال الأرض إلى يوم القيامة لو نقل إلينا الدين مشوهًا أو مغيرًا أو مبدلًا؟! ولذلك تحتم أن يختار الله ﷿ من البشر من يستمعون إلى رسول الله ﷺ بإنصات، ويستمعون إليه بإمعان وتقدير، ثم ينقلون هذا الذي استمعوه إلينا جميعًا، فيقيمون بذلك الحجة على أهل الأرض أجمعين، وإلا فكيف سيحاسب الله ﷿ أهل الأرض؟! وكيف سيحاسب من يأتي من البشر بعد رسول الله ﷺ وقد قال الله ﷿ في كتابه: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء:١٥].
إذًا: لا بد أن يوجد جيل يحمل الأمانة، ويحمِّل الأجيال التي تأتي من بعد رسول الله ﷺ هذه الأمانة، وكأن النبي ﷺ حيٌّ بينهم، وهذا هو السبب الأول الذي من أجله استحق أن يكون هذا الجيل جيلًا فريدًا، وهذا الجيل جيل غير متكرر، وهو جيل قد اختاره الله ﷿ بعناية لصحبة رسوله الكريم ﷺ.
1 / 3
من أسباب رقي الصحابة: مرورهم بتجربة فريدة من نوعها
السبب الثاني: أن هذا الجيل قد مر بتجربة فريدة تمامًا، فوجدت عنده خبرات لم يرها أحد من المسلمين وتعالوا لنرى تجربة هذا الجيل الفريد فيما يأتي:
1 / 4
رؤية الصحابة للنبي ﷺ وتعاملهم معه
أولًا: أنهم قد رأوا رسول الله ﷺ بأعينهم، واجتمعوا به وتعاملوا معه وصلوا خلفه، واستمعوا لحديثه، وهذا أمر عظيم في حد ذاته، فالمؤمن منا بعد جيل رسول الله صلى الله وإلى جيلنا الآن، بل وإلى يوم القيامة إذا رأى رسول الله صلى الله في المنام اعتبر ذلك حدثًا عظيمًا، وهو بالفعل كذلك، والرسول ﷺ يهتم جدًا بهذا الحدث، ففي البخاري عن أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: (من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي)، وأعظم من ذلك ما رواه البخاري أيضًا عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي)، وفي رواية: (فكأنما رآني في اليقظة)، وهذا أمر جميل جدًا، فما بالكم بمن كان يره بعينه وفي كل يوم وفي كل لحظة؟ وليس فقط في المنام بل في الحقيقة، وليس فقط ساعة أو ساعتين بل العمر كله.
وتخيل معي هذا الأمر: فلو أن إنسانًا وصف لك شخصًا آخر بأنه قد فعل فعلًا حميدًا في فلان، فإنك تحبه بمجرد ذلك الإخبار والوصف عنه، ويزرع في قلبك حب هذا الشخص، فماذا لو كان الفعل معك أنت شخصيًا؟! وأنا لا أقول لك: فلان عمل كذا وكذا مع فلان، بل أنت ذاتك مر عليك هذا الأمر، إذًا فكيف يكون حالك معه؟ فمثلًا: عندما تسمع أن النبي ﷺ كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، فهذا أمر يزرع المحبة له في قلبك، فما بالك لو أنت ذاتك كنت الذي تأخذ منه، وأنت الذي كان يعطيك ﷺ بنفسه؟! واسمع إلى قول عبد الله بن الحارث ﵁ وأرضاه كما عند الترمذي: ما رأيت أحدًا أكثر تبسمًا من رسول الله ﷺ.
فهذا الأمر عندما تعرفه تزرع محبته ﷺ في قلبك، فما بالك أيضًا لو أنك أنت الذي يبتسم الرسول ﷺ في وجهه، وأنت الذي ترى وجهه ﷺ وهو يبتسم إليك؟! وعندما أقول لك: إن الرسول ﵊ كان يعود المرضى ويشهد الجنائز، فما بالك لو كنت أنت المريض الذي يعودك ﷺ في بيتك؟! أو لك قريب مات فجاء صلى الله عليه سلم وشهد جنازة هذا القريب؟! فكيف تكون علاقتك مع رسول الله ﷺ؟ وكيف تكون درجة إيمانك به؟ وهذا غير النظر في وجه الرسول ﷺ، أما مجرد النظر إليه فله تأثير خاص جدًا، واسمعوا لكلام عبد الله بن سلام ﵁ وأرضاه عند الترمذي وقال: صحيح، قال: (فلما استثبت وجه رسول الله ﷺ عرفت أن وجهه هذا ليس بوجه كذاب)، يعني: مجرد رؤية وجه رسول الله ﷺ تترك في القلب أثرًا لا ينسى، وغير رؤية خاتم النبوة مثلًا، فكثير من الصحابة قد رأوا بأعينهم خاتم النبوة بين كتفيه ﷺ، ومنهم: سلمان الفارسي وعبد الله بن سرجس وعمرو بن أخطب وغيرهم كثير، فالذي رأى خاتم النبوة ترك في قلبه أثرًا لم يتركه من سمع فقط عن خاتم النبوة.
1 / 5
معايشة الصحابة الكرام للقرآن الكريم
ثانيًا: أنهم كانوا يعايشون القرآن، فنحن نقرأ القرآن ونسمع عن أسباب النزول، أما الصحابة فقد عاشوا أسباب النزول، ورأوا القرآن ينزل على رسول الله ﷺ في الحوادث المختلفة، وهذا لا شك أنه يرفع من درجات إيمانهم إلى أكبر درجة يمكن أن تتخيلها، وتأمل وتخيل معي تلك المرأة التي جاءت تجادل رسول الله ﷺ في أمر زوجها الذي ظاهر منها، وتخيل تفاعل هذه المرأة مع الآيات التي نزلت في حقها شخصيًا، وتخيل أنها تصلى بسورة المجادلة، أو تسمع سورة المجادلة، أو تقرأ سورة المجادلة: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾ [المجادلة:١]، إنه من المؤكد أن تفاعلها مع كل كلمة مختلف تمامًا عن تفاعل بقية المسلمين مع نفس الآيات، وتخيل أيضًا تفاعل زوجها أوس بن الصامت ﵁ وأرضاه مع الآيات، وتخيل وهو يستمع إلى التحذير الإلهي: ﴿الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ [المجادلة:٢]، وأكيد وهو يستمع إلى هذه الآيات غير أي واحد منا يستمع إليها، فهو عاش جوار هذه الآيات، وعايش الآيات حال حدوثها وحال نزولها، وتخيل تفاعل الجيران للسيدة خولة بنت ثعلبة ﵂ وأرضاه وهم يقرءون صدر سورة المجادلة وهم يعلمون أنها نزلت في جارتهم هذه بعينها، وتخيل تفاعل المجتمع المسلم بكامله مع هذه الآيات، فقد ورد أن خولة بنت ثعلبة كانت تمشي في الطريق فقابلها عمر بن الخطاب ﵁ وأرضاه مع أناس كثيرين معه، فاستوقفته السيدة خولة بنت ثعلبة فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها رأسه حتى قضت حاجتها وانصرفت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين حبست رجالات قريش بسبب هذه العجوز -وهو لا يعرفها- فقال: ويحك، أتدري من هذه؟ قال: لا، قال: هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة بنت ثعلبة، ووالله لو لم تنصرف حتى يأتي الليل ما انصرفت حتى تقضي حاجتها، فانظر تعظيم عمر بن الخطاب ﵁ لأمر هذه السيدة لمجرد نزول هذه الآيات فيها، وضع هذا المفهوم على كل آيات القرآن الكريم، فكل آيات القرآن قد نزلت في حوادث معينة أو في ظروف معينة أو في وقت معين.
وتخيل نفسك أيضًا وأنت تشارك في غزوة بدر، ثم تسمع سورة الأنفال بعد هذه المشاركة، من المؤكد أن إحساسك بالآيات سيكون مختلفًا تمامًا عن إحساس عامة المسلمين الذين يقرءون سورة الأنفال، ويتخيلون مجرد ما حدث للمسلمين في بدر، لكن الصحابة لم يكونوا يتخيلون ذلك؛ لأنهم بالفعل قد عايشوا التجربة بكاملها، فعايشوا غزوة بدر من أولها إلى آخرها: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ [الأنفال:١]، فتذكر الصحابي للذي حصل عند تقسيم الأنفال أو عند المشادة التي حدثت بينهم بأمر الأنفال مختلف تمامًا عن النصيحة بإصلاح ذات البين لمن لم يعش هذه التجربة بعينها: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾ [الأنفال:٧]، فالصحابي عندما يقرأ هذه الآيات يتذكر ويقول: نحن كنا نريد غير ذات الشوكة، كنا نريد القافلة، ولم نكن نريد الجيش، ومع ذلك أراد الله ﷿ أمرًا آخر، فيعيش مع كل كلمة من كلمات الله ﷿: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ﴾ [الأنفال:١١] والنعاس قد نزل على بعض صحابة رسول الله ﷺ في غزوة بدر، وتكرر ذلك في غزوة أحد كما قال الله ﷿: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا﴾ [آل عمران:١٥٤]، قال أبو طلحة الأنصاري: كنت ممن أصابه النعاس يوم أحد، ولقد سقط السيف من يدي مرارًا وآخذه، ولقد نظرت إليهم يميدون وهم تحت الحجف، والحجف جمع حجفة، وهي: الترس أو الدرع، لذا فسيدنا أبي طلحة الأنصاري عندما يقرأ هذه الآيات: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا﴾ [آل عمران:١٥٤]، ويكون هو من الناس الذين نزل عليهم النعاس في هذه الغزوة، فإنه يتفاعل مع ذلك تفاعلًا غير الناس الذين حوله، ويقول تعالى: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ [الأنفال:٤٤]، فهذه الآيات
1 / 6
رؤية الصحابة للنبي ﷺ عند إخباره بالغيب
ثالثًا: أن الصحابة رأوا إخبار رسول الله ﷺ بالغيب، ونحن أيضًا نسمع عن ذلك، ولكن ليس من رأى كمن سمع، فالذين يعيشون في الحدث ويتشوقون لمعرفة ما يحدث على بعد مئات أو آلاف الأميال، غير الذي يسمعه بعد مائة سنة أو مائتين أو ألف.
ولنتأمل الصحابة الكرام وهم واقفون في المدينة المنورة حول رسول الله ﷺ وهو يصف لهم ما يحدث في غزوة مؤتة على بعد مئات الأميال من المدينة المنورة، وهو يقول: (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر الراية فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة الراية فأصيب، وعيناه ﷺ تذرفان الدمع، ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ﷿ ففتح الله عليهم)، والمراد بسيف الله هو: خالد بن الوليد ﵁ وأرضاه، وبعد ذلك يرجع الجيش المسلم إلى المدينة، ويعرف المسلمون في المدينة المنورة أن كل كلمة قالها النبي ﷺ كانت كلمة صدق وحق، عند ذلك قدر ماذا يكون إيمان الصحابة بهذا الرسول وبهذا الدين؟ لا شك أنه عظيم جدًا، ونحن أيضًا نسمع فنصدق ونؤمن بذلك، لكن هم عاشوا إخبار رسول الله ﷺ بالغيب.
وتأملوا أيضًا عندما يأتي رسولا عامل كسرى إلى رسول الله ﷺ فيطلبان منه أن يذهب معهما إلى كسرى فارس، فيقول لهما النبي ﷺ: (إن ربي قد قتل ربكما هذه الليلة)، والكلام هذا كان في ليلة الثلاثاء في العاشر من جمادى الأولى للسنة السابعة للهجرة، ومرت مرت الأيام وعينوا الليلة، وعُلِم فعلًا أن كسرى فارس كان قد قُتِل في تلك الليلة، فنحن نسمع في هذا الوقت عن ذلك الحدث، لكن الصحابة عاشوا فيه، وانتظروا الأيام تمر حتى عرفوا أن كسرى فارس قد قُتل تلك الليلة المحدودة، وهذا أمر يرفع الإيمان العظيم في قلوب الصحابة.
والصحابة أيضًا شاهدوا المعجزات الحسية التي نسمع عنها في هذا الوقت، نعم القرآن أعظم معجزة بين أيدينا، لكن هم فوق ذلك شاهدوا مثلًا انشقاق القمر، وحُكي ذلك من روايات عدة، ففي البخاري وغيره عن جبير بن مطعم ﵁ قال: (انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ فصار فرقتين: فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فقالوا: سحرنا محمد، فقالوا: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فقالوا: انظروا السفار -يعني: الناس المسافرة التي تأتي من خارج مكة- فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق ﷺ، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به، فسألوا السفار وكانوا قد قدموا من كل جهة -يعني: أكثر من مكان- فقالوا: رأينا -أي: شاهدوا انشقاق القمر- فأنزل الله ﷿: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ [القمر:١]) وأنا أريدك أن تتخيل نفسك وأنت عايش مع النبي ﷺ في داخل مكة، وترى القمر ينشق إلى فرقتين، نصف على جبل ونصف آخر على جبل آخر، وهذا لا شك أنه يزرع إيمانًا عجيبًا وقويًا جدًا في قلوب الصحابة.
وشاهدوا أيضًا حنين جذع النخلة إلى رسول الله ﷺ، فعند أحمد عن ابن عباس ﵄: (أن النبي ﷺ كان يخطب إلى جذع، فلما صنع المنبر تحول إليه فحن الجذع -أي: صدر له صوت حنين وألم لفراق رسول الله ﷺ فأتاه الرسول ﷺ فاحتضنه فسكن، وقال ﷺ: لو لم احتضنه لحن إلى يوم القيامة)، وفي رواية جابر بن عبد الله يقول: (حتى سمعه) أي: سمع حنين الجذع (أهل المسجد)، فتخيل نفسك وأنت جالس في المسجد وقد سمعت بأذنيك حنين جذع النخلة لرسول الله ﷺ.
وشاهدوا كذلك البركة في الطعام والشراب والسلاح والصحة، وأمثلة كثيرة وعجيبة لا تحصى، ومن ذلك: موقف جابر بن عبد الله في الأحزاب، وذلك عندما رأى جابر بن عبد الله ﵁ وأرضاه جوعًا شديدًا برسول الله ﷺ، فدعاه سرًا ليأكل في بيته من طعام صنعه له، وكان قليلًا جدًا، حتى أن جابر بن عبد الله سماه طعيم، قال: (يا رسول الله عندي طعيم، تعال أنت واثنين أو ثلاثة من أصحابك، قال جابر بن عبد الله: فدعا رسول الله ﷺ أهل الخندق جميعًا -وتخيلوا أتى بكل أهل الخندق- فجاء من سمع النداء وكانوا قد تجاوزوا الألف -ألف شخص جاءوا إلى بيت جابر بن عبد الله - فأكلوا جمعيًا من الطعام وشبعوا -وهذه قصة مشهورة- وبقيت بُرمة الطعام ملأى بما فيها، حتى أن رسول الله ﷺ أمر زوجة جابر أن توزع على جيرانها)، فأنت تسمع هذه القصة في هذا الوقت والحمد لله مؤمن بها، لكن تخيل ن
1 / 7
تبشير النبي ﷺ للصحابة بالجنة
رابعًا: أن الصحابة بشروا بالجنة بأسمائهم، فالواحد منهم كان يمشي على الأرض وهو يعلم علم اليقين أنه من أهل الجنة، فكيف يصبر على الحياة؟! وهذا ليس فقط في حق العشرة المبشرين بالجنة، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن وأبو عبيدة وسعيد بن زيد، بل كثير من صحابته ﷺ بشروا بالجنة وهم أحياء، فمثلًا روى البخاري عن أبي هريرة ﵁ وأرضاه أن النبي ﷺ قال لـ بلال عند صلاة الفجر: (يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة) ودف نعليك، يعني: تحريك نعليك أو صوت نعليك في الجنة، قال بلال: ما عملت عملًا أرجى عندي من أني لم أتطهر طهورًا في ساعة ليل أو نهار -يعني: لم أتوضأ أي مرة- إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي، يعني: أن بلالًا كان يعيش في الدنيا وهو يعرف أنه من أهل الجنة، ولذلك من أجل هذا عند موته كانت زوجة بلال تبكي وتصرخ وتولول فقال لها: لماذا تبكين؟ غدًا ألقى الأحبة محمدًا وصحبه، وانظروا كيف حال بلال وهو مقبل على الموت! إنه إقبال بفرحة؛ لأنه على يقين أنه ذاهب إلى الجنة، فقد أخبر بذلك الصادق المصدوق ﷺ.
وهذا عبد الله بن مسعود ﵁ وأرضاه عندما رآه الصحابة وهو يصعد شجرة للإتيان بعود أراك أو تمر من نخلة على اختلاف في الروايات فضحك الصحابة من دقة ساقيه، فقال الرسول ﷺ: (والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أحد)، فتخيل عبد الله بن مسعود وكيف يكون حاله في الدنيا وهو عارف أنه أثقل في ميزان الله ﷿ من جبل أحد؟ وكذلك: الحسن والحسين ﵄، ففي الترمذي عن أبي سعيد الخدري ﵁ وأرضاه قال: قال رسول الله ﷺ: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)، وأيضًا هنا: كيف تكون قيمة الدنيا في عين الحسن أو الحسين وقد علما أنهما سيدا شباب أهل الجنة؟ وأيضًا: السيدة خديجة ﵂، ففي البخاري عن أبي هريرة ﵁ وأرضاه أنه قال: (جاء جبريل ﵇ إلى النبي ﷺ وقال له: اقرأ ﵍ -أي: اقرأ على خديجة السلام- من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب -والقصب هو: اللؤلؤ- لا صخب فيه ولا نصب)، أي: لا ضوضاء ولا تعب في هذا البيت، فالسيدة خديجة تعرف أنها من أهل الجنة، وليس فقط ذلك، بل إن ربها قد أقرأها السلام، ومن جبريل أيضًا، وبشرها بقصر في الجنة من لؤلؤ لا صخب فيه ولا نصب، إذًا فكيف يمكن أن تكون متعلقة بالدنيا! وكيف يمكن ألا تخشع في الصلاة! وكيف يمكن ألا تجاهد بمالها! وكيف يمكن ألا تشتاق إلى جنات الرحمن! وأيضًا عندما تحدث رسول الله ﷺ عن السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب قال له عكاشة بن محصن - عكاشة: بتشديد الكاف أو تخفيفها-: (ادع الله لي يا رسول الله أن يجعلني منهم، قال: اللهم اجعله منهم، فقام رجل آخر يطلب نفسه الطلب، فقال له رسول الله ﷺ: سبقك بها عكاشة)، لذلك نفهم كيف جاهد عكاشة حياته كلها، وجاهد كل حياته، وشهد مع رسول الله ﷺ المشاهد كلها، واستمر على ذلك بعد وفاة رسول الله ﷺ حتى استشهد في اليمامة في حرب المرتدين، وهو عارف أنه من أهل الجنة، فكيف يصبر على حياة الدنيا؟! وكل هذه التجارب نقلت الصحابة من المرتبة الإيمانية المسماة بعلم اليقين إلى المرتبة الإيمانية الأعلى المسماة بمرتبة عين اليقين: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾ [التكاثر:٥ - ٧]، وعلى كل فالصحابة كانوا يرون كل شيء بأعينهم، حتى أمور الغيب رأوا كثيرًا منها بأعينهم وقت رسول الله ﷺ.
1 / 8
من أسباب رقي الصحابة: تصريح النبي بخيريتهم
السبب الثالث: أن النبي ﷺ قد صرح بأن هذا الجيل هو خير الأجيال على الإطلاق، فقد روى البخاري ومسلم عن عمران بن حصين ﵁ وأرضاه أن رسول الله ﷺ قال: (إن خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) فهذه شهادة من رسول الله ﷺ، وقضي الأمر بذلك، قال عمران: فلا أدري أقال رسول الله ﷺ بعد قرنه مرتين أو ثلاثًا؟ يعني: هل قال: ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم مرتين أو ثلاث؟ لكن المهم أن خير الأجيال وخير الناس هو قرن رسول الله ﷺ، أو جيل رسول الله ﷺ.
وروى البخاري ومسلم أيضًا عن أبي هريرة ﵁ وأرضاه قال: قال رسول الله ﷺ: (لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، قالها مرتين، ثم قال: فوالذي نفسي بيده لو أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)، وتخيل لو أنك تملك ذهبًاَ كجبل أحد، ثم أنفقته كله في سبيل الله، فإن ذلك لا يساوي ما أنفقه الصحابي، وإن كان ما أنفقه كمقدار المد، أي: مد الكفين، وتخيل واحدًا من الصحابة ينفق ملء الكفين فقط يساوي قدر جبل أحد من الإنفاق، لأن لهم أجر السبق في الإسلام، فهم الذين علمونا الإنفاق، وهم الذين علمونا الجهاد في سبيل الله، وكيف يمكن أن نقهر النفس ونصرف الأموال في سبيل الله ﷿، وهذا يعطيهم الأجر العظيم والدرجة التي ذكرها رسول الله ﷺ بالتصريح أنهم خير الناس وخير القرون وخير الأجيال.
من كل ما سبق يتضح لنا أننا نتعامل في هذه المجموعة مع أرقى جيل في الوجود، مع الجيل الذي يصلح تمامًا أن يتخذ قدوة كما قال عبد الله بن مسعود ﵁ وأرضاه: من كان مستنًا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة.
يعني: نحن نرى أناسًا كثيرين وعظماء يعيشون بيننا، لكن الله أعلم بمن سيثبت منهم على الحق، ومن فيهم الذي سيغير ويبدل، لكن الذي قد مات علمنا أنه قد مات على الحق وبالذات جيل الصحابة، ثم قال عبد الله بن مسعود: أولئك أصحاب محمد ﷺ، كانوا أفضل هذه الأمة.
ولا أحد يقول: إن هذا يزكي أو يُعظِّم نفسه، لا، فهو يذكر حقيقة لا بد أن يعلمها كل المسلمين، وإذا علموها استفادوا منها استفادة جمة؛ لذلك وجب عليه أن يذكر بهذا الأمر، وكتمان هذه الحقيقة كتمان لعلم مهم جدًا، ألا وهو علم تقدير الصحابة وتعظيم الصحابة وتكريم هذا الجيل بأكمله؛ لأنهم جيل القدوة، ثم يقول عبد الله بن مسعود: أبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.
لذلك في هذه المجموعة سنجعل هدفنا إن شاء الله أن نتعلم كيف نكون مثل الصحابة؟ كيف أننا نريد أن نتعلم مثلهم؟ كيف أننا نكون مسلمين حق الإسلام؟ كيف نؤمن بالله ﷿ حق الإيمان؟ كيف نحب رسول الله ﷺ حق الحب؟ كيف نفهم هذا الدين حق الفهم؟ دراسة حياة الصحابة ﵃ وأرضاهم هي دراسة الإسلام، والسير في طريق الصحابة هو السير في طريق الجنة.
نسأل الله ﷿ أن يلحقنا بهم في أعلى عليين، في صحبة نبينا وحبيبنا محمد ﷺ: ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [غافر:٤٤].
وجزاكم الله خيرًا كثيرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1 / 9
سلسلة كن صحابيًا_القابضون على الجمر
جيل الصحابة جيل فريد عظيم، لا يمكن أبدًا أن يتكرر، فقد اصطفاه الله ﷿ لصحبة خير البشر وخاتم النبيين والمرسلين ﷺ، فهو الجيل الفريد الذي تربى على عينه ﷺ، ولا يعني هذا أننا لا نقتدي بهم أو نقلدهم، بل قد قال تعالى: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا).
2 / 1
شروط الصحابي في مصطلح الحديث
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فمع الدرس الثاني من مجموعة المحاضرات التي أطلقنا عليها اسم: كن صحابيًا، وقد تكلمنا في الدرس السابق عن جيل الصحابة، هذا الجيل العظيم الجليل الفريد، الذي كان وسامًا حقيقيًا على صدر البشرية، أولئك الذين اختارهم الله ﷿ لصحبة خاتم أنبيائه وأفضل رسله سيدنا محمد ﷺ، فكانوا له نعم المعين على أمور الدعوة، ونعم الجنود في كل الميادين، فحملوا الرسالة من بعده كما ينبغي أن تحمل تمامًا، وما فرطوا وما بدلوا وما غيروا، بل أناروا الأرض بنور الإسلام، وروت دماؤهم أطراف المعمورة لتعبيد الناس لرب العالمين، لا يريدون منهم جزاء ولا شكورًا، فجزاهم الله عنا وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ونسأل الله ﷿ أن يلحقنا بهم مع الحبيب المصطفى ﷺ في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
واليوم سنطرح سؤالًا قد يستغرب منه أناس كثيرون ألا وهو: هل أنت صحابي؟ في مصطلح أهل الحديث هذا مستحيل، لأن الصحابي أو الصحابية هو: رجل أو امرأة عاش في حقبة معينة من الزمان توافرت فيه أو فيها شروط معينة، وهذه الحقبة من الزمان مرت ولا يمكن أن تعود، فهذه الشروط من المستحيل أن تتوافر فينا.
وشروط الصحابي في مصطلح أهل الحديث هي: الشرط الأول: أن يكون قد رأى النبي ﷺ في حياته أو اجتمع به، يعني: أنه لابد أن يكون قد رآه بعينه، ولا يكفي أن يكون معاصرًا لرسول الله ﷺ، فيكون في بلد والرسول ﷺ في بلد آخر، ولذلك النجاشي رحمه الله تعالى ليس صحابيًا، مع أنه كان معاصرًا لرسول الله ﷺ، وقد آمن به في حياته لكن لم يره.
أما قولهم: (أو اجتمع به) يعني: حتى يدخل في ذلك من اجتمع برسول الله ولم يره لفقد نعمة البصر، كـ عبد الله بن أم مكتوم ﵁ وأرضاه، فقد اجتمع بالرسول لكنه لم يره؛ لأنه كان ضريرًا ﵁ وأرضاه.
الشرط الثاني: أن يكون قد آمن برسول الله ﷺ في حياته، ولا يكفي أن يكون معاصرًا له وقد ظل كافرًا سنوات طويلة إلى أن مات الرسول ﷺ، وبعد أن مات رسول الله ﷺ آمن الرجل، حينها لا يكون من الصحابة، وممكن أن يكون من التابعين الذين تعلموا على أيدي الصحابة.
الشرط الثالث: أن يكون قد آمن برسول الله ﷺ في حياته ورآه، ثم مات على هذا الإيمان، ولم يرتد وبقي على ردته.
فهذه الشروط الثلاثة لو تحققت في أي واحد سيصبح صحابيًا، والصحابة كثيرون جدًا، فقد بلغ عددهم أكثر من مائة ألف وأربعة عشر ألفًا، ونحن لسنا منهم؛ لأننا لم نعاصر رسول الله ﷺ ولم نره، ولم تمر بنا هذه التجربة كما ذكرناها في هذه الكلمات.
2 / 2
كيف تكون صحابيًا؟
إذا كان مستحيلًا في مصطلح أهل الحديث أن تكون صحابيًا، فكيف تكون صحابيًا في عقيدتك في إيمانك في أفكارك في فهمك لهذا الدين في طموحاتك وأهدافك في حميتك للإسلام في غيرتك على حرمات المسلمين، في التطبيق لكل صغيرة وكبيرة في هذا الدين؟ المقصود في هذه المجموعة أن نفقه الأسباب الحقيقية التي جعلت من الصحابة صحابة، فليس فضل الصحابة فقط أنهم عاصروا رسول الله ﷺ، وعاشوا معه في نفس الفترة الزمنية، فقد عاصره أبو جهل وأبو لهب والوليد بن المغيرة وعقبة بن أبي معيط وغيرهم من المشركين، وإنما يرجع فضل الصحابة إلى التزامهم بتعاليم هذا الدين التزامًا حرفيًا، واتباعهم لرسول الله ﷺ اتباعًا دقيقًا، وحبهم لهذا الشرع حبًا خالصًا صادقًا حقيقيًا.
والمقصود في هذه المجموعة أن نكون قومًا عمليين، لا أن يكون همنا فقط أننا نسمع الحكايات ونتندر بالروايات، وإنما همنا أن نصل إلى ما وصل إليه هؤلاء العمالقة أو قريبًا مما وصلوا إليه، هذا هو المقصود من كلمة: كن صحابيًا، وهذا هو المقصود من
السؤال
هل أنت صحابي؟ وقد قال لي أحد أصحابي شيئًا غريبًا جدًا، ولعل ذلك الشيء الغريب هذا هو سبب تحضير كل هذه المجموعة من المحاضرات، قال: إنني كلما قرأت قصص الصحابة أو استمعت إليها أصابني اليأس والإحباط.
فقلت: سبحان الله! هذا عكس المراد تمامًا، فنحن نقرأ سير الصحابة والصالحين لكي نتحمس للعمل ولكي ننشط عند الفتور، ثم قلت له: لماذا تشعر بهذا الإحساس؟ قال: لأنني كلما قرأت عن الصحابة وجدت لهم أعمالًا يستحيل علينا فعلها، ووجدت إصرارًا على الجهاد، ووجدت ثباتًا على الإيمان، ووجدت عزيمة على الصيام والقيام والبذل والعطاء، ووجدت مواصلة لأعمال البر والخير، ليلًا ونهارًا وصيفًا وشتاءً، ليس هناك فرق بين مرحلة الطفولة ومرحلة الشباب ومرحلة الكهولة أو الشيخوخة، فالجهد كله لله ﷿، والمال كله في سبيل الله، والفكر كله في سبيل الله، وتستطيع أن تقول: الحياة كلها في سبيل الله، فعندما أجد ذلك أشعر بضعفي الشديد وبُعدي عن طريقهم، فيسيطر عليَّ الإحباط واليأس.
انتهى كلام صاحبي هذا.
فقلت له: والله أنا معك في نصف كلامك وأتفق معك فيه تمامًا، وأما النصف الثاني فأنا أختلف معك فيه اختلافًا جذريًا، فكما تقول: إن الصحابة جيل فريد، وحياة عجيبة، وعطاء ما انقطع لحظة، ولذلك فقيمته عالية وغالية جدًا، ويكفي أن تسمع إلى قول الله ﷿ وهو يقول في حق المهاجرين والأنصار: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة:١٠٠]، وانتبه فالله ﷿ لم يذكر شرط الإحسان في عمل الصحابة، وإنما شرط الإحسان في التابعين لهم، فقال: ﴿وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [التوبة:١٠٠]؛ لأن الصحابة كلهم قد عملوا بإحسان، وهذا معلوم ضمنًا من حال الصحابة، فتأمل الدرجة كيف هي عالية وغالية عند الله ﷾ وعند الرسول وعند كل المؤمنين، وهذا هو الذي أتفق فيه معك، لكن ما أختلف فيه معك هو الشعور بالإحباط واليأس عند سماع هذه الحكايات وعند قراءة هذه السيرة، فبدلًا من الإحباط واليأس هناك شيء أفضل من ذلك، ألا وهو أن نشغل أنفسنا بمعرفة كيف سبق السابقون؟ وكيف اللحاق بهم؟ والمسألة بالعقل، وتعالوا لنُفكر معًا، فنقول: ما دام أن الصحابة قد ساروا في طريق معروف وواضح، وهذا الطريق موصوف لنا كما وصف لهم، وذلك في كتاب الله ﷿ وفي سنة رسوله الكريم ﷺ، إذًا فالتعرف على الطريق والسير فيه يضمن لنا أن نصل إلى ما وصلوا إليه، والمثال يوضح ذلك: فلو قلت لك: امش في هذا الطريق ولا تتجه يمينًا ولا يسارًا، وستجد نفسك في الإسكندرية، طريق مستقيم من هذه النقطة إلى تلك النقطة، وأي واحد سيسلكه سيوصله إلى الإسكندرية، وكذلك الصحابي مشى في الطريق ولم يتجه يمينًا ولا يسارًا، حتى وصل إلى ما كان يريد أن يصل إليه، والذي منا سيمشي في نفس الطريق من غير أن يتجه يمينًا ولا شمالًا سيصل إلى نفس الذي وصل إليه الصحابة، ولذلك فإن المشكلة أننا كثيرًا ما نتجه يمينًا ويسارًا، فمرة تريد أن تستكشف طرقًا جانبية فتبتعد عن الطريق المستقيم، ومرة تفكر أنك أذكى من الشرع تستطيع أن تأخذ طرقًا مختصرة لتصل سريعًا، بينما الأصل أن الطريق المستقيم هو أقصر الطرق، وطريق الشرع هو دائمًا الطريق المستقيم من غير يمين ولا شمال، وانظر إلى ربنا وهو يقول: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة:٦]، تقولها سبع عشرة مرة على الأقل كل يوم في صلاتك، وذلك حتى تتربى وتتعلم.
ويقول الله تعالى: «
2 / 3
أسباب الإحباط واليأس من إمكانية تقليد الصحابة
نريد أن نقف وقفة تحليلية حول الإحباط واليأس عند سماع قصص الصحابة، أقول: لا داعي للإحباط ولنكن عمليين، ولنبحث عن أسباب الإحباط لكي نعالج المسألة علاجًا متكاملًا، والحقيقة أنني قد وجدت بعض الأسباب التي أورثت في اعتقاد كثير من المسلمين أنه يصعب عليه جدًا تقليد الصحابة، وهذه الأسباب تتلخص فيما يلي:
2 / 4
عدم وجود النبي ﷺ بيننا
أولًا: عدم وجود النبي ﷺ بيننا؛ لأنه هو الذي ربى الصحابة، وعليه فغير ممكن أن نكون مثل الصحابة، وهنا سأسألك سؤالًا في غاية الأهمية: هل وجود الرسول ﷺ حتمي للدلالة على الطريق الصحيح؟ أي: هل من أجل أن نعرف الطريق الذي يريد الله ﷿ منا أن نمشي فيه أن يكون الرسول بيننا؟ إذا كان حتميًا فلا أمل في الوصول؛ لأنه ﷺ قد مات ولن يعود إلى يوم القيامة، وإذا لم يكن حتميًا فهناك أمل في أن نصل إلى ما وصل إليه الصحابة، وتعالوا بنا لنرد على هذا السؤال بهدوء، ونرى ما هي الإجابة عليه؟ بداية لا ينكر أحد أهمية وجود النبي ﷺ في هذا الجيل الأول، بل لا يكون هناك دين من غير رسول الله ﷺ؛ لأن الرسول ﷺ هو الذي كان يتلقى عن رب العالمين ﷾، ثم إنه كان القدوة الكاملة الحسنة في كل شيء لكل المؤمنين، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ﴾ [الأحزاب:٢١]، واسأل نفسك الآن؟ هل اختفت القدوة النبوية من حياتنا بعد وفاة رسول الله ﷺ؟ أبدًا، فما زالت سنته وطريقته وكلماته حية بين أظهرنا، وستظل حية إن شاء الله إلى يوم القيامة، وقد أنكر الله بشدة على أولئك الذين فتروا عن العمل، عندما غاب عنهم رسول الله ﷺ، يقول سبحانه تعليقًا على غزوة أحد: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران:١٤٤]، فهذه الآية نزلت عندما أشيع يوم أحد أن رسول الله ﷺ قد قتل، وعند ذلك أحبط بعض الصحابة فجلسوا في أرض القتال، وفقدوا كل حمية للقتال، وفقدوا كل رغبة في النصر، وكل أمل في الحياة، والحياة بالنسبة للصحابة في الأرض ولو ساعة واحدة مع الرسول ﷺ أفضل من الخلود في الأرض بغير رسول الله ﷺ، فكانت مصيبة كبيرة جدًا فقدان الرسول ﷺ، وكانت المصيبة على الصحابة أشق بكثير من المصيبة علينا؛ لأنهم عاشوا مع رسول الله ﷺ، فخالطوه وتعاملوا معه وصلوا خلفه واستمعوا لحديثه، عاشوا حياة كاملة مع رسول الله ﷺ، ثم بعد ذلك قيل: قد قتل ﷺ، إنها مصيبة عظيمة جدًا، ومع عظم هذه المصيبة لم يعذرهم ربهم ﷾ في عدم العمل بنفس الحمية حتى مع المصيبة الثقيلة، واعتبر أن ما فعله هؤلاء الصحابة كان قصورًا في الفهم يستحقون عليه اللوم الشديد والتهديد المرعب، فقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا﴾ [آل عمران:١٤٤].
وعلى العكس من ذلك تمامًا، فهذا الصحابي الجليل ثابت بن الدحداح ﵁ وأرضاه عندما مر على هؤلاء الذين قعدوا بعد إشاعة مقتل رسول الله ﷺ فقال لهم: إن كان محمد ﷺ قد قتل، فإن الله حي لا يموت، فقوموا وقاتلوا على دينكم فإن الله مظفركم وناصركم، ثم قاتل ﵁ وأرضاه حتى استشهد، فـ ثابت بن الدحداح ﵁ وأرضاه رجل مؤمن، ورجل واقعي يتعامل مع الواقع الذي يعيشه بكل ظروفه وملابساته، فيعمل في وجود رسول الله ﷺ وفي غيابه، ويتأقلم بسرعة مع الأحداث فيعمل بكل طاقته فيها، وليس هناك أمر تتمناه مستحيل الحدوث، وليس هناك معنى لكلمة (لو) في حياة المسلم، فيقول أحدهم: والله لو كنت في زمان رسول الله ﷺ لفعلت كذا وكذا، ولكن قدر الله وما شاء فعل، فأنا لست صحابيًا، لذلك لن أستطيع أن أعمل مثل الصحابة.
هذا وهم، (فإن لو تفتح عمل الشيطان) كما جاء عنه ﷺ في صحيح مسلم، ثم ما أدراك أنك إذا كنت في زمن النبي ﷺ أنك تتبعه؟ فقد كان هناك آلاف من المشركين الذين كانوا معاصرين للنبي ﷺ، ومع ذلك حاربوه ﵊، وكذلك فقد كان هناك آلاف من المنافقين عاشوا في المدينة، وصلوا في مسجد رسول الله ﷺ خلفه مباشرة، ومع ذلك ما آمنوا به.
أيضًا ما أدراك أنك كنت ستتغلب على فتنة ترك دين الآباء، وفتنة اتباع نبي من قبيلة أخرى، وفتنة المحاربة من أهل الأرض أجمعين، وفتنة التعذيب والتجويع والهجرة؟ اعلم أن ما اختاره الله ﷿ لك هو الأفضل، لذا لا يُقبل من المسلم أن يتعلل بغياب رسول الله ﷺ في أنه لا يفعل مثل الصحابة، بل يكون حاله وفهمه كفهم ثابت بن الدحداح ﵁ وأرضاه، وأعظم منه كان موقف أبي بكر
2 / 5
رفع الرسول ﷺ والصحابة فوق دائرة البشرية
السبب الثاني: الخروج بالصحابة عن دائرة البشرية، فالناس تعتقد أنهم طراز مختلف من البشر، وخلق آخر ليست لهم النوازع الإنسانية المزروعة داخل نفوسهم، وهذا كلام ليس بصحيح، ودعنا لنتأمل في حقيقة الصحابي، بل في حقيقة رسول الله ﷺ، فهو نفسه بشر كبقية البشر، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتزوج وينجب ويحب ويكره ويفرح ويحزن ويتألم، فهو بشر بنص كلام الله ﷿ في أكثر من موضع في القرآن الكريم: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ [الكهف:١١٠]، فهو مثلنا تمامًا، وإنما يختلف عنا ﵊ في أنه يوحى إليه، فالرسول بشر نزل عليه الوحي، ﴿يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ﴾ [الكهف:١١٠]، ماذا يعمل؟ ما هو الطريق؟ ﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف:١١٠]، فلا تنشغل عن العمل بأي أعذار، ولا تقل: الرسول رسول ولن أستطيع أن أقلده، لا، فالرسول بشر مثلنا، وهذه لحكمة ظاهرة هي حتى نستطيع أن نقلده، ولو كان غير بشر لكان عندنا عذر في أننا لا نستطيع أن نقلده؛ لذلك ﷾ لم ينزل علينا ملكًا بالرسالة، ولو قام ملك بالشرائع لقال الناس: إنما يستطيع ذلك؛ لأنه ملك، بينما نحن لا نستطيعه، وإذا امتنع الملك عن المعاصي قالوا: إنما يمتنع؛ لأنه ملك، بينما نحن لا نستطيع؛ لذلك لابد أن يكون الرسول من جنس من يرسل إليهم، قال تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا﴾ [الإسراء:٩٥]، فالأرض ليس عليها ملائكة وإنما عليها بشر، لذلك كان الرسول بشرًا؛ لكي نستطيع أن نقلده، وليس من المعقول أن نضيع الحكمة من كون الرسول ﷺ بشرًا فلا نقلده، بزعم أنه رسول ونحن غير مرسلين، فإذا كان هذا الكلام يصح مع رسول الله ﷺ فمن باب أولى يصح مع الصحابة الكرام، وإذا كان الرسول ﷺ بشرًا وجب تقليده واتباعه، فعلم يقينًا أن الله ﷿ ما أوجب شيئًا إلا وكنا عليه قادرين.
إذًا: أليس اتباع الصحابة بعد فهم هذه الحقيقة أمرًا ممكنًا؟ فالصحابة بشر لهم أجساد كأجسادنا، ولهم فطرة كفطرتنا، ولهم غرائز كغرائزنا، ولهم احتياجات كاحتياجاتنا، ومع كل هذه الأمور البشرية والنوازع الإنسانية إلا أنهم قهروا أنفسهم على اتباع الحق وإن كان مرًا، وعلى السير في طريق الله ﷿ وإن كان صعبًا أو وعرًا، وليس معنى ذلك أن أقول كما يقول أولئك الذي قلَّ أدبهم، وانعدم حياؤهم، فقالوا: الصحابة رجال ونحن رجال، وسوغوا لأنفسهم بذلك الطعن في الصحابة وانتقاص بعضهم، أبدًا، فليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود عكس ذلك بالضبط، فنقول: هم أعظم البشر مطلقًا بعد الأنبياء، وكونهم أعظم البشر لا يلغي ذلك بشريتهم ولا يقلل من شأنهم، وإنما العكس، فيرفع جدًا من قيمتهم؛ لأنهم انتصروا على أنفسهم في امتحان عسير ما استطاعت السماوات والأرض والجبال أن يدخلن فيه أصلًا، فحملوا الأمانة التي تبرأت منها السماوات والأرض والجبال، فتقليدهم ممكن، بل وضروري جدًا؛ لأنهم بشر نجحوا في امتحان وضعه الله ﷿، وهو أعلم بقدرات البشر، ومع ذلك فأنا لا أدعي أننا سنكون مثل أبي بكر وعمر ﵄، وإنما أقول: إنما يجب أن نتخذهم قدوات عملية، قدوات صالحة، وإننا نستطيع بإمكانياتنا البشرية وبمنهج الإسلام الواضح أن نسير في نفس الطريق الذي ساروا فيه، ونصل بإذن الله إلى ما وصلوا إليه، وهذا إذا كنا نريد أن نمشي في هذا الطريق فعلًا.
إذًا: السبب الثاني في إحساس بعض المسلمين أن تقليد الصحابة عسير: هو نسيان هؤلاء المسلمين أن الصحابة بشر لهم كل طبائع البشر، وليسوا خلقًا خاصًا، فليسو جنًا ولا ملائكة، وإنما هم بشر نجحوا في حمل الأمانة.
وقبل أن أترك هذه النقطة أحب أن أشير إشارة سريعة، ألا وهي أن بعض الدعاة يساهمون في هذه المشكلة بذكرهم مبالغات شديدة في حق الصحابة، وهذه المبالغات إما أن تكون غير صحيحة أصلًا، ومن باب أولى ألا تذكر هذه المبالغات مطلقًا، وإنما يذكر الصحيح في حق الصحابة والحمد لله يكفي، والصحابة الكرام ليسوا محتاجين إلى المبالغة لكي نعظمهم، فهم عظماء بأحوالهم الحقيقية، فمثلًا: بعض الدعاة يذكر أن سيدنا خالد بن الوليد ﵁ قُدِّم له كوب فيه سم عن طريق أحد أعدائه، وحتى يثبت لعدوه أن الله ﷿ لا يضر مع اسمه شيء، قال: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء، وشرب السم ولم يحصل له شيء، سبحان الله! هذه الرواية غير صحيحة، بل هي مخالفة للسنة؛ لأنه يجب على سيدنا خالد بن الوليد أن يأخذ بالأسباب، ولا ينفع أن يشرب السم ويطلب النجاة، والرسول ﷺ لما أكل من الشاة المسمومة وأخبر أنها مس
2 / 6
النظر إلى إمكانيات الصحابة على أنها إمكانيات رجل واحد
السبب الثالث: أنهم ينظرون إلى إمكانيات جيل الصحابة بأكمله على أنها إمكانيات رجل واحد أو امرأة واحدة منهم، وهذا ليس بصحيح، صحيح أن الصحابي أو الصحابية شخصية متكاملة؛ لكنه لم يكن متفوقًا في كل المجالات بدرجة واحدة، وإنما كان يبرز في مجال ويتفوق عليه غيره في مجال آخر، فهناك من تفوق في جانب الجهاد كـ خالد بن الوليد ﵁ والقعقاع بن عمرو التميمي والزبير بن العوام ﵃ أجمعين، فكانت عبقريات عسكرية فذة، لكن في نفس الوقت كان خالد بن الوليد ﵁ لا يحفظ من القرآن كثيرًا، فكان إذا صلى بالناس أخطأ في القراءة، فكان يلتفت إلى الناس بعد الصلاة ويعتذر منهم ويقول: إنما شغلت عن القرآن بالجهاد، لكن تعال للقرآن وعلوم القرآن تجد زيد بن ثابت وأبي بن كعب وأبا موسى الأشعري علماء أفذاذًا ﵃، لكن تفوقهم في المجال العسكري غير بارز.
وتعالوا لننظر مجال الأحاديث وحفظها، وطلب العلم ونقله، تجد أبا هريرة أسطورة علمية ومكتبة حافظة وكمبيوتر متحرك، لكن في مجال الإفتاء والأحكام الشرعية تجد غيره أبرز منه، فتجد عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب.
وتعالوا لننظر مجال الإنفاق، فـ أبو بكر الصديق وإن كان أبو بكر الصديق قد تفوق في كل المجالات، كذلك تجد عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف.
وتعالوا لننظر أيضًا في الإدارة تجد عمر بن الخطاب، وفي إدارة الأمور تجد معاوية ﵁، فكل واحد متفوق في شيء، وكل واحد بارز في شيء، ونحن أيضًا منا من ينفق في سبيل الله ببساطة وبسرعة، ولكن حظه من العلم قليل، وواحد خطيب مفوه، لكن ليست له في السياسة خبرة، وواحد بارع في علوم القرآن، لكن ليس بارزًا جدًا في القضاء، فهناك إمكانيات مختلفة في مواهب مختلفة، وحصيلة علمية مختلفة، وتربية مختلفة، توجد ثغرات كثيرة جدًا، ونحن محتاجون لكل هذه المواهب لسد كل هذه الثغرات، وعليه عندما تنظر إلى جيل الصحابة بهذه الصورة فإنك وإن كنت ستتخذ كل الجيل بصفة عامة قدوة، إلا أنك ستتخذ من بينهم قدوة خاصة في المجال الذي أنت بارز فيه، فلو أنك قائد في الجيش سيكون قدوتك خالدًا، ولو أنك إداري سيكون قدوتك عمر وهكذا، وبذلك يصعب تسلل الإحباط إلى قلبك.
2 / 7
إغفال أخطاء الصحابة
السبب الرابع والأخير وإن كان هناك سبب خامس، لكن إن شاء الله سنتكلم عنه في الدرس القادم: أن كثيرًا من الدعاة والعلماء يغفل عمدًا أخطاء الصحابة؛ لأنه يخاف على اهتزاز صورة الصحابة، فلا يتحدث عن ذنوبهم ولا يتحدث عن اجتهاداتهم التي تخطئ أحيانًا، أو يحاول أن يتعسف في إيجاد المبرر للخطأ، وهذا كله غير صحيح وغير حكيم، وهذا كله لمحاولة إلغاء بشرية الصحابة، ولا يعيب الصحابة مطلقًا أن نتحدث عن بعض أخطائهم، أو عن بعض الهفوات في حياتهم، وكفى بالمرء خيرًا أن تعد معايبه.
فقد كانوا سريعي العودة إلى الله ﷿، وسريعي التوبة من ذنوبهم، ومع ذلك انتبهوا معي فعند ذِكْرِ هذه الأخطاء يجب أن يراعى الأدب الكامل والاحترام العظيم لمقام أولئك الأخيار، فهذه سيئات تذوب في بحار حسناتهم، وإن شاء الله سنفرد في هذه المجموعة محاضرة خاصة بعنوان: (الصحابة والتوبة) وسنتكلم فيها بالتفصيل عن هذا الموضوع، وفي مجموعة كاملة تكلمنا فيها عن الرسول ﷺ وأخطاء المؤمنين، ويمكن أن تعودوا لها لو أردتم أن تتعمقوا في هذا الموضوع.
إذًا: فهذه أربعة أسباب، واحتمال أن هناك غيرها أدت إلى إحباط بعض المسلمين من سماع قصص الصحابة المثالية، وخلصنا إلى أن تقليد الصحابة ليس فقط أمرًا ممكنًا، ولكنه أمر مطلوب شرعًا، ومن هنا كانت هذه المجموعة بعنوان: كن صحابيًا.
وهذا المعنى إذا سئلت: هل أنت صحابي، تستطيع أن تقول: نعم، أنا صحابي في الفهم، صحابي في الجهاد، صحابي في التوبة، صحابي في الأخوة وهكذا، ونستطيع بعد ذلك أن نقرأ قصص الصحابة بفكر جديد، وبفكر البحث عن الطريق الذي وصل بالصحابي إلى هذه الدرجة العالية، وفكر الاجتهاد الحقيقي المخلص في السير في نفس الطريق الذي سار فيه الصحابة.
2 / 8
غربة الدين
قبل أن أختم هذه المحاضرة أحب أن أنقل إليكم حديثين رائعين لرسول الله ﷺ، وكل أحاديثه ﷺ رائعة.
الحديث الأول: روى الإمام مسلم عن أبي هريرة ﵁ وأرضاه أنه قال: قال رسول الله ﷺ: (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء)، ففي الحديث يكشف لنا الرسول الله ﷺ عن واقعنا الذي نعيش فيه الآن، فكما كان أهل مكة والعرب بصفة عامة والعالم أجمع يستغرب الرسالة الإسلامية عند نزولها، ويستنكر تعاليمها، ويحشد كل الجنود لحرب هذه الدعوة عادت الأيام كما كانت الآن، وأصبح عموم الناس الآن يستغرب التعاليم الإسلامية، وأصبح الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر غريبًا وسط الناس، والذي يقول: لا داعي أن نبيع الخمر يكون غريبًا، والذي يقول: الربا حرام يكون غريبًا، والذي يقول: العري في الأفلام والمسرحيات والإعلانات وغيرها حرام يكون غريبًا، والذي يقول: فلسطين كلها ترجع للمسلمين يكون غريبًا أمام الناس فرجع الإسلام فعلًا غريبًا كما بدأ، لكن البشارة: (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدا، فطوبى للغرباء)، أي: سيكون هناك غرباء مثل الصحابة، يكافحون ككفاحهم، ويجاهدون كجهادهم، ويدعون إلى الله ﷿ كدعوتهم، فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويحبون الدين كحبهم له، ويحبون سنة الرسول ﷺ لحبهم لسنة النبي ﷺ؛ لأن هذا دين ربنا ﷾، وهو الذي يسخر أناسًا يدافعون عن دينه ويحملون الأمانة.
وفي رواية عند الترمذي عن عمرو بن عوف ﵁ وأرضاه هناك زيادة لطيفة جدًا سأله الصحابة-: (من الغرباء؟ قال: الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي)، فلماذا لا نكون نحن من هؤلاء الغرباء؟ لو صرنا من الغرباء الذي يصلحون ما أفسد الناس من سنة رسول الله ﷺ سنصبح مثل الصحابة، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت:٦٩].
2 / 9
أيام الصبر على الدين
الحديث الثاني: روى الترمذي وأبو داود عن أبي ثعلبة الخشني ﵁ وأرضاه، وهو حديث طويل جاء في آخره كلام عجيب لرسول الله ﷺ، يقول النبي ﷺ: (فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر)، فصعب جدًا أن تتمسك بدينك وكأنك تمسك في يديك جمرة ملتهبة، لكن انتبه وانظر إلى بقية الحديث، يقول ﷺ: (للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عملكم)، أي: أجر خمسين رجلًا يعملون مثل أعمال الصحابة؛ لذلك استغرب الصحابة فقالوا: (يا رسول الله أجر خمسين رجلًا منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين رجلًا منكم)، فالذي يتمسك بدينه الآن له أجر خمسين من الصحابة، وعليه فلا يوجد هناك أناس محبطة من أنها تقلد صحابيًا؛ لأن عندها فرصة لأن تكون مثل خمسين صحابيًا، ولا يستغرب أحد، فالله ﷿ عادل لا يظلم مثقال ذرة، وفوق ذلك هو الكريم ﷾، ففرق كبير جدًا بين الصحابي الذي يعيش في معسكر إيماني كامل، كلما سار في اتجاه رأى مؤمنًا، بل يرى رجالًا الواحد منهم يوزن بأمة كاملة، فإذا سار هنا رأى الصديق والفاروق وعثمان وعليًا، وإذا سار هناك رأى أبا عبيدة وسعدًا والزبير، وإذا دخل المسجد وجد سعد بن معاذ وعبد الله بن مسعود، وإذا حضر درس علم سمعه من فم رسول الله ﷺ، وجلس فيه إلى جواره أبو هريرة ومعاذ بن جبل وأنس بن مالك، ويصلي الجماعة مع أبي ذر وأبي الدرداء، ويسمع الأذان من بلال، وإذا جاهدت جاهد تحت قيادة خالد بن الوليد، وإذا سافر سافر مع أبي موسى الأشعري.
أما الآن فهو يعيش في مجتمع لا يجد فيه على الخير أعوانًا إلا القليل، ومع ذلك يصبر على طاعة ربه، ويصبر على الدعوة، ويصبر على الإسلام صبرًا كأنه يقبض على الجمر، نعم والله تمامًا كما وصف رسول الله ﷺ، وقارن بين الصحابي الذي يعيش في مجتمع قلما تقع فيه عينه على معصية، وقلما يسمع منكرًا، وبين هذا الذي يطيع ربه ويقبض على دينه في مجتمع تقتحم فيه المعاصي عينيه اقتحامًا، فيمشي في الشارع فيجد المعاصي، ويفتح التلفاز فيجد المعاصي، وينظر على الجدران في الشوارع فيجد المعاصي، ويدخل الجامعة والمستشفى، بل ويذهب للعزاء فيجد المعاصي، وفي كل مكان يجد المعاصي، وليس هناك اعتبار لعلم ولا لمرض ولا للموت.
إذًا: عند هذه المعاصي أنت تقبض على دينك كما تقبض على الجمر، وعلى قدر ما كان رسول الله ﷺ يبجل ويعظم ويقدر من يعمل حسنة أو فضيلة، فنحن في هذا الزمان على قدر هذا الأمر يحارب الدعاة، على قدر هذا الأمر هناك إهانة وتشريد وتعذيب للدعاة؛ من أجل أنهم أمروا بالذي كان يأمر به رسول الله ﷺ: ﴿أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ﴾ [النمل:٥٦]، ما هي الجريمة؟ ﴿إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [النمل:٥٦]، فهذه هي مشكلة أهل الخير في زماننا، فعلى قدر ما كان الرسول ﷺ يعظم الصحابي إذا عمل خيرًا، على قدر ما الداعية في هذا الزمان يحارب ويطارد، ولذا عندما تضع كل هذه الملابسات والظروف في ذهنك، وأنت تعلم أن الله ﷿ عادل لا يظلم مثقال ذرة تستطيع أن تفهم بشارة رسول الله ﷺ: (للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلًا ويعملون مثل عملكم، فقالوا: منا أو منهم يا رسول الله؟ قال: بل أجر خمسين رجلًا منكم).
إن هذه المجموعة من المحاضرات غرضها أن نكون من هؤلاء القابضين على الجمر، من هؤلاء الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنة رسول الله ﷺ، من هؤلاء الغرباء الذين لا يعتبرون بنظر الناس إليهم، وإنما فقط يعتبرون بنظر الله ﷿ لهم، من هؤلاء الذين يحلمون أن يكونوا صحابة، بل من أولئك الذين إذا عملوا أجروا، ليس فقط كأجر صحابي، بل كأجر خمسين من الصحابة.
نسأل الله ﷿ أن نكون منهم، وأن يجمع بيننا وبين حبيبنا وقائدنا وقدوتنا رسول الله ﷺ وصحابته الكرام، إن الله ﷿ على كل شيء قدير.
﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [غافر:٤٤].
وجزاكم الله خيرًا كثيرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
2 / 10
سلسلة كن صحابيًا_صناعة الرجال
إن من معجزات الإسلام العظمى أنه أخرج لنا رجالًا سادوا البلاد والعباد، فبنوا لنا حضارة ما عرف التاريخ مثلها، واختفت عندهم الذلة والسلبية، والأنانية والغلظة، وحقارة الأهداف وتفاهة الطموح، وأصبح الواحد منهم يوزن بأمة بأجمعها، وكان الفوز والفلاح باتباع أثر هؤلاء الرجال، والوصول إلى ما وصلوا إليه.
3 / 1