قال «الشيخ علي»: ونفرت دموع هذه المرأة تخفف من يأسها، وإنه ليأس أكبر مما تحتمل نفسها من الصبر لو أنه من وجه ذلك الزوج وحده، فكيف به ومع ذلك الوجه شبابها الهالك، وآمالها الضائعة، وغصة من شماتة الناس وازدرائهم، وبلاء من نعمة سابغة ستنقلب فضيحة وسخرية؟
واها لك أيتها المسكينة! إن مصيبة الأغنياء لتكشف نفسها فهم يحملونها ويحملون آراء الناس فيها، وإن المصيبة لتكون واحدة ولكنها ترتد إليهم من قلوب الشامتين من أعدائهم والمتربصين من حسادهم والمتوجعين من سائر الناس، وكأنها مصائب كثيرة لا تعد.
والمرء لا يأخذ من الله بشرط ولا يعطيه الله على شرط؛ فإن كان في الغنى تلك النعمة ففي الغنى هذا الهم، وما رأيت أيسر اضطرابا من الماء الراكد قذف بحجر، إلا الغني الغافل قذف بمصيبة!
ويحكم أيها الأغنياء! متى رأيتم ثمرة لا تسقط أبدا من غصنها الأخضر، وثمرة تسقط من الغصن ثم ترد إليه فتعلق به وتنضج عليه، فاعلموا يومئذ أن غناكم هذا نعيم لا رزيئة فيه ولا مصيبة؛ لأن هذا الكون حينئذ يكون فوضى لا نظام له ولا قرار. •••
وانصدع الفجر، وأقبلت الحياة تتنفس من مباسم الأزهار، وتتغنى بألسن الأطيار، والفتاة موجسة أن ترى طلعة شيخها، وكأن هذه الطلعة صبح غير الصبح، وودت لو وقف الزمن، فإن لم يمكن فوقوف الأرض، فإن لم يمكن فوقوف قلب هذا الشيخ، وخيل إليها أنها ستقرف بإثم منكر إذا هو بادرها قبلة الصباح على مثل شفق الشمس من خديها، وأنها لا ترمى بمسبة أوجع ولا أمض من قوله حبيبتي! وانسلخ الليل، وطارت الأحلام، وأفصحت الحقيقة، واستيقظ الكونت.
على المائدة
زهرات ناضرة كأنما اختبأت فيها ابتسامة الفجر، عاطرة كأنها رسالة اللقاء بعد الهجر، بديعة التنميق تحسبها قصيدة من شعر الألوان، متفتحة للحب وكأنها لكتاب الحب عنوان، متلائمة مصففة، متلاثمة كالشفة على الشفة، قائمة في جلالها وحسنها كأنها في خلقة الجمال آية، وكل زهرة في لونها كأنها لدولة من دول الحسن راية؛ وقد جلست إليها غادة فتانة كأنها في رقتها روح النسيم، وفي نضرة شبابها روح الحديقة، ولاحت الأزهار كأنما هي خيالات جمالها، وظهرت الغادة كأنها هي الحقيقة.
تلك هي «لويز» في صبيحة عرسها على المائدة، وقد أثبتت في كل زهر لحظا من لحاظها، ولا يشك من رآها في تلك الحال وهي ترتقب ظهور زوجها أنها تنفس على هذه الأزهار شبابها ونضرتها وحسن ملاءمتها، وتحسدها على أن ليس فيها أعواد من الحطب تفسد نظامها وتنكر بهجتها وتغض من حسنها، كما ابتليت هي بزوج من عود.
28
وإنها لكذلك؛ إذا خفق أقدام وضوضاء وموكب وشيء كالموسيقى، فما لفتت جيدها حتى أبصرت الكونت داخلا يتوكأ على خادمين وله نغم مختلف، وآهات وأنات، ومع هذا النغم سعال كقرع الطبل، وكان «الروماتزم» قد دب دبيبه في مفاصله تلك الليلة، وبات يفتل في عروقه وأعصابه، ووعكته الحمى، واجتمعت إليه علل الشيخوخة كلها تهنئه بالزفاف، غير أنه لم ينس مع هذا البلاء كله أن عروسه ترتقبه على المائدة ، فحفزه الشوق وعاوده الصبى، فطار إليها بجناحين من خادميه.
صفحه نامشخص