هذه واحدة يا بني، وما من واحدة إلا هي أختها، وحكمة الله لا تختلف، بل هي هي في كل شيء وإن كنا لا نعلم، وما خلق شيء عبثا، فتعالى الله الملك الحق. ولقد أعرف أن ما لم يقض لي فهو مقضي لغيري، وأنه لا بد أن أذهب في هذه الحياة بقسط من مصائبها؛ لأنه جزء من نظامها يتوقف على وجودي ويتوقف وجودي عليه، وهل أنا بدن يملأ الأرض، ورأس طبق السماء، فيكون الفلك عمامتي، والقضاء غمامتي، وكل خير لهامتي؟ إن أنا يا بني من هذا الناس في أقدار الحياة المكتوبة إلا كالجندي في العسكر، نصبته الحرب آلة حية تحركها الألفاظ والإشارات من حيث تأتي؛ فهو يندفع إلى الموت ويشوي من لحمه على النار متى أرادت خطة الحرب أن تنبعث وتتحرك، وإنما هو بجسمه وروحه وعقله نقطة صغيرة في خط صغير من خطط كثيرة مثله رسمت بها فكرة أمير الجيش على صفحة الميدان؛ فليس للجندي أن يسأل عند الحركة: لماذا ...؟ إذ هو لا يجد عندئذ من يقول له: لأن ...! ولكن متى أزفت الآزفة وحقت النهاية بالنصر أو الهزيمة، رأى العمل الذي وراءه كأنما انقلب أحرفا وكلمات يستوضح منها فكرة القائد كما رسمها!
قال «الشيخ علي»: ومن الأسئلة في هذه الحياة ما يولد حين يموت جوابه كما رأيت،
13
فهو حمق من السائل ومضيعة؛ لأنه لا جواب عليه، وربما اعتده الأحمق معضلة من المعضلات، وكد ذهنه فيه، وقصر همه عليه، وجعل يلقى به الناس ويفتح له الأحاديث، وذلك سخف لا يوجد به الجواب الصحيح ولكن يضيع فيه السائل؛ إذ يستنفد من وسعه وعمله وحيلته، ثم لا يرد عليه من كل ذلك سوى الخيبة، وهذا - أعزك الله - سر من أسرار ضيق الناس بالحياة وتبرمهم بأقدارها ؛ لأن أكثر أعمالهم وآمالهم من جنس ذلك السؤال، فما أقل من ينتهز من يومه قبل أن يذهب يومه، وما أكثر من يريد غدا قبل غد!
ولكأني بهذا الإنسان يود لو أسرع الفلك في دورته، وجعل يرتمي به المرامي البعيدة لينهب ما في الغيب نهبا، ولينال الممكن كله وشيئا من المستحيل أيضا؛ فيحيا بعد ذلك حياة طيبة عذراء لا تلد لياليها من مواليد الغيب قليلا ولا كثيرا.
دونك آمال الناس فانظر هل تجد في هؤلاء الحمقى من يصب آماله إلا في قالب يسع ضعفيها على الأقل، وهو يحسب أنه بتوسيعه لها يخفي جانب الاستحالة فيها، ولا يدري أنه يخفي جانب الممكن المعقول أيضا! يصبها في قالب التمني، وما موضع التمني في عالم الحس وفي هذه الحياة الأرضية التي لا تزال تضرب جيلا بجيل، وتدفن قبيلا بأيدي قبيل، ويهملها الإنسان في الكثير وهي لا تهمله في القليل؟ وهل التمني أن تكون حوادث الحياة ما أريد أنا وما تريد أنت وما يريد فلان، إلا كما يتمنى كل إنسان من هؤلاء أن يكون غير نفسه، وكما يتمنى الطفل حين يجيب معلمه خطأ ويعلم أنه أخطأ؛ أن يكون الجواب حقيقة كما أخطأ؟
وقد يقال إنه ليس في العلماء أحمق ممن يكد ذهنه في ابتكار جواب غريب لمسألة لا تقع لإنسان ولا يحتاج أحد إلى جوابها؛ فكذلك لم أر في الجهلاء أحمق ممن يسأل الحياة سؤالا لا جواب عليه، أو لا يفهم الجواب عليه؛ كل ذلك حمق، وكل ذلك سخف، وكل ذلك عبث وباطل، ولكن يا أسفا على الناس! كل ذلك أيضا من مذاهب الحياة، وكل ذلك من الواقع!
فالناس من بين طامع جريء إن نفعته الجراءة ذهب بمنفعتها الطمع، وقانع ساكن إن أفادته القناعة ذهب بفائدتها السكون، ومتحيل على الغيب يستجمع له والواقع قد نفذ فيه، ومتبرم بحاضره يبني على السماء والأرض تهدم منه، وقليل من الناس المؤمن الوثيق الذي يشعر بقوة الله في كل ضيق؛ فإن لم ينصره الله على الحياة لا يخذله فيها ، وتراه لا يشك فيما يعرف ولا يريد أن يعرف ما يشك فيه، وهو يعلم أنه ليس شيء من المصائب والنعم يمكن أن ينزل في غير موضعه المهيأ له؛ إذ ليس في هندسة الله مكان مختل،
14
وأن النعمة الصحيحة ليست في لذات الإنسان الحي ولكن في حياة هذا الإنسان؛ إذ الحياة الصحيحة هي التي توجد اللذة، وأن القوة التي تسمو بالحياة حتى تسخر لها الطبيعة تسخيرا إنما هي قوة العقل، فإن وهن العقل صارت الحياة طبيعية حيوانية لا لذة فيها مما خص به الإنسان دون الحيوان من روح الله، بل تكون اللذة كل اللذة هي فقدان الألم أو إطفاءه إن تسعر.
صفحه نامشخص