أظنهم يقولون: إن في الأرض شيئين بمعنى واحد: قبور الأموات في بطنها، وأكواخ الفقراء على ظهرها، وليس من فرق بينهما في النسيان؛ لأنه يشملهما جميعا، وإنما الفرق بينهما في حاليهما المتناقضتين، هذا قبر ميت وهذا قبر حي! نعم، صدقوا وبروا وقالوا حقا؛ أليسوا جفاة القلوب غلاظ الأكباد؟ وإلا فما الفرق بين موت منسي كموت الغريب، وحياة منسية كحياة الفقير، إلا على الفرق الذي لا يبالي به هؤلاء الأغنياء حين يكون لأحدهم ظاهر حي وضمير ميت؟
وأحسب أولئك الطغاة يقولون: إننا نرى الفقير لا يملك من الأرض شيئا محدودا، بل هو يملك أرض الله كلها بحدودها الأربعة؛ ففقر فلان التاجر الغني مثلا ليس هو في الحقيقة أن لا يصيب القوت ولا يجد المأوى كغيره من الفقراء، وإنما هو المتاجرة في الآمال بعد الأموال، وقبض الريح بعد قبض الربح، واستقبال الأبواب والجدران بعد استقبال الأصحاب والجيران، وهلم من هذا الباب الذي يفتح من جهة الغنى على سائر الجهات الثلاث للحياة البائسة: وهي الفقر والمذلة والألم! وإنما هو رجل ككل رجال المال، متى خرج المال من يد أحدهم خرج اسمه من أفواه الناس، وخرج حبه من قلوبهم، ويكون من أهل السعادة لو خرج هو أيضا من الدنيا!
قتل الإنسان ما أكفره! لو أن غنيا فقد جبلا من الذهب وأصاب رغيفا يتبلغ به، لكان ذلك أيسر في مذهب الإنسانية من أن يذهب البائس المعدم، فيتكفف الأبواب ويستكف الناس،
3
ثم لا يتخلص منهم رغيفا يمسك به الرمق على نفسه، ويقيم منه بابا حاجزا يمنع الجوع أن يدخل إليه الموت وأن يخرج منه الروح، ولكن مصيبة الإنسانية في أهلها أن الله لم يخلق إلا صنفا واحدا من الناس، على أن كل إنسان يظن أنه ذلك الصنف الواحد؛ فالغني إذا تصور الفقر وهو لا يزال في غناه، لا يتوهم إلا اختلال نظام الأقدار، واضطراب حركتي الليل والنهار، بعد أن يهوي كوكب سعده الذي يسك من كل ذرة في أشعته دينار، وهو لا يرى بهذا الفقر إلا أن نقمة هابطة من السماء، ولعنة صاعدة من الأرض، قد التقتا عند رأسه الشامخ في جو كبريائه فاصطدمتا به، فإذا هو مكب لليدين وللفم عند أقدام الناس، وإذا هو فقير!
هذا هو الفقر في أوهامهم، ولكن لا تنس أنه فقرهم فقط؛ فقر المال المترابط في مكانه أو الذاهب في حلوق الأرض
4
وبين أضلاعها، أما سائر الناس فهم عند هؤلاء أهل باطل ودعوى؛ يزنون بكل ريبة، ويقرفون بكل تهمة؛
5
إذ ينتحلون الفقر ويدعونه ليعادوا نعمة الغنى بالحسد؛ فالجوع فقر، والمرض فقر، والتعب فقر، والضجر فقر، واشتهاء ما ليس لهم فقر، وقلة الأصحاب فقر، وحتى لو أن أحدهم سخطته زوجه لنسب ذلك إلى الفقر، وبالجملة فكونهم ليسوا كالأغنياء هو الفقر.
صفحه نامشخص