فالإنسان المتمدن هو هو ذلك الإنسان المتوحش في عمله للقبيلة؛ إذ يكنز الكنوز ويعقد العقد
5
ويرتبط الأموال، غير أنه قد حصر معنى القبيلة في نفسه هو ومن تلزمه نفقته من أهله وولده، فلم تتكافأ وسيلة العمل وغايته، وجمع كثيرا وأنفق ثم فضل عنه كثير، فإن هو لم ينفق من هذا الفضل على قبيلته الإنسانية وأبناء أبيه الأول من الفقراء والمساكين، فذلك الجمع فساد طبيعي، وتزيد في أخلاق الحياة لا تبعث عليه الحاجة أو لا تحمله الحاجة التي بعثت عليه؛ ومن هنا خرج ما في لغات الناس من الذم الأخلاقي
6
الذي هو في الحقيقة هجاء الطبيعة بعقولها وشرائعها وأديانها لأكثر الناس.
فالرجل يزعم أنه يجد ويدخر ويحزم ويترقى، والحقيقة تصيح من أفواه الأنبياء والحكماء والفقراء أن ذلك جهل وبخل وطمع وتسفل، ومن أجل هذا صارت الإنسانية لا تتقدم خطوة إلا وقفت زمنا تلهث وتستروح مما بها، لكثرة ما تحمل من الصناديق والخزائن الثقيلة.
فحسبكم أيها الناس، انظروا إلى تركيب الكون واعتبروا سنن الأقدار في إدارته من أحقر ما فيه إلى أعظم ما فيه، فإنكم لا تجدون معاني الغنى الصحيح الذي لا فقر له إلا في الأجسام والعقول والأنفس، ولن تجدوا معنى واحدا خلق في صندوق أو خزانة. •••
وقد وضعت كتابي للمساكين، وأسندت الكلام فيه إلى «الشيخ علي»، وهو رجل ستعرف من خبره الذي أقص عليك أنه الجبل المتمرد الباذخ الأشم في هذه الإنسانية المسكينة التي يتخبطها الفقر من أذاه وجنونه ومسه.
وأنا أرجو أن ينزل هذا الكتاب من قلوب المساكين منزلا حسنا، وأن يتصل بأنفسهم الضعيفة، ويفضي إليهم ببثه ويفضوا إليه، فقد تكون مصاحبة البائس للبائس ثروة نافعة لاثنيهما في معاملة الزمن.
مصطفى صادق الرافعي
صفحه نامشخص