فما خسر شيئا وربح الحقيقة، ثم يحذو بعد على هذا الحذو كما يفعل الملحدون في صفة أنفسهم، وهم دائما لا يأخذون من الكلام إلا بملء اليدين؛ إذ من العجيب أن لا تقع لهم الكلمة الصحيحة المفردة.
هذا الذي خرج من الأديان ومن نهيها وأمرها إلى الأخلاق وعهدتها وأدبها، قال لي ذات يوم وقد خضنا في أمر الكتب: إني لأمقت السرقة والغصب والخديعة، ولا أبيح منها شيئا ولا أمرها لأحد! غير أني إذا وجدت كتابا نفيسا وعجزت عنه أو ضاقت به ذات يدي، ثم أمكنتني فرصة من الغفلات لم أتورع أن أسرقه، ولو غصبت ولو خدعت.
قال هذا فلم أفهم من كلمته شيئا، إلا أن لقب «اللص» يكون من الشرف أحيانا بحيث يسمو كثيرا على الرجل الملحد.
والثاني:
رجل، متفلسف انقلبت عقيدته إلى زيغ، فله رأيان في أمور الحياة: واحد ينزع فيه إلى طبيعته فيستمتع ما وجد متاعا في حرام أو حلال وفي معروف أو منكر، والآخر يرجع به إلى ضميره الإنساني، وما هو الأشبه بعلمه وعقله وفلسفته فيألم ويتململ إذ يرى أنه لا يزن من لذاته لا بمقادير الخير ولا بمقادير الشر، وأنه يبيح لنفسه ويحرم على غيره؛ فإنما الرأي والحق والعدل أن لا ينطلق في كل إنسان تاريخه الوحشي كما يفعل هو ليقوم النظام على أصوله، وتتحقق الإنسانية في أهلها، ولو فعل الناس ذلك فوسعتهم الفلسفة لما وسعتهم الطبيعة، بل هي تسرع حينئذ فتطلق لكل حيوان مع أكيلته التي يغتذي بها آكله الذي يغتذي به.
لم أفهم من فلسفة الرجل أنه فيلسوف، بل عرفت من علمه أن الرجل من الناس قد يكون سافلا حتى من الجهة العالية فيه، وقد يكون فاسدا حتى من بعض جهاته الصالحة.
والثالث:
رجل يزعم عند نفسه أنه مصلح، ويتولى أمور الناس فيداورها ويلتمس لكل شيء مأتى يتسبب منه إلى إصلاح فيهم، حتى إذا وثق الناس به واستكانوا إليه وصاروا في حال الغرة وفي قياد الأمن، صدعهم في أديانهم وأخلاقهم، وركبهم بمزاعمه وخرافاته، وبث أوهامه في مذاهب أقدارهم وتصاريف أمورهم، وظن الدين كلمة يضع في موضعها كلمة غيرها، وحسب اليوم من أيامه في عمل الدهر كاليوم من أيام الله في خلق السموات؛ فهو يطرد الأزمنة، ويمحو العادات، ويغير الطباع، ويسن لفروع الشجرة سنة جذورها، فلا يذهب الفرع طالعا بل يغور نازلا، ثم يريد أن يقيم على طريق التاريخ مجازة أو قنطرة ليمشي بالناس فوق التاريخ، فيقطع بهم ألف سنة في ألف يوم، وكأنه زاد في الطبيعة ناموس نهيه وأمره.
أنا لا أقول في مثل هذا إنه مصلح، بل أقول يا عجبا لسخرية الأقدار من القوة، ألا يرتفع النسر في الجو إلا ليبحث أين تكون الجيفة؟
والرابع:
صفحه نامشخص