فإن خربت دولة أو سقطت أمة فما هي بصاحبة الدهر كله، وقد كان لها قسمها منه، ثم عاد الدهر يطلب قسمه منها، ولن يجدد البناء القديم حتى يكون الهدم أول العمل في تجديده.
فالحرب شر لا بد منه؛ لأنها من عوامل التحليل والتركيب في تاريخ الإنسانية، وهي بذلك سبب من أسباب استمراره، وكل شر لا بد منه فهو خير لا غنى عنه، وهل يبتغي الإنسان أن تضرب العصور والدول كما تضرب الدنانير والدراهم من معدن معروف على وجه معروف ولغاية معروفة؟ وإذا لم يكن لنا مستقبل التاريخ، وكنا في عمر محدود، فما نحن والرأي في بناء هذا المستقبل، وكيف نقدم لله آلات البناء، ثم نحكم الشرط أن لا يكون في هذه الآلات ما يحتفر أو يكسر أو يرض.
إنما يجعل للحرب ذلك الوصف الذي يطير لها في كل أرض صوتا
12
بالذم والسوء، أنها لا تأتي إلا بغتة، ولا تطبق إلا في غفلات العيش، وأنها تثور في بياض الأمن حمراء من لون الموت، وتطلع في خصب النعمة سوداء من لون القحط، وتنبثق بالشر من حيث يكون الشر مأمونا، وتصب المحنة على من لا يطيقها، ثم لا تصيب الذين ظلموا خاصة بل تلف من جانبي الحياة لفا، وهي في كل ذلك البلية المكشوفة التي تشتهرها الأحاديث،
13
وتضرب فيها الألسنة، وتسيل عليها الأوهام بما في طباع الناس من طبقات الأخلاق ضعفا وشدة، وخوفا وطمعا، وبخلا وكرما، وحذرا واندفاعا، بحيث تصبح وكأنما ترتمي على رأس كل إنسان بالموت، أو بالخوف من الموت، أو بالخبر عن الموت، أو بما يشبه الموت، أو بما يكون الموت خيرا منه!
وإلا فكم يترضرض الناس
14
كل يوم، وكم يجدون من صنوف الدمار في الأعمار، ومن ضروب الأرزاء في الأرزاق، ما لو جمع بعضه إلى بعض في نسق واحد لطم على هذه الحروب كلها، ولأظهر لك أن في السلم ما هو شر من الحرب، وإن لم يصرخ به صوت الموت.
صفحه نامشخص