رقعة من الأرض كأن فيها شيئا من الطينة التي خلق منها الإنسان، فهي تمطر من دمائه، وكأنما عرفته في سماء الله، فلا يكاد ينزل بها الجيشان حتى تعيد أرواح أكثرهم إلى سمائه؛ ينجذب إليها الجندي لأن فيها ترابه بل لأن فيه من ترابها، وينطرح عليها لأن اقتراب منيته في اقترابها، ولا تزال تصرعه وكأنها من شوقها تضمه، وتلقيه على صدرها ميتا أو جريحا كأنها تعلمه بذلك أن الأرض أمه، وهي مزرعة الموت، نباتها الرءوس فمنها قائم وحصيد، وثمراتها النفوس فمنها داني القطاف ومنها بعيد، وقد رواها بالدم الحي فنبت فيها العظم وأثمر فيها الحديد!
بل هي ساحة الحرب ترفع عليها القوة راية وتنزل راية، ويحشر إلى مسرحها الناس ليمثل لهم الموت كل يوم رواية، وقد اضطربت فيها الآجال فكأنها أمواج في بحر القدر زاخرة، وتناثر فيها الرجال فكأنهم عظام في بعض المقابر ناخرة، وظهرت تلك الساحة وقد كشرت عن أنياب من السيوف وأسنان من الأسنة كأنها لأهل الدنيا فم الآخرة!
أما الجنود فإذا رأيتهم يلتحمون قلت زلازل الأرض قد خلقت على ظهرها، وإذا شهدتهم يقتحمون خلت نفوس الكرام قد حملت على دهرها، وقد أيقنوا أنهم إن لم يكونوا للموت كانوا للأسر، ومن لم يبن منهم على «الفتح» بني على «الكسر»، وما منهم إلا من يحمل رأسا كأنه لا يملكه، على عنق لا يدري كيف يمسكه، في بدن لا يعرف أيأخذه الموت أم يتركه؛ فهو لا يبالي أظلته الشمس أم أظلم عليه الرمس، ونهض للتاريخ مع الغد أم ذهب في التاريخ مع الأمس.
وإذا كان من صفة الميت أنه اسم في الحياة بغير جسم، فمن صفة هذا الحي أنه جسم يعيش بغير اسم، وما الجندي إلا عدد في حساب الحرب، فسيان قطعه «الطرح» أم أخذه «الضرب»، وإنما هو حيث يتهيأ له انتظار الأقدار؛ فليس إلا الصبر، ولو في بطن القبر، وحيث يطبخ له النصر على «النار»، فثم المكان ولو في جوف البركان. وآية عقله أن يكون كالآلة المتقنة تعمل بلا عقل فلا يخشى الحيف، ولا يسأل لماذا ولا كيف، ومن ذكائه أن يكون من صحة الذهن، بحيث لا يفرق في الموت بين الجمر والتمر، وأن يكون من «خفة الروح» بحيث تحمله اللفظة الخفيفة على جناح الأمر.
وما الحرب إلا أن يتنازع الناس على الحياة فيقيموا الموت قاضيا، ويطلبوا من الشريعة المدونة في صفائح السيوف حكما على الحياة ماضيا؛ فكلا الفريقين يقدم الحجج، من المهج، ويتكلم بألسنة الروح، من أفواه الجروح، ويأتي من بلاغة الموت في خصامه بكل «ضرب»، ويجري الحياة مجرى «الاستعارة» في «بيان» الحرب.
وقد تواقف الرجال في يوم أطول من يوم العرض، وتقاذفوا بالآجال حتى أوشكت السماء لكثرة ما ينزل منها أن تقع على الأرض؛ فالخيل منقضة كأنها صواعق أرسلها الموت في أعنة، أو نوازع من السحاب بروقها الصوارم والأسنة، مسرعة كأنها تسابق تلك المنايا التي جرت بها الأقدار، جائلة كأنما تحيرت كيف تفر من ساحة الموت بما حملت من الأعمار، وعلى ظهورها كل فارس كأنه بين الرماح أسد في غاب، وكأن الموت من سيفه سم خلق في ناب، وكأن العنان في يده سوط ولكنه سوط عذاب، لم يعد في الفرسان، حتى لم يعد من الإنسان، فإذا صاح بقرنه عرفت الوحوش ذلك الصوت، وإذا ماجته الحرب لم يفته من ضروب النقمة فوت، وإذا نظر إلى مقتل عدوه حسبت عينيه نقطتين على تاء الموت.
وقد ثار الغبار كأنه طريق يمد من الأرض إلى السماء، أو كأنما أراد أن يمثل السحاب وقد رأى المطر تمثله الدماء، أو كأنه أرض ثامنة بدأت تتخلق مبعثرة في الفضاء، أو كأنه لما رأى الحرب تتوقد هب مستجيرا بالهواء من الرمضاء، أو هو قد فر من الأرض لما خشي أن تنفلق الأرض من حوافر الخيل، أو كأنه أنف أن يأتي الناس أعمال اللصوص في نور الشمس فضرب عليهم قبة من الليل، أو حسب عقول الجند في أيديهم وأرجلهم
2
فطار ينظر أين تلك الهام، أو هو لما رأى المطر أحمر خشي على الأرض فثار إلى السماء ينظر ماذا دهى الغمام.
وقد رمت الأرض تلك المدافع بزلزالها، وألقت على الجنود صورا من شر أفعالها، فتركتهم كالغابة الملتفة إذا استطار فيها الحريق، وانحط فريق من أشجارها على فريق، وكأنما انقض عليهم من قنابلها جدار من الجحيم، وكأن كل مدفع في صيحة الحرب إنما هو عنق شيطان رجيم.
صفحه نامشخص