ونقول أولا: إن هذا الحكم لا يقال على صنعة الشعر بل على صنعة التمثيل والإلقاء. فإن الشاعر المنشد قد يبالغ الإشارات أيضا كما كان يفعل سوسيستراتس، وربما فعل الشاعر المغنى مثل ذلك، كدأب مناسيتيوس الأوبونطى. ثم إننا لا ينبغى أن نسئ الظن بكل نوع من الحركة كما لا ينبغى أن نسئ الظن بكل نوع من الرقص، بل بذلك النوع الذى يقوم به السوقة. وذلك ما عيب على كاليبيديس وغيره من أهل زماننا، الذين انتقدوا لأنهم يحاكون النسوة السافلات. زد على ذلك أن الترجيديا تفعل فعلها الخاص بدون حركة كالملحمة، فإن قوتها تظهر بالقراءة لا غير. فإذا كانت تفضل الملحمة من سائرالوجوه فليس بضرورى أن تفضلها من هذا الوجه. وهى تفضلها لأن فيها كل عناصر الملحمة (حتى ليصح أن تستعمل وزن الملحمة) وتزيد عليها بجزءين غير هينين وهما الموسيقى والمناظر، اللذان يحدثان لذة عظيمة. ثم إن لها من البهاء حين تقرأ مثل ما لها حين تمثل. ثم إنها تصل إلى الغاية من المحاكاة فى حيز أصغر، وما كان أشد تركيزا فهو ألذ مما ينتشر فى زمان كبير فتضعف قوته. وأعنى بذلك أن يتناول متناول تراجيدية «أوديبوس» لسوفوكليس مثلا فيضعها فى مثل حجم الإلياذة. ثم إن المحاكاة فى الملحمة أقل حظا من الوحدة. ودليل ذلك: أن كل ملحمة يمكن أن تؤخذ منها عدة تراجيديات؛ فإذا كانت القصة التى يصنعها الشاعر واحدة حقا فإما أن تعرض عرضا موجزا فتبدو هزيلة، وإما أن تتبع قانون الملحمة فى سعة حيزها فتبدو مائعة.... أعنى إذا تألفت من أجزاء كثيرة، كالإلياذة والأوديسية اللتين تحتويان على كثير من مثل هذه الأجزاء، ولكل من هذه الأجزاء عظم فى نفسها. على أن هاتين القصيدتين متماسكتان بقدر ما يستطاع، وكلتاهما محاكاة واحدة إلى أبعد حد ممكن.
فإذا كانت التراجيديا تفضل الملحمة من جميع هذه الوجوه وتزيد أنها تحدث الفعل الخاص بصناعتها (فإنه لا ينبغى أن تحدث أى لذه كانت بل تلك التى أشرنا إليها) فبين أنها أفضل لأنها أقدر على بلوغ الغاية من الملحمة.
وحسبنا ما قلناه عن التراجيديا والملحمة بذاتها، وعن أنواعهما وأجزائهما: كم هى وبم تفترق؛ وعن أسباب الجودة والرداءة فيهما، ومآخذ النقاد وحلول هذه المآخذ....
صفحه ۱۵۶