وليس يمكن أن يدوم الزمن الذى يحمل عنا عبأنا فيه آباؤنا، بل لا بد من يوم نحمل فيه عبأنا وعبء غيرنا، فكان حتما أن نتسلح من صغرنا بالإعتماد على النفس حتى إذا جاء ذلك اليوم كنا على استعداد لمواجهته، سيأتي اليوم الذي نكلف فيه أن نحصل المال ننفق منه على أنفسنا ومن نعولهم، فلا بد أن نمرن من صغرنا على العمل الذي نعد أنفسنا له من تجاره أو منصب أو حرفة، وهب أننا أغنياء ولسنا في حاجة إلى منصب أو عمل فليس من الحق أن نعيش عالة على العاملين، بل الحياة نفسها عبء ثقيل إذا لم تلطف بالعمل.
وطريقة إعدادنا لذلك أن نتسلح بالعلم وبالخلق، فكل تجارة وكل منصب وكل حرفة لا يفلح صاحبها إلا إذا علم ما يتصل بها وتخلق بما يلزمها. (9-2) كيف نربي فضيلة الإعتماد على النفس؟
من خير الوسائل لذلك أن يعود المعلمون الطلبة أن يواجهوا العقبات بأنفسهم، وأن يطلبوا منهم بذل الجهد في حلها، ولا يلقوا إليهم بالمعلومات إلا بعد أن يعمل الطلبة أذهانهم فيها، وكلما أجهد الطالب نفسه في الإستفادة كان أقرب إلى النجاح، فليس أعلم الناس من كان لديه أحسن مكتبة، لأن هذه المكتبة لا تفيده إلا بقدر ما يهضم منها. وهذا هو السبب في أن أبناء الفقراء وأوساط الناس - عادة - أقرب إلى النجاح من أبناء الأغنياء، لأن الأولين تدعوهم قلة المال إلى بذل الجهد، ومحاسبتهم أنفسهم على ما ينفقه عليهم آباؤهم، ويعملون لأنفسهم حيث يرتكن أولاد الأغنياء في كثير من شؤونهم على غيرهم.
إن الصعوبات التي يلقاها الإنسان في حياته هي التي تصقل ملكاته، والإنهماك في الترف والنعيم يورث الخمول، وليس يجلى الذهب إلا في البوتقة، اعتبر في ذلك بالنبات، فإن النبات الذى تربى في حديقة المنزل وبين جدرانه، ولم يعتد العطش، ولم يقابل العواصف، يكون نباتا رقيق الحال لا يعيش إذا تعرض للجو الخارجي، وعلى العكس من ذلك ما نبت في الصحراء بين الشمس القاسية، والريح العاتية، كذلك الناشئ إذا نشأ في مهد النعيم وعود أن يرى كل شيء حسب ما يطلب لا يستطيع أن يكون رجلا يواجه الحياة.
يجب أن نتعود الإستقلال في الرأي فلا نقتصر على أن نكرر ما نسمع، ونعني بالإستقلال في الرأي أن نكون فكرنا من أنفسنا، ندرس الشيء ثم نعتقد ما يؤدينا إليه بحثنا ولو خالفنا في ذلك غيرنا، وقد كان ذلك دائما عمل المصلحين وكبار الرجال، يفكرون بعقولهم لا بعقول غيرهم، ولا يتبعون رأي غيرهم إلا إذا قام البرهان على صحته، ثم إذا رأوا حقا قالوا به مهما كانت نتائج قول الحق.
للاعتماد على النفس لذة يشعر بها الإنسان وإن قلت نتائج ما يصدر عنه، فكلنا يسر من ربح قليل أتى ببذل الجهد، ولا يرضى عن كثير قدم إليه احسانا، والرجل يسر ببيته وإن قل متاعه، لأنه نتيجة مجهوده العزيز عليه.
النضال في الحياة هو الذي يكون المرء، والعقبات التي يصادفها في طريقه فيبذل الجهد في تخطيها هي التي تربي نفسه، وتعده لأن يكون عظيما، والإنسان قد يتعلم من فشله أكثر مما يتعلم من نجاحه، فلا خوف من بذل الجهد أن يعقبه فشل ما دام يفتح عينيه ويدرس التجارب التي عاناها، ويتجنب الأخطاء في مستقبل حياته، فقائد الجيش يتعلم كثيرا من الوقائع التي هزم فيها، والسياسي يتعلم كثيرا من مواقف فشله، والعالم في دراسته يستفيد كثيرا مما ارتكب من أغلاط، والخطيب الماهر ما كان كذلك إلا بعد أن خطب مرارا وسخر الناس منه، وكذلك الكاتب والشاعر والفنان.
فإن أردت النجاح فاعتمد على نفسك في تعلمك وفي تجارتك وفي منصبك، وتعلم مما أخطأت، فإن هذا هو السبيل الوحيد للنجاح. (10) الطاعة
رأينا فيما سبق أن الإنسان عضو في جمعيات كثيرة: عضو في جمعية الأسرة، وعضو في جمعية المدرسة، وعضو في جميعة الأمة، وهكذا.
لكل جمعية من هذه الجمعيات قوانين لا بد أن تتبع وإلا لا يمكن بقاؤها ، ففي الأسرة - مثلا - يجب على الوالدين أن يطعموا أولادهم ويربوهم، وعلى الأولاد أن يتبعوا أوامر والديهم، وإلا لما بقيت الأسرة، فلو أن كل طفل في الأسرة فعل كما يهوى، ولم يخضع لأي أمر، ولم يعن الوالدان أية عناية بأطفالهما، لصارت معيشة الأسرة مستحيلة. ولو أن كل تلميذ في مدرسة سار كما يشتهي، حضر أو لم يحضر، وإذا حضر فعل ما يشاء، ولم يفعل ما يشاء، وفعل كذلك المعلمون في المدرسة، لم تعش المدرسة أياما، ولو أن كل جندي في الجيش اعتبر نفسه مساويا للقائد، وعمل برأيه فسار يمينا إذا أمره القائد أن يسير شمالا، لم يكن هذا جيشا صالحا، وكان نصيبه الفشل لا محالة.
صفحه نامشخص