ومن أجل هذا عد الصدق أساسا من أسس الفضائل، وجعل عنوانا لرقي الأمم وانحطاطها.
ومما يشاهد في شأن الكذب أن الكذبة الواحدة قد تستوجب عدة كذبات لتغطيها، ذلك لأن الكاذب يخلق في الدنيا بكذبه ما لم يكن، يخلق خيالا لا يتفق مع الواقع، وقد يضطره هذا الخيال الذي خلقه أن يكذب كثيرا ليوفق بين الواقع والخيال ومحال ذلك.
ولا يزال الإنسان يكذب حتى يفقد ثقة الناس به وتصديقهم له حتى فيما هو صادق فيه، كما روى عن «أرسطو» أنه سئل ما ضرر الكذب قال: (ألا يثق الناس بقولك حين تصدق) وكل إنسان في هذه الدنيا في حاجة شديدة إلى ثقة الناس به سواء كان تاجرا أو طبيبا أو مدرسا أو محترفا حرفة، فمن فقد ثقة الناس به فقد حرم خيرا عظيما.
وكما يكذب الإنسان على غيره كصاحبه وأخيه يكذب على نفسه، وكثيرا ما يكون ذلك، كمن يحاول أن يقنع نفسه بأنه بذل ما في وسعه لأداء ما يجب عليه، وهو في الحقيقة لم يفعل ذلك، وكما يحصل كثيرا من محاولة المرء أن يخلق لنفسه الأعذار عن كسله أو بخله أو قسوته أو جبنه غشا لنفسه وخداعا، وصرفا لها عن الحق، وقد يغلو المرء في هذا الأمر حتى يصير عادة له، وحتى لا يستطيع أن يفرق بين الحق والباطل والصدق والكذب. (5-2) أنواعه
وهناك أنواع من الكذب قد وضعت لها أسماء خاصة كالنفاق، وهو أن يظهر الإنسان غير ما يبطن، اشتقته العرب من النافقاء وهو إحدى حجرة اليربوع، يخفيها ويظهر غيرها ليلجأ إليها عند الحاجة، ومن هذا سمي الرجل الذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر منافقا، فهو كذب عملي، ومن هذا النوع أيضا من يظهر الصداقة ويبطن العداء ، وكل من يظهر بمظهر ينافي حقيقته منافق مذموم.
وكالملق أو التملق وهو أن تمدح آخر بما لا تعتقده فيه لتدخل على قلبه السرور رجاء أن تنال منه منفعة أو نحو ذلك.
وضد النفاق والملق الصراحة، وهي أن نفتح قلوبنا لمن نخاطبهم، وأن نصدق في التعبير عما تكنه ضمائرنا، والكلمة مأخوذة من قولهم: «لبن صريح» إذا ذهبت رغوته وكان خالصا، فالصريح من الناس من يخلص من الغش ويظهر لمن يحدثه حقيقة ما في نفسه.
وقد يخطئ قوم في فهم الصراحة فيظنون أنها تقتضي أن يقول الإنسان كل حق لكل إنسان. وهذا ليس بصحيح، فهناك مجال للقول ومجال للسكوت. وليس من الصراحة أن تجرح إحساس الناس وتؤلم مشاعرهم من غير حاجة تدعو إلى ذلك، أو أن يحدث الطبيب الناس بأمراض من يعالجهم من الأسر إذا كان ذكر ذلك يسيئهم، كما أنه ليس من الصراحة أن تفخر بأعمالك، أو تفشي ما تعرفه من أسرار نفسك أو بيتك، أو جيرانك أو أصدقائك، ولو كان ما تحدث به حقا، وإنما الصراحة ألا تقول - إذا قلت - إلا الحق، ولكن لا تقوله إلا لمن له الحق أن يعرفه.
ومن ضروب الكذب الممقوت «خلف الوعد» فمن وعد آخر وعدا وفي نيته عند وعده ألا يفي فقد كذب، وكذلك من كان في نيته الوفاء ثم أخلف لا لعذر أو لعذر يستطيع التغلب عليه، في خلف الوعد إضرار بالموعود كاضاعة وقته أو إيجاد أمل كاذب عنده أو نحو ذلك.. والوعد دين، فكما يجب وفاء الديون يجب وفاء الوعود، ويجب الإقتصاد فيها حتى لا يعد الإنسان وعدا إلا وفى. (5-3) هل يباح في أية حالة من الأحوال؟
ولا يحق لإنسان بحال من الأحوال أن يفتح على نفسه باب الكذب، بل ينبغي أن يلتزم الصدق في جميع أقواله وأعماله. ولسنا ننكر أن التزام الإنسان الصدق في كل ما يقول ويفعل يستلزم مشقة كبيرة، ويحتاج إلى عناء ورياضة نفس وصبر وشجاعة، ذلك لأنه قد يعرض للإنسان في حياته اليومية مسائل دقيقة يرى فيها قصار النظر أن الكذب أنفع، وأنه لا مفر منه، ونحن نورد لك أمثلة من أقواها ونبين حجتهم في الكذب ثم نبين وجه الخطأ فيها. (1) ناشئ ابتدأ يتعلم فن الشعر عرض عليك قصيدة له لم تستحسنها. فهل تصدق وتقول: إنها قصيدة سقيمة المعاني، ظاهر فيها التكلف سخيفة النسج، وحينئذ تكون قد آلمته وجبهته، وقد يكون قولك سببا في تركه الشعر مع أنه لو شجع لصار شاعرا مجيدا، أو خير أن تكذب وتقول: إنها قصيدة جميلة فتدخل على قلبه السرور، وتشجعه على السير في طريقه حتى يبلغ غايته؟
صفحه نامشخص