أدعو إلى الدار بالسقيا وبي ظمأ
أحق بالري لكنى أخو كرم
وكثيرا ما يكلفنا القيام بالواجب مشقات ينبغي أن نتحملها، ويتطلب منا تضحية يلزمنا تقديمها، فالقاضي العادل قد يضطر إلى الحكم على صديقه أو قريبه فيؤلمه ذلك، وقد يحمله حب العدل على إغضاب أفراد أو هيئات مختلفة فيعرض بذلك نفسه لأنواع شتى من الآلام، والجندى يقدم حياته عند الخطر فداء لأمته، ورئيس السفينة إذا عطبت يجب أن يبقى في السفينة حتى ينتقل جميع من فيها إلى قوارب النجاة، وإعلان الإنسان رأيه وتمسكه بمبدئه قد يبعده عن منصب ويحرمه من فائدة، وفي جميع ذلك يجب أن نتحمل التضحية - مهما آلمت - عن رضا وارتياح، ويجب أن نعد مكافأة الضمير فوق كل مكافأة.
ولكن يجب هنا أن ننبه إلى أمرين كثيرا ما يخطئ الناس فيهما:
الأول:
أن التضحية ليست مقصودة لذاتها، ولا يصح أن تكون غرضا يريد الإنسان تحصيله، فهي ليست إلا ألما محضا ينبغي الفرار منه إلا إذا استتبع خيرا، فما يفعله بعض الزهاد - من الإمتناع عن الأكل إلا النزر اليسير، وحرمان النفس من التمتع بما أحله الله، ولبس الخشن من الثياب لا لغرض إلا طلب المثوبة بهذا الشقاء - خطأ لا يرضى عنه عقل ولا دين، وقد عاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من نذر أن يصوم قائما في الشمس فأمره بإتمام صيامه ونهاه عن القيام في الشمس، لأن الله لم يضع تعذيب النفوس سببا للتقرب إليه، وليست المشقة نفسها سببا في رضا الله، وإنما رضاه في عمل صالح قد يستلزم المشقة، وليس بصحيح قول الناس: «الثواب على قدر المشقة» إذا أخذ على عمومه، إنما يكون صحيحا إذا كان العمل المقصود عملا خيرا لا يمكن أن ينال إلا بمشقة، فالتضحية ليست خيرا في نفسها، ولكن إذا كان الواجب لا يمكن أداؤه إلا بالتضحية وجبت التضحية.
الثاني:
ليس لأداء أي واجب تقدم أية تضحية، بل لا بد أن يوازن بين الواجب والتضحية، فليس صوابا أن يضحي الإنسان بحياته ليرتاح من ألم أسنانه، ولكن خيرا أن يقلم أشجاره ليزيد ذلك في ثمارها، فمتى كان الخير الذى نناله من العمل يرجح التضحية وجبت التضحية، كالطبيب يهجر نومه ويتعرض للتعب والبرد، لإسعاف مريض وإدخال السرور عليه وعلى أسرته، وكالعالم يهجر راحته ولذته لتأليف كتاب يفيد الناس، أو لاستكشاف يزيد في خيرهم، والجندي يضحي بنفسه لتحيا أمته، والأمثلة على ذلك كثيرة.
صفحه نامشخص