وأذن أخيرا حاكم الجنوب لإسفينيس بالرحيل، وأعطاه جوازا لعبور الحدود في أي وقت يشاء، فرفعت القافلة مراسيها وأبحرت مع الفجر الرطيب، وكان إسفينيس ولاتو وأحمس بن إبانا يأخذون مجالسهم في مقصورة السفينة الأولى وفي قلوبهم شوق وحنين، وفي عيني أحمس دموع هي آخر ما ودع به أمه، وكان إسفينيس يغرق في أحلامه، فذكر طيبة وأهل طيبة، طيبة أعظم مدن الأرض، المدينة ذات الأبواب المائة، والمسلات التي تناطح الجوزاء، والمعابد الهائلة والقصور الشم، والسبل الطويلة والميادين العظيمة، والأسواق التي لا تهدأ ولا تسكن آناء الليل وأطراف النهار، طيبة المجيدة، طيبة آمون الذي قضي أن تغلق أبوابه دون عبادة عشرة أعوام من الأسر، طيبة التي حكمها الهمج أخيرا وجلسوا منها مجلس الوزراء والقضاة والقواد والنبلاء واستعبدوا أهلها، فالدهر يمرغ وجوههم في ثرى من كان بالأمس لهم عبدا، وتنهد الشاب من قلب مكلوم، ثم ذكر الرجال الجاثمين في بطون سفنه يحدوهم أمل واحد، ويدفعهم إلى الأهوال حب لمصر مكين توارثوه جيلا بعد جيل، كم يعانون من ألم الفراق لمن خلفوا وراءهم بين أيدي أعدائهم من زوجات وبنات وأطفال، وكأنهم جميعا هذا الفتى الباسل أحمس الذي يكظم أشواقه ويكتم حنينه ويبدو على وجهه العزم والقوة .. ثم طافت بذهنه في حشد الذكريات صورة ذات بهاء، فأطرق ليخفي عينيه عن لاتو الثاقب البصر، ولو علم الرجل فيما يفكر لغضب مرة أخرى ، ولكبر عليه أن يشغل قلبه بابنة الشيطان كما دعاها أول مرة، وعجب لنفسه كيف تحوم حول صورتها، وكيف لا تنفك تنزع إليها، وتساءل متحيرا: هل يمكن أن يجتمع الحب والكراهية لشيء واحد؟ ولاحت في عينيه نظرة حزينة، وقال لنفسه: مهما يكن أمري فلن تقع عيناي عليها مرة أخرى فلا داعي للقلق، وهل وجد في الدنيا شيء يعز على النسيان؟ وقطع عليه أحلامه لاتو وهو يقول بلهجة دلت على القلق: انظر إلى الشمال .. أرى قافلة قادمة على عجل!
فنظر الشابان إلى الوراء فرأيا قافلة من خمس سفن تشق عباب الماء بسرعة، ولم تستطع الأعين رؤية من فيها ولكنها أخذت تدنو بسرعة وتستبين أجزاؤها فعاين إسفينيس رجلا يقف في مقدمة القافلة فعرفه، وقال بقلق: هذا القائد رخ!
فامتقع وجه لاتو، وقال وقد تزايد اضطرابه: ترى هل يبغي اللحاق بنا؟
فلم يدر الآخر كيف يجيبه، وراقبوا القافلة باهتمام وحذر، وساور لاتو بعض المخاوف فقال بحنق: هل يجيء هذا الأحمق ليعوق مسيرنا؟
وأدرك إسفينيس أنه لم يخلص بعد من عواقب خطئه، وأن الخطر يوشك أن يحيق بقافلته وقد شارفت بر الأمان والسلامة، وصوب بصره نحو قافلة رخ فرآها تقترب بسرعة حتى جاوزت بعض سفن قافلته، وإذا بها خمس سفن حربية يقف على أسطحها فصائل من جند الحرس ولم تجيء لخير بلا شك، ثم اتجهت سفينة القيادة نحو سفينته فحاذتها، ورأى القائد يحدجه بنظرة قاسية، وسمعه يصيح به بصوته الغليظ: قف وألق مراسيك.
وغيرت السفن اتجاهها لتحاصر القافلة، فأمر إسفينيس بحارته أن يكفوا عن التجديف وأن يلقوا المراسي، فأذعنوا لما أمروا، وقد تولاهم الخوف ورأوا سفن الرعاة تحمل الجنود الشاكي السلاح كأنهم يتأهبون لمعركة حربية، واشتد القلق بإسفينيس، وأشفق من أن ينكل القائد الحقود بقافلته فيئد أمل قومه جميعا، وقال لرفيقه: إذا كان هذا الرجل يريد رأسي فلا بأس أن أكون أول صرعى الكفاح الجديد، وما عليك يا لاتو إذا قضيت إلا أن تستأنف المسير، دون أن تمكن للغضب من نفسك فتقضي على آمالنا جميعا .
فشد الشيخ على يده وقد اسودت الدنيا في عينيه، واستدرك إسفينيس قائلا بحزم: إني أوصيك يا لاتو بما أوصيتني به بالأمس من تجنب الغضب غير الحكيم، دعني أدفع ثمن خطئي. ولئن تعد غدا إلى أبي فتعزيه عن موتي وتهنئه بمن حملت إليه من جنود مصر، لخير من أن تعود بي إليه وقد خسرنا أملنا إلى الأبد!
وسمع القائد رخ يصيح به قائلا: اخرج إلى وسط السفينة أيها الفلاح.
فشد الشاب على يد لاتو ومضى بقدمين ثابتتين، فقال له القائد وكان يقف على سطح سفينته: لقد أطحت بسيفي أيها العبد المفتون وأنا ثمل أترنح وها أنا ذا أنتظرك وقلبي ثابت وساعدي غير مرتعش.
فأدرك أن القائد ذو طبيعة انتقامية، وأنه يريد أن ينازله ليغسل العار الذي لحقه منه، فقال له بهدوء وقد دخله شيء من الطمأنينة على قافلته: هل ترغب في أن تعيد الكرة أيها القائد؟
صفحه نامشخص