فقال بيبي بصوت متهدج حزين، وهو يغالب عواطفه مغالبة شديدة: مولاي، وددت لو أدركني الموت قبل أن أقف موقفي هذا، فليكن عزائي أنكم تسيرون في سبيل الرب آمون وطيبة المجيدة، وأرى أن ساعة الوداع قد أزفت حقا كما تقول يا مولاي، فسيروا يحفظكم الرب برحمته، ويكلأكم بعين رعايته، وإني أرجو أن يمتد بي العمر حتى أشهد يوم عودتكم كما شهدت يوم هجرتكم، كي يسعد قلبي برؤية طيبة العزيزة مرة أخرى .. الوداع يا مولاي .. الوداع يا مولاي! - بل قل إلى الملتقى. - نعم إلى الملتقى يا مولاي.
واقترب من مولاه وقبل يده، وكان ما يزال يغالب عواطفه كي لا يبل يدا كريمة بدمعه، وقبل يد توتيشيري، والملكة أحوتبي، والملكة ستكيموس، وولي العهد أحمس، وشقيقته الأميرة نيفرتاري، ثم شد على يد الحاجب حور بمودة، وحنى رأسه للجميع، وغادر السفينة في سكون وذهول.
وعلى أدراج الحديقة وقف يشاهد بدء تحركها وقد ضربت المجاديف في الماء، وأخذت تبتعد عن الشاطئ على مهل وتؤدة كأنها تحس وطأة حزن من عليها، وقد تجمعوا على حائطها، تودع أرواحهم الخافقة طيبة ... وأفلت منه زمام نفسه فبكى .. واستسلم للبكاء حتى انتفض جسمه، وما زال يتبع السفينة العزيزة وهي تغوص في الظلمة حتى ابتلعها الليل .. ثم تنهد من أعماق صدره، ولبث على حاله لا يدري كيف يبرح الشاطئ، وقد أحس وحشة كأنه هوى حيا إلى قبر عميق، ثم تحول عن موقفه ببطء وعاد إلى القصر بخطى بطيئة متثاقلة، وكان يتمتم قائلا: مولاي .. مولاي .. أين أنت؟ أين أنتم يا سادتي؟ يا أهل طيبة، كيف تهجعون والموت يحلق فوق رقابكم؟ هبوا .. لقد قتل سيكننرع وهاجرت أسرته إلى أقصى الأرض وأنتم نيام .. هبوا .. لقد خلا القصر من سادته .. وودع طيبة ملوكها .. وسيعتلي عرشكم غدا عدو لكم، كيف تنامون؟ هبوا .. إن الذل وراء الأسوار!
ثم أخذ القائد مشعلا، وسار في ردهات القصر حزينا واجما يتنقل من جناح إلى جناح، فوجد نفسه أمام بهو العرش، واتجه نحوه واجتاز عتبته وهو يقول: «معذرة يا مولاي عن دخولي دون إذن» وتقدم بخطى متخاذلة على ضوء مشعله بين صفي المقاعد التي كانت تعقد عليها الأمور وتبرم، إلى أن انتهى إلى عرش طيبة، وجثا على ركبته، ثم سجد وقبل الأرض بين يديه، ثم وقف أمامه حزينا، وضوء المشعل ينعكس على وجهه أحمر مرتعشا، وقال بصوت جهير: حقا لقد انطوت صفحة جميلة خالدة، وسنكون نحن الموتى غدا أسعد أهل هذا الوادي الذي لم يعرف الليل أبدا، أيها العرش .. يحزنني أن أبلغك أن صاحبك لن يعود إليك، وأن وريثك مضى إلى بلد بعيد، وأما أنا فلن أسمح بأن تكون منزل وحي الكلمات التي تشقي مصر غدا، فلن يجلس عليك أبوفيس، ولتطو كما انطوى سيدك!
وكان بيبي قد اعتزم أن يدعو جنودا من حرس القصر، ليحملوا العرش إلى حيث يريد.
13
وحمل الجنود العرش كما أمروا، ووضعوه على عربة كبيرة، وتقدمهم القائد إلى معبد آمون وهناك حملوا العرش مرة أخرى، وساروا وراء قائدهم تسبقهم بعض الكهنة إلى البهو المقدس. وفي المثوى المقدس، قريبا من قدس الأقداس، رأوا الهودج الفرعوني محاطا بالجنود والكهنة، فوضعوا العرش إلى جانبه، وقد علت الدهشة وجوه الكهنة الذين لم يعرفوا من الأمر شيئا، وأمر بيبي الجنود بالانصراف، وطلب حضور الكاهن الأكبر، وغاب الكاهن زمنا يسيرا، ثم عاد يتبع كاهن آمون الذي قدر خطر الزيارة الليلية فأتى مسرعا ومد يده للقائد وهو يقول بصوته الهادئ: طاب مساؤك أيها القائد.
فقال بيبي بلهجة دلت على الاهتمام والجزع: وطالت لياليك يا صاحب القداسة .. هل تأذن لي بالانفراد بقداستك؟ وسمع الكهنة قوله فانسحبوا سريعا على تطلعهم وقلقهم حتى خلا المكان، وتنبه الكاهن الأكبر للهودج، فبدا الانزعاج على وجهه، وقال للقائد: ما الذي أتى بالعربة إلى هنا؟ .. وما هذا الهودج؟ .. وكيف تركت الميدان في هذه الساعة من الليل؟
فقال بيبي: أصغ إلي يا صاحب القداسة، فما من فائدة ترجى من التأني، أو من تهوين شأن ما نحن فيه، ولكن ينبغي الإصغاء إلي حتى النهاية لأفضي إلى قداستكم بما عندي، وأمضي إلى واجبي: لقد وقعت واقعة ستذكر إلى الأبد، مصحوبة بالألم والفخار معا، ولا عجب فقد خسرنا موقعة مصر، وقتل مليكنا وهو يدافع عن وطنه، ومزقت الأيدي الغادرة جثته الطاهرة، واضطرت أسرتنا الملكية إلى هجر طيبة، وسيصحو أهل طيبة فلا يجدون أثرا لملوكهم ولا لمجدهم.
مهلا يا صاحب القداسة مهلا .. لقد انتصف الليل أو كاد، وواجبي يهيب بي أن أعجل، إن هذا الهودج يحمل جثة مليكنا سيكننرع وتاجه، وإليك عرشه، هذا تراثنا القومي أعهد به إليك يا كاهن آمون؛ لكي تحفظ الجثة وتودعها مكانا أمينا، وتحفظ هذه المخلفات في مستقر حريز ... والآن أستودعك الرب يا كاهن طيبة، التي لن تموت وإن أثخنتها الجراح.
صفحه نامشخص