سيكننرع
1
كانت السفينة تصعد في النهر المقدس، ويشق مقدمها المتوج بصورة اللوتس الأمواج الهادئة الجليلة، يحث بعضها بعضا منذ القدم كأنها حادثات الدهر في قافلة الزمان، بين شاطئين انتثرت على أديمهما القرى، وانطلق النخل جماعات ووحدانا، وترامت الخضرة شرقا وغربا، وكانت الشمس تعتلي كبد السماء ترسل أسلاكا من النور إذا غمر النبت رف رفيفا، وإذا مس الماء تلألأ لألاء، وقد خلا سطح الماء إلا من بعض زوارق صيد جعل أصحابها يوسعون للسفينة الكبيرة وهم يرمقون صورة اللوتس - رمز الشمال - بعين التساؤل والإنكار.
وكان يتصدر المقصورة رجل بدين قصير القامة، مستدير الوجه، طويل اللحية، أبيض البشرة، يرتدي معطفا فضفاضا ويقبض بيمناه على عصا غليظة ذات مقبض ذهبي، جلس بين يديه رجلان في مثل بدانته وزيه، تداني بينهم جميعا روح واحدة، وكان السيد يطيل النظر إلى الجنوب بعينين مظلمتين أضناهما الملل والتعب، ويلقي على من يصادفه من الصيادين نظرة شرزاء، وكأنه برم بالصمت فتحول إلى رجليه وتساءل قائلا: ترى هل ينفخ غدا في الصور فيتبدد هذا السلام الثقيل المخيم على ربوع الجنوب، وتفزع هذه الدور المطمئنة، ويحلق نسر الحرب في هذا الجو الآمن؟ .. آه .. ليت هؤلاء الرجال يعلمون أي نذير تحمل هذه السفينة لهم ولسيدهم!
فهز الرجلان رأسيهما موافقة على كلام السيد وقال أحدهما: لتكن حرب أيها الحاجب الأكبر، ما دام هذا الرجل الذي ارتضاه مولانا حاكما على الجنوب يأبى إلا أن يضع على رأسه تاجا كالملوك، ويبني القصور كالفراعين، ويسير في طيبة مرحا لا يبالي شيئا.
فجعل الحاجب يصرف بأنيابه، وعبث بعصاه فيما بين قدميه بحركة تدل على الحنق والغيظ وقال: لا يوجد حاكم مصري سوى حاكم إقليم طيبة هذا، فإذا تخلصنا منه خلص لنا حكم مصر إلى الأبد، وبات مولانا الملك على طمأنينة لا يخشى تمرد أحد عليه.
قال ثاني الرجلين بحماس، وكان لا ييئس أبدا من أن يصير يوما حاكما لمدينة عظيمة: إن هؤلاء المصريين يكرهوننا.
فأمن الحاجب الأكبر على رأيه وقال بلهجة عنيفة: نعم .. نعم .. وأهل منف أنفسهم عاصمة مملكة مولانا يظهرون الطاعة ويضمرون الكراهية .. لقد نفدت الحيل ولا حيلة الآن سوى السوط والسيف!
فابتسم الرجلان أول مرة، وقال ثانيهما أيضا: بورك رأيك أيها الحاجب الحكيم، فإن السوط وسيلة التفاهم التي لا تجدي سواها مع المصريين.
ولاذ الرجال الثلاثة بالصمت برهة، فما يسمع إلا وقع المجاديف على سطح الماء، ثم لاحت من أحدهم التفاتة إلى زورق صيد يقف في وسطه فتى مفتول الساعدين، عاري الجسد، إلا من وزرة تغطي وسطه، وقد لفحت الشمس بشرته، فقال بتعجب: كأن هؤلاء الجنوبيين مشتقون من صميم أرضهم!
صفحه نامشخص