وسرت موجة ارتياح في نفوس رجال الملك لهذا الجواب العنيف، أما خيان فقد اشتد به الغضب ولكنه لم يستسلم لسلطانه، وكبح جماح نفسه وقال بهدوء: أيها الحاكم الجليل، كان أبوك حاكما على الجنوب ولم يكن يلبس هذا التاج، فهل ترى لنفسك حقا غير ما كان يرى أبوك لنفسه؟ - لقد ورثت عنه الجنوب وهذا تاجه منذ القدم، ومن حقي أن أتوج به رأسي. - ولكن في منف رجل آخر يتوج رأسه بتاج مصر المزدوج، ويسمي نفسه فرعون مصر، فماذا ترى فيما يدعيه لنفسه؟ - أرى أنه اغتصب وأسلافه المملكة!
ونفد صبر خيان فقال بحنق واحتقار: أيها الحاكم، لا تظن أن لبسك التاج يرفعك إلى مصاف الملوك، فالملك من بعد ومن قبل قوة وسلطان، ولست أرى في أقوالك إلا استهانة بالوشائج الطيبة التي ربطت آباءك وأجدادك بملوكنا، ونزوعا إلى التحدي لا تؤمن عواقبه.
فتبدى الغضب على وجوه الحاشية، ولكن الملك حافظ على هدوئه وقال مسترسلا: أيها الرسول نحن لا نعجل بالشر، ولكن إذا تحرش بشرفنا متحرش؛ لا ننكص على أعقابنا ولا نؤثر السلامة، ومن فضائلنا ألا نغالي في تقدير قوتنا فلا تنتظر أن تسمع مني مباهاة وفخرا. ولكن اعلم أن آبائي وأجدادي حافظوا ما وسعهم الجهد على استقلال هذه المملكة، ولن أفرط أنا فيما عاهدوا الرب والناس على المحافظة عليه.
فعلت شفتي خيان الحادتين ابتسامة ساخرة تخفي حقدا مرا، وقال بلهجة ذات مغزى: كما تشاء أيها الحاكم، وما علي إلا البلاغ، وستحمل تبعة أقوالك.
فحنى الملك رأسه ولم يتكلم، ثم قام واقفا مؤذنا بانتهاء المجلس، فوقف الجميع إجلالا حتى غيبه الباب عن أنظارهم.
6
وكان الملك يقدر خطر الحال، فأراد أن يزور معبد آمون، ليدعو الرب المعبود ويعلن الكفاح في الفناء المقدس، وأعلن إرادته لوزيره ورجاله، فقصدت جموعهم من وزراء وقواد وحجاب وكبار موظفين إلى معبد آمون لتكون في استقبال الملك، وتنبهت طيبة الغافلة إلى ما يدور وراء جدران قصورها الشم، وتهامس كثيرون بأن رسول الشمال جاء متعاليا وآب غاضبا، وذاع بين الطيبيين أن سيكننرع سيزور معبد آمون ليستلهمه الرأي ويسأله المعونة، فذهبت جموع غفيرة من الرجال والنساء إلى المعبد، وانضم إليهم خلق كثيرون أحاطوا بالمعبد، وتدافعوا إلى السبل المؤدية إليه، وكان يبدو على وجوههم الجد والاهتمام والتطلع، فدار بينهم التساؤل وجرى على ألسنتهم الحديث، كل يفسر الأمر على ما يرى، وجاء الركب الفرعوني تتقدمه كوكبة من الحرس تتبعها عجلة الملك وعربات أخرى تحمل الملكة والأمراء والأميرات من البيت الملكي، فسرت في نفوس القوم موجة من الحماس والفرح، ولوحوا لمليكهم بأيديهم وهللوا له وكبروا، فابتسم سيكننرع إليهم ولوح لهم بصولجانه، ولم يغب عن أحد أن الملك يرتدي لباس الحرب ذا الدرع اللامعة، فاشتد تشوق الناس إلى سماع الأخبار، ودخل الملك فناء المعبد يسير وراءه آله، نساء ورجالا، فاستقبلهم كهنة المعبد والوزراء والقواد بالسجود، وهتف نوفر آمون بصوت مرتفع قائلا: أدام الرب حياة الملك وحفظ مملكة طيبة، وردد القوم هتافه بحماس وأعادوا ترديده، فحياه الملك برفع يده إلى رأسه وابتسامة من فمه العريض، ثم تقدم الجمع بأسره إلى بهو المذبح، وقدم الجنود ثورا ذبيحا للرب، ثم طافوا جميعا بالمذبح وبهو الأعمدة، هناك وقفوا صفين، وأعطى الملك صولجانه لولي عهده الأمير كاموس وسار إلى السلم المقدس فارتقاه إلى قدس الأقداس، واجتاز العتبة المقدسة بخطى خاشعة، وأغلق وراءه الباب فكأنما أدركه الغسق، وحنى رأسه وخلع تاجه إجلالا للمكان المطهر، وتقدم نحو المحراب الثاوي فيه الرب المعبود بساقين متخاذلتين من الهيبة، ثم سجد عند قدميه ولثمهما وسكن لحظة ريثما تهدأ أنفاسه المضطربة وقال بصوت خافت كأنه النجوى: أيها الرب المعبود، رب طيبة المجيدة، ورب أرباب النيل، هبني من لدنك رحمة وقوة، فإني اليوم أتعرض لتبعة خطيرة إن لم تشدد فيها أزري عييت دونها. هي الدفاع عن طيبة وقتال عدوك وعدونا الذي سقط علينا من صحراء الشمال في جموع همجية خربت ديارنا وأذلت أعناق قومنا وأغلقت أبواب معابدك واغتصبت عرشنا، هبني معونتك أصد جيوشهم وأطارد فلولهم وأطهر الوادي من قوتهم الغاشمة فلا يحكمه إلا أبناؤك السمر ولا يذكر فيه إلا اسمك.
وسكت الملك، وانتظر برهة، ثم استغرق مرة أخرى في صلاة طويلة حارة مسندا جبينه إلى قدمي التمثال، ثم رفع رأسه في وجل حتى بصر بالوجه النبيل المعبود يكتنفه الجلال والصمت كأنه ستار الغد يخبئ وراءه أحداث القضاء. •••
وطلع الملك على قومه وقد وضع التاج الأبيض على جبينه المتفصد بالعرق فسجدوا له جميعا، وتقدم منه الأمير كاموس بصولجانه فأخذه بيمناه وقال بصوت جهوري: يا رجال طيبة المجيدة، لعل عدونا في هذه الساعة التي أحدثكم فيها يحشد جيشه على حدود مملكتنا ليقتحم علينا ديارنا، فهلموا جميعا إلى الكفاح، وليكن شعار كل واحد منكم أن يبذل قصارى جهده في عمله، كي يقوى جيشنا على الثبات والقتال، ولقد صليت للرب وسألته العون، وليس الرب بناس وطنه وأبناءه!
فصاح الجميع بصوت اهتزت له جدران المعبد: «أيد الرب مليكنا سيكننرع ...» وهم الملك بالمسير فدنا منه كاهن آمون وقال: هل لمولاي أن ينتظر قليلا لأقدم إليه هدية مقدسة؟
صفحه نامشخص