ومرت الأيام الثقيلة فولدت، ومرت السنوات الجارية فشب الطفل وبدأ يذهب إلى مدرسة القرية. ويل له من تلك المدرسة؛ إنها اليوم بالنسبة إليه نوع من الماضي عبر به ولا يريد أن يذكره، ولكنه يفرض نفسه عليه فرضا محموما لا نجاة منه؛ طفل هو في السنوات الخضر وفي الأيام البله الساذجة من حياته خرج من حصار البيت إلى سعة المدرسة طفرة واحدة كحيوان حبيس لم ير إلى الحياة ولم يعاشرها وإنما كل دنياه غرفات البيت، وكل مراحه هذه الباحة تشب فيها معه الكتاكيت، تتوالى عليها الألوان حتى إذا استوت فراخا اختفت لتأتي بدلا منها كتاكيت أخرى، وليس يدري من مصير الكتاكيت الذاهبة شيئا، فهو حتى لا يكاد يربط بينها وبين هذه الفرخة التي يظل يأكل جزئيات منها أياما.
ومعه في هذه الباحة جاموسة تبقى أحيانا بالبيت اليوم بأكمله، وفي فترات أخرى تخرج مع أبيه في الصباح الباكر، وتعود معه والشمس تميل نحو المغيب.
وفي صدر هذه الباحة حجرة ليس بها إلا فرن مبني تخبز أمه فيه العيش، وقد يصيب في يوم الخبيز رغيفا عليه بيضتان وقد لا يصيب.
تلك هي دنياه، لا يدري هو أن الأطفال تخرج إلى القرية، وتلعب بها، وتجوب الشوارع والحواري والأزقة، وتقفز على أكياس القطن في موسم القطن، وتركب النورج في موسم القمح أو موسم الأرز. حبيس البيت هو، تمنعه أمه أن يرى إلى الدنيا. وإن خرجت هي لبعض شأنها فهي تصحبه مرتبطا بيدها لا تفلته حتى يتم لها ما تشاء من عمل خارج البيت، وتعود به ويسأل هو أمه ويلحف في السؤال لماذا لا يجري في الطرقات مثل هؤلاء الأطفال الذين يمر بهم، وتروعه أمه بالإجابة القاسية حينا أو تلاينه أحيانا. ولكن الإجابات دائما عمياء لا يبصر منها سببا يقنعه أو سببا يرتاح إليه.
وماذا يمكن أن تقول له أمه؟ إنها أيضا معذورة؛ لقد كانت تجاهد أن تؤجل لقاءه بقدرة قادر ما تتيح لها الحيلة أن تؤجل.
لم يعد يذكر إن كان قد عرف السبب الذي جعل أمه تخفيه عن الحياة في أول يوم ذهب إلى المدرسة أم لم يعرف. ولكن الشيء الذي لم ينسه ويحاول دائما أن ينساه أنه لقي هولا.
أحس في الوهلة الأولى أنه من فصيلة أخرى غير فصيلة هؤلاء التلاميذ، لم تأته الكارثة من أنه لم يكن يعرف أحدا من التلاميذ، فهذه السن عند البشر لا تفصل بين الكائن البشري والكائن البشري الآخر وإنما الأطفال جميعا كتلة واحدة متعارفة، وإن لم يسبق بينهم تعارف، كتلة تحتويها الصداقة، وإن لم يسبقها لقاء كيان بكيان، ومتى يبدأ التعارف تبدأ الصداقة، وإن لم تسبقها البواكير الأولى التي تسبق أنواع الصداقات الأخرى؛ فعدم معرفته بالأطفال الآخرين، وعدم معرفتهم به لم يكن أمرا ذا بال في حد ذاته. فقد كان يمكن أن يكون صديقا لهم جميعا في لحظة اللقاء الأولى. ولكن الكارثة أنه وجد نفسه كيانا مستقلا وهم جميعا كيان مستقل آخر.
ودخل إلى الفصل، وهذا الشعور بأنه منطقة منبوذة من الحياة يملأ نفسه ويهشمها تهشيما. وفي الحصة الأولى بدأ المدرس يقرأ أسماء التلاميذ حتى بلغ اسمه. - فرغلي فهيم الحوت. - نعم. - أنت. - نعم. - تشرفنا.
وانفجر الضحك. - اسمع أنت هنا تنسى البيت تماما. - وماله البيت؟ - لا شأن لنا به المهم أن تنساه تماما. المهم أن تكون تلميذا مضبوطا. - على الواحدة ...
وسارع المدرس يقول للتلميذ الطويل الذي ألقى القنبلة الأخيرة: اخرس يا خليل.
صفحه نامشخص