ومع الصلة الوطيدة التي كانت تربط فرغلي بنديم فإن فرغلي لم يعرف بل ولم يتصور أن نديما يعيش من نفقة أسرته لا نفقة أبيه، بل إن وصفي الذي لا تخفى عليه خافية لم يكن يعرف هذه الحقيقة عن نديم على الرغم من الصداقة التي اتصلت بينهما على يد فرغلي.
وهكذا كان نديم يمثل عند فرغلي أسرته باسمها العريض ولا يمثل مطلقا عائلته بدخلها الذي تناله صدقة لا ريعا وتفضلا لا حقا.
وهكذا أيضا حلا لفرغلي أن يرى نديما يعمل عنده بالشركة، وحين بدأ يساومه كان يساوم فيه اسم الطوبجى ذا الرنين، ولم يتصور أنه يستطيع أن يساوم فيه نديما الذي يعرف أنه أكمل تعليمه على نفقة أسرته. - هل معقول أن نديم الطوبجى بحاله يعمل موظفا باثني عشر جنيها؟ - وهل وجدت خيرا من هذا ورفضت. - موجود. - يا عم أنا في وظيفة مضمونة درجة سادسة لا يحصل عليها إلا أصحاب الحظ العظيم. - أو الأسرة العظيمة. - - يا عم خلها على الله. - لا علي أنا. - أستغفر الله العظيم. - اسمع ولا تخرف. - أعوذ بالله! أشيطان أنت؟ - الشيطان لا يعرض عليك مرتبا ثلاثين جنيها. - كم؟ قلت كم؟ - ما سمعت. - سمعت وقبلت.
وعمل نديم رئيسا للعلاقات العامة بالشركة. ولم يمر إلا شهر وبعض شهر حتى وجد نديم نفسه في حجرة سكرتير عام الشركة الذي أمر ألا يدخل أحد إليها. - مبروك يا عم. - الله يبارك فيك. علام؟ - الصفقة التي أتممتها مع شركة ليوتي للاستيراد والتصدير. - ما رأيك ... أليست صفقة عظيمة؟ سنقوم ببناء الشركة ومخازنها كما سنقوم بتأثيثها. - لم تخيب ظني يا نديم باشا فلا يمكن أن تجد الشركة رئيسا للعلاقات العامة في مثل نشاطك وهمتك. - البركة فيك. - ولكنك خيبت ظني فيك من ناحية أخرى.
وامتقع وجه نديم. وأكمل فرغلي: وخيبت ظني في الأسر العريقة. - وازداد الامتقاع على وجه نديم وتاه لسانه في فمه وهو يقول: لماذا؟ ماذا صنعت؟
ودون أن يعنى فرغلي بالإجابة قال: وخيبت ظني أيضا في الصداقة التي بيننا. - ماذا ... ماذا؟ - خمسمائة جنيه عمولة من مهندس الشركة. - ولكن ولكن ... - اقرأ هذا.
لم يكن نديم يعلم أن صديقه فرغلي أوصى نسيبه وصفي أن يراقبه، وقد استطاع وصفي أن يرغم المهندس على كتابة إقرار بالرشوة التي تقاسمها مع نديم.
وتشنجت أصابع نديم على الورقة وقال فرغلي في صوت هادئ متزن حنون: مزقها؛ فأنت تعرف طبعا أنها صورة فوتوغرافية. - أستقيل. - ما هذا الكلام الفارغ؟ - أوامرك. - اكتب ورقة مثلها. - أمرك.
وحين أتم نديم كتابة الورقة أخذها فرغلي وفتح درجا وأخرج دوسيها بعينه ووضع فيه الورقة بهدوء ثم أغلق الدوسيه وأعاده إلى الدرج، وأدار فيه المفتاح ووضعه في جيبه، كل هذا ببطء شديد حتى إذا استقرت المفاتيح في جيبه نظر إلى نديم: كم أنفقت من الخمسمائة جنيه. - أنا ... أنا ... - مبلغ بسيط، فأنت لم تستلم المبلغ إلا أول أمس. - أنا ... أنا ... - تدفع لي ثلاثين في المائة من المبلغ. - تحت أمرك. - وتظل هذه النسبة سارية المفعول بيننا دائما وفي مقابل ذلك سأساعدك في عقد الصفقات. - أنت أعظم إنسان عرفته في حياتي. - هذه النسبة أراعي فيها الصداقة والزمالة كان المفروض أن تكون المبالغ مناصفة. - أعرف ذلك. - وفي كل مرة ستكتب ورقة كهذه. - ورقة؟! - طبعا. - وما لزومها؟
وفكر نديم قليلا وعاد إليه جأشه واطمأن ثم نظر إلى فرغلي: ولكن هناك أمرا يحيرني. - لا تجعل شيئا يحيرك أبدا. - وجود ورقة واحدة من هذه الأوراق تحت يدك كاف، بل إن وجود أكثر من ورقة سيؤكد أنك شريك لأنك سكت ولم تبلغ عن أول سرقه لي. - في هذه المرة لم تخيب ظني في ذكائك. - إذن فما داعي الورقة لكل عملية؟ - لأختار أنا عند اللزوم الورقة التي تناسب ما أريد أن أنزله بك من عقاب. وصمت نديم ولم يطل صمته وإنما قال: أما أنا فلم يخب ظني فيك أبدا، أنت دائما فرغلي الذي عرفته في المكتبة ... لم تتغير. - أبعد كل هذا لم أتغير؟ - تغيرت الحلة وتغير رباط العنق وتغير المنزل وتغيرت وسائل المواصلات وتغير المنصب، ولكن فرغلي لم يتغير. - ليس هناك أي داع ليتغير. - معقول! لك حق ... سلام عليكم. - ألم تنس شيئا؟ - لا، لم أنس شيئا ... المبلغ في البيت، في الغد سيكون عندك نصيبك كاملا؛ المبلغ المطلوب موجود. - طبعا موجود وموجود أكثر منه أيضا.
صفحه نامشخص