10
دنيا جديدة
أيمكن أن تكون هذه آنسة؟ كيف ركبت هذا التركيب؟ كيف استطاع وجهها أن يكتسب كل هذه الرجولة؟ الرجولة الصارمة في عنف؛ وجهها يقول لا دون أن يسأله أحد شيئا، ابتسامتها تشنج مزمن التصق بشفتيها لا يبارحهما إلا إذا تحدثت، وإذا تحدثت في تودد كان توددها نوعا من العنف والزجر! ووجهها الأسمر الأخضر الذي يذكرك بالنحاس لم ير الجلاء ولا عرف اللمعة، يضيف إلى الزجر البادي في توددها رنينا من التهديد في نغمات صوتها حين تريد هذه النغمات أن تكرمك بعزومة على مأكل أو مشرب ... في أي مصنع ركبت هذه الآنسة؟ لا بد أنها كانت بروفة للمرأة، صنعت خارج مصنع النساء مثل كاريكاتير امرأة أو خطوط خارجية غير دقيقة لأنثى فإذا هي رجل عنيف.
طويلة أطول من أخيها وصفي، نحيفة ولكن لا بد أن تصبح سمينة في يوم من الأيام. فقد شاء باريها سبحانه أن يجعل الانبساط الذي كان ينبغي أن يكون في وجهها يترك الوجه ليرتمي على أطرافها واستدارة جسمها دون حاجة من الأطراف أو الجسم إليه فإذا هي مخلوق مترهل الأطراف والصدر وما بعده فنازلا إلى الأقدام، جامدة الفم والأنف والعينين وشعر الرأس، كأنما أرادت السماء لحكمة لا يعلمها إلا علام الغيوب أن يقلب كل الأوضاع في هذا المخلوق فينسرح ما يطيب أمره إذا أصبح دقيقا ويعنف ما يجمله شكله إذا مسته السماحة، ويغلظ ما ينبغي أن يدق، ويتجمد ما يليق به أن يلين، فهي سمينة حيث يجب أن تكون نحيفة، وهي نحيفة حيث يجب أن تكون مليئة، وكأنما سحب الله الشعاع من عينيها فلا يدري من يرى أهي نائمة مفتحة العيون كالأرانب؟ أم يقظى مخدورة العينين كالحشاشين؟
هذه المرأة خلقت لتكون زوجتي! أنا لن أجد من هذه الطبقة أحدا يتزوجني إلا هذه الآنسة أو هذا المخلوق. أخوها يعرف كل شيء عني، وهو يدرك تماما أن أخته هذه لن تتزوج أبدا، فأين يجد لها زوجا مثلي؟ ستاره بكالوريوس تجارة وموظف في شركة يعرف كل أسرارها، فهو يعرف الطريق فيها إلى عليا مناصبها، وحقيقته فتى ضائع أبوه عامل بالسكة الحديد وأمه غزية هاربة من أبيه منذ عشرين عاما وهاربة من الزمن حاليا. إن قيل لأسرته من العريس؟ قفزت وظيفته لتكون الجواب، وإن قيل من أبوه؟ قيل من الأرياف، وهذه الأرياف الرحبة التي تستوي فيها الحقول ويشمخ نبات الفقير بجانب نبات الغني وتجاور القراريط القليلة اليسيرة العدد آلاف الأفدنة، فلا يدري المار لمن الأفدنة ولمن القراريط؛ هذه الأرياف تستطيع أن تخفي في حنايا اسمها المتسع الجوانب المترامي الأرجاء الأعيان والعامة والأسرة المستورة والأسرة المتهرئة، وكذلك تستطيع أن تخفي شأن أبيه وماضي أمه مع ما تستره من حقائق لا يعرفها إلا حليم ستار.
وأخوها وصفي في المكان الذي أتوق أن يكون فيه نسيبي، فعلى يديه ومن شعاع عينيه النافذ ومن ذكائه الوقاد تصنع سياسة مصر في كل العهود ...
هو خير من نديم ألف مرة؛ صديقي الوحيد الذي ينتمي إلى الطبقة العليا من المجتمع، ولكنه بالنسبة لي حلية أتحلى بمعرفتها ولا أنتفع منها إلا بالقليل أو بالأقل من القليل؛ فأبوه ينتمي إلى حزب والحزب فترة، وأبوه ينتمي إلى طبقة، وأية طبقة استقرت بها الحياة على حال واحدة! أما وصفي فرجل كل الأحزاب والمرتجى في كل العصور حتى إذا انقلب المجتمع فأصبحت رأسه مكان قدميه وقدماه مكان رأسه فسيظل وصفي في مكانه يزداد رفعة مع كل تغيير ويبلغ أقصى قيمة مع كل انقلاب.
لماذا أكفر بالله؟ هل أكفر؟ إن معنى كفرانى أنني أفكر في ذات الله، والحقيقة أن ذاتي هي التي أفكر فيها ولا وقت عندي لأي تفكير آخر حتى في الله ومالي لا أقول خصوصا في الله؟!
ولكنني أجد نفسي اليوم مضطرا أن أفكر فيه، فقد ثبت عندي أنه موجود لا شك وأنه واحد لا شك فيه أيضا. وقد كنت قرأت فعلا لأحد الأدباء العلماء يقول إن الذي خلق الشمس لا بد أن يكون هو الذي خلق العيون لترى بها والنبات ليعيش من ضوئها والأرض لتنبت من شعاعها. والذي خلق البلح والعنب لا بد أن يكون هو الذي خلق الإنزيمات التي تهضم هذه الفواكه. ويسير صاحب المقال في إثباته بطريقة علمية وأدبية، ولم أكن حين قرأت المقال أفكر في مناقشته، وإنما كانت فترة فراغ في المكتبة، ووجدت المجلة إلى جانبي فتصفحتها فكان هذا المقال وقد ثبت في ذهني لا اقتناعا مني به ولكن المقال وجد خانة الثقافة في عقلي خاوية تماما فاستقر غير مزاحم، وبقي في ذهني وأتاح لي أن أتذكره الآن، وإني أعرف تماما لماذا أتذكره؛ فالذي خلق الشمس هو الذي خلق العيون التي ترى في ضوئها، والنبات الذي يحيا في شعاعها، والذي خلق الفاكهة وما يهضمها من الجسم هو ... هو نفسه الذي خلق الآنسة حياة وخلقني لأكون زوجا لها. الله خلق هذه التركيبة البشرية أو غير البشرية وأهلها هم الذين أسموها حياة، ولكن الذي لا شك فيه أنهم لم يكونوا يدركون يوم أطلقوا عليها هذا الاسم أنها ستثب لتصبح هذا الكيان، فإن لكل غش وخداع أمدا يقف عنده، واسم حياة لهذه المخلوقة يتجاوز كل مدى.
والذي لا شك فيه أيضا أنهم حين استبان لهم أمرها وظهر من خلقتها ما كانت تخفيه الطفولة لم يفكروا أن يغيروا الاسم ويقلبوه لأن اسم ممات غير شائع في الأسماء.
صفحه نامشخص