وما أسرع ما تبين في هذه الأيام أنه هنا هباءة لا يراها أحد ولا يعنى أحد أن يراها! إنه هنا كيان آخر غير الكيان الذي عرفه لنفسه في القرية أو المدرسة أو حتى المركز، كان في القرية محتقرا، ومعنى هذا الاحتقار أن زملاءه يحسون بوجوده ويحتقرونه ويأنفون أن يشاركهم في اللعب، حتى إذا تركته أمه قبلوه معهم، فهم على الحالين يحسون به ويدركون وجوده ولينفوه عن مجتمعهم أو يقبلوه، لا يهم.
وكذلك كان شأنه في المدرسة، فكل تلميذ في المدرسة يعلم أن بينهم تلميذا أمه راقصة والقدامى يبلغون الجدد.
وليحتقره منهم من يحتقره وليشفق من يشفق وليرفضه من يشاء أن يرفضه، ولكنه على أية حال من هذه الأحوال موجود عند تلاميذ المدرسة أجمعين.
وكذلك كان شأنه في المقهى؛ يحسون بوجوده حين يوجد وبغيابه حين يغيب.
ولكن هذه القاهرة العريضة لم يشعر إنسان فيها أن فرغلي قدم إليها من الديميرية إلا عمته وزوج عمته، أما كل هؤلاء فلا يدرون من أمره شيئا، وهم أيضا لا يدرون أنه ابن تحية الراقصة التي تعمل حاليا في الموالد والأفراح.
موقف جديد لم يتعود عليه، ولم يدر أسعيد هو به أم غير سعيد. لعله كان أكثر استمتاعا بمشاعره في القرية أن المجتمع يحس به، ويعلم بوجوده حتى وإن صاحب هذا الإحساس وذلك العلم احتقار أو إشفاق أو إذلال.
لعله يحس الآن أن إهمال شأنه أشد وقعا على نفسه من المهانة، ولكنه مع الأيام أدرك شيئا لم يكن قد أدركه، أن أبناء القاهرة جميعا لا يحس أحد منهم بالآخر؛ فكل إنسان في القاهرة عالم قائم بذاته، وحين وصل إلى هذا الإدراك أحس راحة وهدوءا، وحين ألقى نظرة إلى المستقبل داخله الرضا فما يلبث أن يكون قريبا عالما هو أيضا بذاته له أصدقاؤه وله محيطه من زملائه التلاميذ أو من في العمل يحادثهم ويحادثونه، ويظل كل منهم مستقلا عن الآخر بآماله وطموحه ومسالك حياته ودروب مستقبله.
جلس إلى عمه حسين. - عمي أنا تفرجت على مصر. - كلها؟ - أغلبها. - وأعجبتك؟ - لا أستطيع أن أحكم الآن. - ومتى تحكم؟ - لا عجلة؛ فأنا باق بها سواء أعجبتني أم لم ... ولكن! - ولكن؟ - أريد أن أعمل. - ماذا تريد أن تعمل؟ - كنت أعمل في مقهى بالمركز. - ولكن هذا عمل لا يليق هنا. - بالعكس، في المركز كانوا يعرفونني ومع ذلك لم أجد غضاضة في أن أعمل بالمقهى. - لأنهم هناك يعرفونك لا غضاضة، أما هنا فهم لا يعرفونك ولا يعرفون شيئا عن ... عنك، وسيكون عنوانك الوحيد أمامهم جرسونا في مقهى. - ابن الكلب يشير إلى أمي مرة أخرى! طبعا سأجدها أمامي دائما وهل في هذا شك. - ليس من الضروري أن يكون المقهى قريبا من بيت حضرتك؛ في أي مكان غير المنيرة والسيدة. - اسمع! أتريد أن تعمل أي عمل أم لا بد أن يكون عملك في مقهى؟ - أي عمل طبعا. - اترك هذه المسألة لي. - بعد الظهر طبعا. - يا سلام يا سي فرغلي! وهل أحتاج إلى ذكر هذا؟ أتظنني أرضى أن أجعلك تترك المدرسة من أجل العمل؟ - ربنا يبقيك لنا يا عمي حسين أفندي ويطيل عمرك. •••
لم ينجز حسين أفندي وعده سريعا، ومرت الأيام وأدرك فرغلي أخيرا وبكثير من المرارة الحقيقة التي كانت خافية عليه وراء الترحيب الذي استقبله من عمته وزوج عمته. لقد كان الزوجان منفردين في المنزل وقد خلا بهما بعد أن تزوج ولداهما المهندس المعماري ممدوح والطبيب الباطني يحيى. لم يكن مرتب حسين أفندي يتيح له أن يستأجر خادمة إلا إذا كانت طفلة صغيرة سرعان ما تترك البيت ضيقا بكثرة العمل وضآلة المرتب، فكان فرغلي يستطيع دائما أن يوفر على عمته البحث عن بواب ليشتري لها لوازم البيت ولا بأس أيضا أن يعاونها في عمل البيت ما استطاع إلى ذلك من سبيل.
وبنفس تعودت أن تقبل كل شيء أصبح فرغلي هو المسئول الرسمي عن شراء الأطعمة وغيرها من الأسواق، وحتى إذا وجدت الخادمة الصغيرة فهو الذي يقوم بهذا العمل، ولم يجد في ذلك ما يضيق به، بل لعله أحس بشعور من الراحة حين حاول أن يتعمقه، عندما تقدمت به الأيام أدرك أنه كان يريد أن يحس أن بقاءه ليس صدقة وأنه هو يقدم شيئا ذا فائدة في البيت الذي يؤويه.
صفحه نامشخص