إن فراغ الوقت وحش يكشر لها عن أنيابه في كل أيامها. وهو على قسوته رحيم إذا هي قارنته بالفراغ الذي مزق ما بينها وبين ابنها. إنه يحاول كل جهده ألا يكلمها، يحاول أن ينسى أنها موجودة في البيت في اللحظات القليلة التي يقضيها قبل النوم، فهو لا يأتي من المركز إلا قبيل موعد نومه بساعة أو ساعتين على الأكثر. فقد أصر أن يعمل بالمقهى بعد خروجه من المدرسة وحين جادلته أمه ازداد إصرارا، وحين قالت له: ألا تخشى أن يعيرك زملاؤك بأنك تعمل في المقهى.
أطرق وقد عض طرفه في غيظ كظيم: هذا أبسط كثيرا مما يعيرونني به.
ولم تكمل الحوار وعمل بالمقهى.
ما بقاؤها إذن؟
فهيم؛ لم يكن بالنسبة إليها إلا زوجا تزوجته لأنها تصورت يومذاك أن كل أنثى لا بد لها أن تتزوج وإن كان هو أحبها فهذا شأنه . إن كان هناك تردد فلا أثر لفهيم فيه. إنما هي تخشى على ابنها ولكنها وهي تعمل الفكر يزداد اليقين في نفسها أن بقاءها شر لابنها من ذهابها؛ فهي في بقائها تذكره دائما بأنها راقصة وتذكر زملاءه بنفسها وتلح في تذكيرهم بصورة لا تسمح لهم بنسيان هذا الأمر أو التغاضي عنه أو غفرانه. أما إن ذهبت فلا بد أن ينسوا أمرها بعد حين. قد يكون في ذهابها فضيحة ولكنها فضيحة موقتة ما تلبث أن تبتلعها الأيام الطوال، أما بقاؤها ففضيحة مستمرة. ومن وجهة نظر أخرى أي فضيحة في أن تعود راقصة سابقة إلى الرقص مرة أخرى، أي جديد في هذا؟! إنها تكون فضيحة حقا لو كانت ستا محجبة في بيتها وخرجت إلى الرقص، أما الراقصة تعود إلى الرقص فأمر لا غرابة فيه. وما دام لا غرابة فلا فضيحة. •••
حين تركت تحية البيت وهربت، أو ذهبت، اختر أيهما شئت، مع مسرح المولد فجع فهيم؛ فقد كان بسذاجة فائقة يظن أنه أنقذها من التشتت والضياع وتيه الليل وتناثر الحياة ومذلة اليد الممدودة والوسط المتلوي ليوفر لها حياة البيت والزوجية والأمومة، ولم يفكر مطلقا أن مجتمع القرية رفضها أو هو أبى أن يفكر هذا التفكير، مع أنه حين باع نصف الفدان الذي كان يملكه وبنى بيته منعزلا عن القرية هذا الانعزال كان يفعل ذلك بعد أن أيقن أن مجتمع القرية يرفض زوجته، ولم يشأ أن يجعلها تواجه هذا الرفض في بيته الذي كان داخل القرية مع سائر بيوتها. كان يدرك تماما أن انعزال بيته إنما هو في الحقيقة انعزال زوجته عن القرية جميعا، وقد أبقى على بيته في القرية حتى لا يقال إنه باع البيت الذي تركه أبوه، فنصف الفدان قد يهون ولكن البيت لا يهون. ترى أكان هذا هو السبب؟ أم أنه كان في دخيلة نفسه يخشى ألا يدوم زواجه؟
ولكن اليوم وبعد هذه السنوات الطوال وقد دام الزواج فعلا، كان قد نسى في زحام الأيام بعضها ببعض هذه الأفكار، ولم يعد يتصور أنه يمكن أن يعيش بغير تحية. وحين فكر قليلا وجد أنه مطعون ولكن في شيء آخر غير الحب فنوع الحب الذي أحبه لتحية كان من شأنه أن ينتهي في الأيام الأولى من الزواج. وقد كان يحس دائما أنها بعيدة عنه وأنه بعيد عنها، فانفرادهما بالحياة جعل كلا منهما يحس العزلة عن الآخر، فإن الألفة لا تتواصل إلا في مناخ المجتمع العام الذي يشيع الدفء في النفوس، ويجعل الزوجين يحسان إنهما جزء من هذا المجتمع مستقل ومتصل، مؤتلف كل منهما مع الآخر ومؤتلفان كلاهما مع المجتمع حولهما.
يحسان بأنهما يعيشان الحياة في تحية صباح من جار، في طلب أداة من صديق، في مشاجرة يشتركان فيها، في حديث يدور عنهما ويبلغهما به مستمع، أو في حدث يدور بينهما وينتقل عنهما إلى أصحابه، في اشتباك الحياة وفروعها بالفرع الذي يمثلانه منها. أغلب الأمر أن آدم وحواء دبرا قصة التفاحة ليبحثا عن مجتمع يعيشان فيه، وليكن مجتمعا الشر فيه غالب على الخير، وليكن مجتمعا القبح فيه أكثر من الجمال، ولكنه وهو هكذا وبحالته تلك أحب إلى نفس الزوجين من الوحدة والانفراد والعزلة. فهنا في ظل هذا البعد تصبح الحياة جميعها جليدا هيهات فيه لألفة أن تنشأ أو تتواصل. هو طعين لا من حب تحطم، ولا من ألفة تبددت وإنما من شعوره أنه لا يساوي شيئا. حتى الراقصة التي جعل منها ست بيت تركته وذهبت ولم تحفظ جميله، ولم يمنعها الوفاء بل ولم تمنعها الأمومة بل ولم يمنعها الستر أن تظل في بيتها ست بيتها.
إنه طعين، وحائر، ومنهار.
أما فرغلي فكان أمره عجبا، وكان أمر زملائه أعجب.
صفحه نامشخص