خلاصة تاريخ العراق: منذ نشوئه إلى يومنا هذا
خلاصة تاريخ العراق: منذ نشوئه إلى يومنا هذا
ژانرها
البدوي وحده لم تتغير صفاته وإن تغير الزمان، طالع ما جاء في الكتب القديمة من وصف أخلاقه وقابلها بما هو عليه الآن، لا تجد فرقا، حتى ولا فرقا زهيدا. والعادات والسنن التي يجري عليها اليوم هي نفس العادات والسنن التي جرى عليها أجداده في سابق الزمن، وعلى طبق ما نراها مدونة في أسفار الأقدمين الذين جاوروهم أو عاشروهم أو خالطوهم؛ ولهذا تجد كثيرا من الأمور التي أعضل فهمها على العلماء والمؤرخين زال عنها الإبهام وانهتكت أستارها عندما وقفوا بأنفسهم على أهل البادية المعاصرين لنا. البدوي يحتقر الموت ولا يعده شيئا، فهو شجاع مستبسل منذ صبائه، فالموت عنده شرب كأس لا غير؛ ولهذا كثيرا ما يموت قتلا، وهو الموت المرغوب لكل واحد من الأعزة، وقد نعتوا الموت بنعوت؛ منها الموت الأسود: وهو الموت خنقا؛ لأن لون المخنوق يكون أزرق، وهو عندهم أسود، والموت الأحمر: قتلا؛ لأن دمه يسفك، والموت الأبيض: وهو الموت فجأة؛ لأن كثيرا ما يبقى لون المفاجأ بلونه الطبيعي، وإذا مات البدوي حتف أنفه يقولون عنه: فطس أو هلك. والبدوي الضعيف الدنيء خوان غدار، وهو كثيرا ما ينضم إلى القوي من الناس، ويقتل ويغتال من خفره، فإننا نقرأ في التاريخ أن بطليموس السادس انتصر على صهره إسكندر بالاس، فذهب هذا والتجأ إلى أهل البادية ظنا منه أنه يجد فيهم ملجأ منيعا.
إلا أن زبدئيل غدر بآداب الضيافة، وضرب عنق زائره تقربا من بطليموس ودمتريوس، ثم بعث برأسه إلى ملك مصر. ونرى سليمان باشا - وزير بغداد القتيل - احتمى في طريقه بقبيلة الدفافعة، فنزل عند شيخهم ضيفا، فلما درى صاحب البيت أن المحتمي به مهزوم غدر به وقتله. وأقرب مثال رأيناه هو ما شاهدناه في هذه الحرب العامة، فإن أعراب بادية العراق كانت تقتل دائما فلول العسكر، فإن كان المكسورون أتراكا قتلوا الأتراك وحاموا الإنكليز، وإن كان المقهورون إنكليزا قتلوا الإنكليز ودافعوا عن الأتراك. هذه كانت أعمالهم في مدة الحرب التي كانت تدور في هذه الأنحاء بين القومين المتقاتلين، فتلك هي أخلاق أهل البادية، فهي حقيقة مجمع أضداد، وملتقى محاسن ومساوئ على ما افتتحنا به كلامنا، وهو من أغرب الأمور قلما تخطر على بال إنسان. (8-2) في أقسام العرب المختلفة من بادية ومتحضرة ... إلخ
يقسم العرب ثلاثة أقسام كبرى، وهي: أهل حضر، وأهل مدر، وأهل وبر. فأما أهل الحضر أو المتحضرون: فهم الذين يقيمون في المدن، ويعرفون أيضا بالعرب. وأهل المدر: هم الذين يقيمون في ضواحي المدن، يبنون لهم أبنية من الطين، ودأبهم الفلاحة والزراعة ورعاية المواشي وصنع المآكل التي تتخذ من ألبان المواشي. وأهل الوبر: هم البدو أو البادية، أو الأعراب، أو العربان، وهم يقيمون في البراري والفلوات، ودأبهم رعاية الغنم والمواشي، وقطع الطرق، ونهب أبناء السبيل، والغزو الدائم على مدار السنة، وهذه الأقسام وجدت منذ سابق العهد على ما تشهد به الكتب القديمة، ورقم الآشوريين والبابليين والكلدان.
وأهم الأقسام المعروفة اليوم عند العلماء هي: عرب الشمال وعرب الجنوب، راجعين في ذلك إلى ما كان معروفا عنهم في قدم الزمان، فإن المصريين كانوا يسمون عرب الجنوب: «فنطيو»؛ أي سكان الفنط، والفنط عندهم: البلاد الواقعة في جنوبي جزيرة العرب، ويسمون عرب الشمال: «شاسو»، تصحيف العربية «الشص»؛ أي اللص الحاذق؛ لكثرة سلبهم وغزوهم الناس، وقد قال أحد العلماء المحدثين: «إن لأهالي قسمي ديار العرب مميزات لا تنكر، ففي الشمال يرى مصفحو الرءوس، وفي الجنوب الفطح.» قلنا: وهي من المسائل التي تبنى عليها حقائق لا يمكن أن تنكر، وسوف نأتي على ذكر هذين القسمين بعيد هذا.
ويقسم العرب أيضا باعتبار الزمان إلى: عرب بائدة، وهي التي لم يبق لها باق، ويسمون أيضا العرب العاربة، أو العرب العرباء، وكانوا قبل إسماعيل، وهم: عاد، وثمود، وجديس، وأميم، وجرهم، وعبيل، والعماليق، ووبار، وصحار، وجاسم، وجش إرم، وأمم آخرون لا يعلمهم إلا الله كانوا قبل الخليل وفي زمانه أيضا. وعرب مستعربة: وهم عرب الحجاز من ذرية إسماعيل؛ ولهذا يسميهم الإفرنج: الإسماعيليين، أو الهاجريين نسبة إلى هاجر، وهم ليسوا بعرب خلص على ما حققه العلماء، وهم ولد معد بن عدنان بن أدد. وعرب متعربة: وهم ليسوا بخلص أيضا، وهم بنو قحطان.
فلنعد الآن إلى القسمين الكبيرين - قسم عرب الشمال، وقسم عرب الجنوب - فأهل الجنوب: هم العرب اليمانيون، وأهل الشمال: هم بنو معد أو النزاريون. إلا أننا نعلم من التواريخ أن جماعات عظيمة من عرب قحطان اختلطت بعرب الشمال، وطوائف عديدة من النزاريين هبطوا ديار اليمن فاختلطوا بأهلها. على أن الأغلبية بقيت لسكان البلاد الأصليين؛ أي بقي النزاريون سائدين في الشمال، والقحطانيون سائدين في الجنوب، وكان النزاع بين قبائل الفريقين على قدم وساق منذ العهد القديم، ولعل سبب الخصام هو أن أهل الشمال كانوا يدعون أن أهل الجنوب دخلاء في البلاد العربية؛ وذلك أن القبائل القحطانية كانت قد تحاكت بسكان الجنوب كأهل اليمن وحضرموت وعمان، فأدخلت في لسانها، ولعل أيضا في أخلاقها وعاداتها، أمورا كثيرة لم تكن معروفة أو مألوفة بين القبائل الشمالية، فكانت من ثم مزعجة لها مجحفة بها. وهذا النزاع زاد شدة مع الزمان حتى أصبح من الأمور المميزة لقوم من قوم، ولما جاء الإسلام كان الأنصار من سكان المدينة ومن العنصر اليماني معادين للقرشيين أهل مكة؛ لأنهم كانوا نزاريين، وهذا النزاع كان من أضر الأمور للسيادة العربية في العالم، وهو لا يزال قائما بين قبائل الفريقين، ولا سيما في ديار العرب.
وإذا ألقيت بصرك على أشجار النسب العربي ترى جميع اليمانيين من صلب قحطان. ومن الأمور التي تجدر بالتدبر والاعتبار أن القحطانيين معروفون إلى يومنا هذا بمنزلة قبيلة مهمة، محتلة بقعة تمتد في شرقي الحجاز، وكذلك تمتد أيضا من شمالي اليمن إلى البادية العظمى، وفي جنوبي هذه الرقعة تمتد ديار قبيلة كهلان التي خرج منها أهم الأحياء اليمانية.
ويتصل أو اتصل بالأحياء اليمانية الآتي ذكرهم: (1)
بنو طيئ: وقد أقاموا منذ نحو ألفي سنة في جوار جبليهم الشهيرين، وهما: أجا، وسلمى. وقد سمي السريان والفرس العرب كلهم طائيين من باب تسمية الكل باسم الجزء، ولأنهم كانوا متصلين بقبائل هذا الحي أكثر مما كانوا متصلين بسائر القبائل. وبنو طيئ يعرفون اليوم باسم «شمر»، وهو اسم أحد أفخاذهم الذي تسلط على من بقي منهم. وكان مقام الشمريين في قرية اسمها توارن، على ما قاله ياقوت في معجمه؛ إذ يذكر أنها قرية في أجا، أحد جبلي طيئ لبني شمر من بني زهير، ولا يتسمى اليوم باسم طيئ إلا عشيرتان في الجزيرة، وقد بقيتا تابعتين لشمر، لكنهما لا تدفعان لهم خاوة،
7
صفحه نامشخص