خلاصة تاريخ العراق: منذ نشوئه إلى يومنا هذا
خلاصة تاريخ العراق: منذ نشوئه إلى يومنا هذا
ژانرها
في سنة 226ب.م نهض رجل من الهضاب الواقعة في جنوب غربي إيران، وهي الهضاب التي نشأت منها الدولة الكيانية، أو أرض فارس الحقيقية، يطالب بعرش كورش ودارا، وكان اسمه أردشير،
13
من أسرة معروفة في التاريخ باسم جده ساسان، فأنشأ دولة ثالثة متحمسة في الوطنية حكمت على نجد إيران وشوشن، ولقب نفسه بملك الملوك، وكانت الأسرة الآرشكية مع أصلها البدوي وقبولها للأخلاق اليونانية قد انقرضت أو كادت؛ لأن فرعا منها كان قد بقي حاكما في بلاد أرمنية ثم انقرض هو أيضا، وقام مقامه بيت فارسي صحيح النسب. وكانت الدولة الساسانية أصدق وطنية من الدولة الآرشكية، ولم يكن أمراؤها ملبين لسيادة القياصرة الرومانيين، وكانت ذات غيرة؛ لأنها كانت تعتقد بالزرادشتية القيمة، وقد أعيدت جدة هذه الديانة على ما كانت عليه من المعتقد والشعائر بهمة أبناء هذا البيت، وإذا كانت مبادئ الهلنية قد غرسها الإسكندر المكدوني في جميع المستعمرات الإيرانية في عهد الآرشكية، فإنها أخذت بالانحلال والاضمحلال في عهد الساسانية.
وكان الملك الجديد الأعظم الفارسي يطلب إلى سلطة الغرب أن ترد إلى إيران كل آسية. وفي سنة 230ب.م غزت عساكره الجزيرة وأوغلت في سورية وكبدوكية، حيث لم يدخل أحد من الفرس منذ غزوة البرثيين؛ أي قبل 270 سنة، إلا أن الرومان تمكنوا من دفع الفرس إلى ما وراء التخوم، وأخذوا الجزيرة، ولما تربع سابور الملك الساساني الثاني على سرير الملك طرد الرومان من الجزيرة، وقبض على والريانس - القيصر الروماني نفسه - وكان قد هبط البلاد المذكورة للتصيد (260ب.م) وغزا قليقية وكبدوكية، ثم استرجع الجزيرة باسم الرومان أذينة بن السميذع من آل حيران ملك تدمر العربي، وزوج زنوبية، وظل سابور على مقربة من طيسفون، وقلب عن السرير مختلسي الشرق الروماني في حمص، وهما كوياتس، وبلستس، وأبقى الشرق الروماني في الخضوع، فلقبه غليانس بلقب محترم
14 (أي: أوغسطس)، ثم خرجت الجزيرة بعد ذلك بقليل من أيدي الرومان، ثم عاد الإنبراطور كاروس فاسترجعها في سنة 283ب.م، وفي سنة 293 رجع الفرس فانتزعوها من أيديهم، وهذه المرة لم يطردهم الرومان إلى خارج فقط، بل ابتنوا قلعة حصينة في آمدا (أي ديار بكر) على دجلة قريبا من منبعه، وبنو قلعة أخرى في الموضع الذي سمي بعد ذلك تكريت، وهي كلمة مقطوعة من «كستلم تكريتس»؛ أي قلعة دجلة الحصينة.
15
ولما رسخت قدم الرومان في بلاد الشرق الأدنى بفضل ما بثوا فيه من النظام والقلاع والحصون، أصبح عصرهم من أزهى الأعصار في تلك الديار. نعم، إن السلوقيين أسسوا مدنا كثيرة يونانية في دولتهم، لكن الفتن والقلاقل كثرت في زمانهم، فلم يتمكنوا من نشر لواء المدنية الهلنية فيها، فالأيام المجيدة لتلك المدن اليونانية في آسية الصغرى وسورية وشمالي الجزيرة كانت في العهد الروماني، وبقايا المباني القديمة قد ترى إلى هذا العصر في كل موطن من مواطن جوف آسية الصغرى وسورية والجزيرة. وأسس الهياكل والعمد والمسارح والحمامات والميادين المدفونة تحت التلول، أو الأطلال الشاخصة الجليلة الشأن كما في بعلبك وتدمر وديار بكر وتكريت، تنطق بعظم تلك الأبنية وهمم رازتها وبناتها، وهي كلها راجعة إلى العصر الروماني، وتشهد على ثروة أصحابها ورقي حياتها التي كانت تطوى في تلك الأرجاء. نعم، ليس للآداب اليونانية اللغوية التي نشأت في الشرق الروماني الابتكار والفضاضة اللذان كانا لها في القرون التي سبقت الميلاد، لكنها كانت ثمرة أعمال جماعة مهذبة، حافظت على ما اتصل إليها من تلك الآداب اليونانية إن لم نقل إنها زادتها. وبين أسماء المشاهير من كتاب اليونان في العصر الروماني طائفة صالحة منهم منسوبة إلى مدن آسية الصغرى وسورية، من ذلك: ديون الذهبي الغم من بروسية، (وهي برصة الحالية) في بثينية (سنة 40-115ب.م)، ولقيان السموساطي (الشمشاطي) في أعالي الفرات، وهو كاتب صاحب مبتكرات، قوي العارضة في الآداب اللغوية اليونانية (120-180)، وكان لقيان سوري المحتد، ولم يتلق اليونانية إلا بعد أن بلغ أشده.
ولما تنصرت الدولة الرومانية اليونانية الأفكار بقيت ربوع الشرق تنقل ما يتيسر لها من ثمرات الحضارة الهلنية النصرانية، فكتاب سورية والجزيرة وضعوا مؤلفاتهم بالسريانية، فراجت الأفكار الدخيلة في سوق آدابهم أي رواج، وتضلعت تلك اللغة من التعابير والمصطلحات اليونانية الأصل، وازدادت ألفاظا جديدة؛ إذ اضطرتهم الحاجة إليها، فبلغت مبلغا لم تبلغه قبل ذلك العصر. وأما في آسية الصغرى (الأناضول) فلقد نبغ فيها فئة من الآباء الكتاب برزوا في تآليفهم اليونانية كل التبريز، حتى ليخال القارئ أن اليونانية لغتهم الوطنية، وهم جماعة متسلسلة متصلة الحلق، منهم الكبدوكيون الثلاثة، وهم: غريغورس النزينزي (329-389)، وباسيليوس القيصري (329-379)، وغريغورس النيصي (331-396). وأما آسية الصغرى الواقعة في غربي الفرات فقد كانت في ذلك الأوان قسما مهما من النصرانية، والتخوم التي كانت تفصل أوروبة عن آسية (بالنظر إلى الحضارة) لم تكن البصفور، بل دجلة والفرات، وإذا شاهدت نصرانية أوروبة ما حل اليوم بتلك الربوع من الخراب والدمار والتقهقر، ترى أن جزءا من أجزائها فني واضمحل. (20) الصنائع والفنون والريازة (فن البناء قبل الإسلام في بابل وآشورية وديار اليونان والرومان)
الصنائع والفنون على اختلاف ضروبها وأنواعها تجتمع كلها في واحدة، هي الريازة؛ أي صناعة البناء، بموجب قواعد وضوابط معلومة إذا راعاها الباني أقام ما يشيده على أسس متينة، وحفظه من السقوط أو التداعي الوشيك، بقدر مراعاته لتلك الأصول المعينة على إبقائه أو تخليده. وأهم الصنائع والفنون التي تشترك في الريازة أو تحسنها هي: النحت، والحفر، والنقش، والرسم، والتصوير. هذه هي المهمة. ثم تتفرع فروعا مختلفة وتنتقل إلى غير البناء فتنجلي بمظاهر متلونة وفي مواد شتى، ففي الريازة تظهر أقوم العلوم وأضبطها، كالرياضيات والحساب والهندسة وعلم المناظر، وكذلك علم العقائد وعلم الأخلاق، وسر تقدم الحضارة بفروعهن. والريازة كسائر العلوم والفنون والصنائع، نشأت جنينا، فحبت، فدبت، فترعرعت، فشبت ، فاشتدت حتى اكتهلت.
كانت المغاور والأكواخ أول سكنى البشر، واتخذت المواطن العالية وفرج الغابات من أوائل معابدهم، ووضع الطين طبقات، أو نضدت الحجارة ركاما، فكانت أوائل هياكلهم. وقولنا هذا لا يدفعنا إلى أن نستنتج أن الإنسان الأول كان وحشيا أو همجيا، بل إن التمدن المادي القليل النشوء قد يجتمع مع حالة عقلية وأدبية بعيدة الشأو، وما ابتدعته ضرائر الحياة وسذاجة الأذواق رقاه شيئا فشيئا الإمعان في الحضارة والشعور بالجمال وتطلب دعة العيش والتأنق فيه، فجاءت المباني بعد ذلك أصح هندسة وأرضى للذوق وأدل على أن أصحابها كانوا ذوي دراية ودربة. (20-1) في بابل أو في بلاد الكلدان
صفحه نامشخص