خلاصة الیومیة والشذور
خلاصة اليومية والشذور
ژانرها
رأيت رجلا ذا قدم في هندسة البناء راسخة، وشهرة في سائر فنون الرياضة ذائعة، وكنت أسمع أخاه يقول: لو كان أخي في أيام خوفو لما بنى الهرم الأكبر أحد سواه، ولو حضر بابل يوم اندك صرحها لما دكه الله، ولكن رأيته يطأطئ على يد صعلوك يسيل مخاطه على سباله، ويجري لعابه على لحيته فيقبلها ظهرا لبطن ثم بطنا لظهر، فقلت: هذا رجل يشيد الهياكل إلا أنه يعبد الأصنام، ويعرف نسب الأعداد والأرقام، ومقاييس الأجسام والأحجام، ولكنه لا يعرف الطول من العرض، الخلف من القدام في علم الاحترام.
هذا نصيب مهندس كبير من هذا العلم، فما ظنك بالجهلة؟! وماذا يبلغ أن يكون جهد السوقة السفلة؟!
تقول لك آداب السلوك: احترم من ينفعك، وتقول لك آداب الصدق: احترم من ينفع الناس، والقصد بين المذهبين أن تحترم من لا يسعك احتقاره سواء في سرك أو في علانيتك، أما الناس فيحترمون من يخافون شره أكثر من احترامهم من يطلبون بره، وربما شاب احترامهم لأهل البر بعض الرياء وأما احترامهم للظلمة والطغاة، فخالص لا شائبة للرياء فيه، بل هو احترام لو أكرهوا أنفسهم على تركه لما استطاعوا.
ويا رب فتى مبتدئ في هذا العلم يخرج من كنف أبيه أو أستاذه ويمضي على رأسه حائرا لا يعلم من يحترم ولا كيف يحترمه، ولا يعلم من يحتقر ولا كيف يحتقره، وتراه يغالي باحترامه ويضن به على من لم يكن أمة في رجل، وعالما مجتمعا في واحد، ويمسك بميزانه وقد وضع في إحدى كفتيه صنجة النبوغ وصنجة الأخلاق وصنجة السمت وصنجة الرئاسة وصنجة الثروة، وغيرها من الصنج التي يوزن بها الرجال، ويذهب بالكفة الأخرى عله يجد في الناس من يملؤها ويثقل فيها، فما هي إلا دورة أو دورتان في الطرق والبيوت والأسواق والمحافل حتى يئوب وقد رفع كفته أكثر الصنج، يرفعها واحدة بعد واحدة ولا يدع في الكفة إلا صنجة أو اثنتين، وهما في الغالب صنجة الرهبة وصنجة الطمع، ثم لا يمضي غير يسير حتى يصبح وهو لا يرجح في ميزانه إلا أخف الناس وزنا عنده، ولا يخف فيه إلا أرجح الناس وزنا عنده، وحتى يكون بين ظاهره وباطنه في الاحترام أبعد مما بين الأرض والسماء.
ولقد هالني هذا الأمر وخفت منه على آداب المبتدئين، فعن لي أن أدعو لجنة من العلماء إلى وضع كتاب واف صريح في علم الاحترام، يعصم الناس من الخلط والخبط فيه ويحجزهم عما يتخلله من الدهان والملق، فاستقر رأيي على هذه الفكرة أياما، ولكنني رجعت إلى نفسي فقلت: ومن يا ترى يشرح للناس مسائل هذا الكتاب؟ وأي أستاذ يرضى بأن يعلم الناس علما يحتقرونه به؟! ألا يكون شأن الأساتذة في هذا الكتاب كشأن الفقيه المنافق في كتب الدين، يلقن الناس منها ما يدر عليه الرزق، ويوطئ له الأعناق، ويعمي عنه العيون، ويتركهم من الدين القويم في جهل مقيم، وعن اليقين في ضلال مبين؟!
فيئست من أن يكون للناس قسطاس صادق المعيار، أمين على الأقدار، ورأيت أن أفضل ما يصنع العلماء أن يشتغلوا بعلومهم التي انقطعوا لها، وأن يدعوا كلا وما يهتدى إليه في علم الاحترام.
جمجمة الإنسان
أذكر فيما قرأت من حكايات الفرس حكاية يروونها عن النبي عليه السلام؛ زعموا أنه أصحر ذات يوم قائظ ومعه الصحابة فنزل في شجرة باسقة وإلى جانبها غدير ماء مصطفق رقراق يشوقك النظر إليه إلى الشرب منه، فلما اشتد أوار الظهيرة عطش النبي، فقام إلى الغدير فتناول منه بجمع كفيه، وشرب فوجد أبرد ماء وأعذبه، وأصفى ورد وأطيبه، ثم عطش مرة ثانية فعاد إليه فترشف منه رشفات روته من غلة العطش ولم تروه من عذوبة الماء وحلاوته، وذهب في المرة الثالثة فوجد على الشاطئ إناء فأخذه وملأه من الغدير واجترع منه جرعة فإذا تلك العذوبة ملح زعاق، وإذا صفاؤه الضاحك البشوش قذر لا يطاق، فمج الماء من فمه ونظر في الإناء فألفاه نظيفا ولم يتبين فيه ما عساه أن يكون منشأ هذه الملوحة والقذارة، فرفع بصره إلى السماء متعجبا، وكأنه يسأل الله عن سر هذه المعجزة وماذا أراد - جلت قدرته - بهذه العبرة، ويقول كيف ينقلب الماء في لحظة من طعم إلى طعم والغدير واحد والشارب واحد، فما ارتد طرفه حتى أنطق الله الإناء في يده، فقال: لا تعجب يا نبي الله فإن في التراب الذي صنعت منه ذرة في جمجمة إنسان، فهذه الذرة هي سبب هذا التغير، ولو عللت يا نبي الله من الماء براحتك كما نهلت لما أنكرت من طعمه ما أنكرت.
ما أراد واضع هذه القصة أن يقول إن في جمجمة الإنسان مرارة كمرارة الحنظل ترشح في طعم الماء كما يرشح الحنظل فيما يخالطه من الأشياء، ولكنه يقول فيما ورى به: إن في رءوس الناس سما حاضرا يرد الطيب خبيثا، ويحيل السائغ المريء كريها مسقما، وإن هذا الجانب المسموم من رءوسهم يضيع عليهم كل ما يدأبون له ويضبون عليه ببقية جوانب رءوسهم التي بها يعملون على رفاهة العيش، ويرغبون في هناوة البال.
إن هذا السم الذي في رأس الإنسان يضني صاحبه قبل أن يضني البعيدين عنه، وكلما كان الرأس قريبا إليه وكثير الاشتغال به كان سمه أفتك وأسرع فعلا، وهذا هو المشاهد المحقق؛ فأول من يلدغ الإنسان نفسه ثم عترته الأدنون، ثم خلصاؤه المقربون، ثم أهل وطنه المعاشرون، ثم الأعداء الحاقدون، ثم من لا يعرفهم ولا يعرفونه من الناس: أبعدهم عنه أسلمهم، وألزمهم له أظلمهم، ولو تسنى لامرئ أن لا يعيش إلا مع من لا يكترث لهم ولا وصلة بينه وبينهم، لما عز على أحد أن يستبدل أقصى الناس عنه بألصقهم به، ولقد جعل السم في ناب الأفعى وقاية لها فصار هو مدعاة هلاكها، حتى إن ما يقتل منها لأجله أضعاف ما ينجو بسببه، وهكذا صار السم الآدمي مقتلا وسلاحا لصاحبه، وداء ودواء له.
صفحه نامشخص