وخطب عبد الله بن عامر بالبصرة في يوم أضحى فأرتج عليه فمكث ساعة ثم قال: والله لا أجمع عليكم عيا ولؤما، من أخذ شاة من السوق فهي له وثمنها علي.
نظرة تاريخية
1
قلنا في صدر هذا الكتاب إن الخطابة فطرية في الإنسان، ولهذا لم تخل منها أمة حفظ التاريخ آثارها، ففي الماضي البعيد كان بوذا يخضع الجماعات لكلامه المنزل، وكانت نبوات إسرائيل تهز الملوك والأمم، وكانت اليونان حافلة بالبلغاء؛ أي برجال قادرين على تحريك الشعب وإثارته لعهد أوميروس وقبل ذلك العهد، ولكن فرقا عظيما بين هذه البلاغة الغريزية التي يولدها وحي الساعة ثم تزول غير تاركة أثرا والبلاغة العلمية التي امتازت بها العصور الراقية؛ حيث كان الخطيب على حظ موفور من الفلسفة والتاريخ، فكان يلقي خطابه بعد التفكير ويمكنه أن يكتبه فلا تزيل تلاوته من حسنه شيئا.
هذه البلاغة الناتجة عن درس واف وثقافة عالية وتمرين متصل أوجدتها أثينا في القرن الخامس قبل المسيح، ولا بدع فقد كانت أثينا حينئذ في مكان سام من الحضارة وشرف باذخ.
وكانت فرص القول متعددة؛ لأن الأعمال الاجتماعية كافة كانت تقضى جهارا ويجادل فيها أمام الجميع، وكانت المسائل العمومية تدرس في مجتمع الأمة حيث يحق لكل وطني أن يبدي رأيه، وكانت الدعاوى تعرض أمام المحاكم الشعبية فيباح الكلام لمن أراد حتى المتهم، أضف إلى ذلك اجتماعات الأدب والعلم التي لم يكن للسياسة ضلع فيها فكانوا يجتمعون للذة الحديث والاستمتاع بخطيب بارع يتحدث إليهم في موضوع ما كالثناء على الأبطال الذين يموتون في سبيل الوطن أو غير ذلك.
وأشهر خطباء هذا العهد برقليس وأزدكرات وأشين وديموستين، وقد كان كل من الآخرين زعيما لحزب سياسي فقضيا العمر في عراك محتدم الوطيس، والغاية واحدة هي استقلال الوطن.
كان فيليب ملك مكدونيا ينتهز فرصة الخلف القائم بين اليونان للوصول إلى إخضاعهم بالقوة أو الحيلة، وكانت أثينا منقسمة على نفسها، فقسم محافظ على ماضيه المجيد غير راض عن فيليب، ولكنه ضعيف الهمم لما ساور الأخلاق من التخنث فلا قبل له بالإقدام على أمر ذي خطر، وقسم يريد التحالف مع فيليب. وكان ديموستين حاملا لواء الحزب الوطني وأشين الحزب المكدوني، وهذا الاختلاف في موقف الخطيبين خلع مسحة خاصة من البلاغة على كل منهما؛ فلم يخل كلام أشين من الزخرفة، بينما كان ديموستين كله روحا وعصبا، وكانت بلاغة ديموستين مرآة صادقة لخلقه القوي الشديد ونفسه الملتهبة، فكانت تنم عن عزيمة أدبية لا تقهر يصرفها ذهن صاف ومنطق محكم وإباء عظيم ولسان هجام، فكان تارة جادا وطورا هازلا، يستخدم العقل حينا والعاطفة حينا آخر، هادئا غضوبا ساميا بسيطا، وحتى اليوم لا تزال خطبه حافظة أثرها، فنشعر به عند قراءتها كأنما صوته يدوي في آذاننا.
وكان صوت ديموستين آخر ما سمعته أثينا، فإن البلاغة لا تعيش بدون الحرية، وقد جاء انتصار مكدونيا ضربة قاضية عليها، فبقيت أثينا مدينة العلم والأدب وملاهي العقل، ولكن منابرها أقوت من تلك النغمات الساحرة. إن الذي جعل أثينا عاصمة اليونان هو حياتها السياسية، فلما ذهبت أغراض السياسة منها أصبحت كباقي المدن، وامتدت فتوحات الإسكندر ناشرة بذور اليونانيين في الشرق، فقامت عواصم جديدة كالإسكندرية وأنطاكية وبيزانس، وبقيت أثينا كمعرض يؤمه كل من أراد الدرس أو التذكار.
ولم يبلغ خلفاء ديموستين شأوه في الخطابة، ولكن إليهم يرجع الفضل في نقلها إلى الذرية، فإن المدارس التي أقاموها في الشرق كان يحج إليها الناس من كل صوب لتلقي هذا الفن، وعلى هذا الوجه لقنوا الرومان أسرار بلاغتهم؛ فتعشقها هؤلاء وأخذوا يدربون عليها فتيانهم كما يدربونهم على الحرب والحكم إلى أن ظهر شيشرون الذي يعده العارفون أعظم محام لذلك العهد، فأرجع للخطابة مجدها السابق وسطع نوره في سمائها كما سطع من قبل نور ديموستين، ثم هوت الخطابة ثانيا وانطوى بساط عزها باستعباد أوغسطس روما كما استعبد فيليب وإسكندر أثينا.
صفحه نامشخص