وإذا نظرت فيما كتب هيكو أو نظم ظهر لك أنه لم يكن يتخذ غير لغة الخطابة، كأنما هو يتمرن على الدور السياسي الذي كان مخبأ له في طيات الزمان.
وكذلك لامارتين فقد حرك أوتار قيثارته على منبر السياسة فأفلح خطيبا مثلما أفلح شاعرا.
وكما كان بيرون الشاعر خطيبا كان جورس الخطيب شاعرا، وقد روى مؤرخوه أنه وهو في العشرين كان يتمشى كالملهم على شواطئ الكارون مرددا في الفضاء نثره الجميل، وله في كتابه «حقيقة العالم المحسوس» صفحات شعرية خالصة كأنه تحت وميض الإلهام وبين عوالم الأحلام يسائل الوجود من كل نواحيه، وينحني نحو الأرض واضعا أذنيه عليها مصغيا بروحه إليها كمن يجس أو يبحث عن نبض العالم.
ومثل جورس كليمانصو فهو في كتابته وخطابته شاعر. لما اشتدت الأزمة السياسية بين فرنسا وألمانيا وانفرجت مسافة الخلف في حادثة أغادير ذهب جورس إلى برلين؛ ليخطب في زملائه الاشتراكيين فأبت الحكومة الألمانية عليه الكلام وأرجعته من حيث أتى. وكان كليمانصو يومئذ يحرر في جريدة الفجر فكتب فيها قطعة خالدة من النثر الشعري نورد للقارئ ما يحضر للذهن من مطلعها:
إن منع الكلام عن جورس يعرض المسيو بيلو ذلك الستار الذي يقوم من ورائه غليوم الثاني إلى سهام الانتقاد المر. ما الفائدة أن يرث الإنسان أعظم سلطة عسكرية في العالم، وأن يمشي في زرد الحديد، ويستل سيف الله الذي لا يفل، ويتغنى بالنار والبارود، ويملأ الآفاق وعيدا؛ إذا كان يخاف من رجل أعزل سلاحه الكلام؟ ... يالها من شهادة ساطعة لعظمة الفكر! ...
والمطلع على حالة السياسة لذلك العهد وما كان عليه غليوم من الحدة والخيلاء؛ يدرك ما في هذه الأسطر القليلة من البلاغة.
والأمثلة كثيرة على وجود العاطفة الشعرية بقوة وغزارة عند الخطباء، غير أنها ليست واجبة الوجود، فكما أن في المصورين من لم يبلغ شأو ليونارد ده فنسي، فمن الخطباء من لا يعرف هذا الغليان، ويستطيع بكلمة أو صورة أو صوت أن يحرك العواطف ويثير الأشجان. هكذا كان والدك روسو أحد زعماء الفرنسيين في العصر الغابر القائل في إحدى خطبه هذه الكلمة المأثورة: يجب على المالك أن يعمل وعلى العامل أن يملك.
2
وفي العرب كثير من الخطباء الشعراء أو الشعراء الخطباء، وقد ذكر الجاحظ فئة غير قليلة منهم، نقتصر هنا على ذكر بعضهم مثل: قس بن ساعدة الإيادي، والطرماح والكميت وغيرهم، ومن هؤلاء بشار الأعمى، وكان شاعرا راجزا سجاعا خطيبا صاحب منثور ومزدوج، وكلثوم بن عمر وهو القائل:
إني امرؤ هدم الإقتار مأثرتي
صفحه نامشخص