وكان كل شيء من حولها رطبا ومظلما يبعث على الطمأنينة والاستمرار في النمو لولا ذلك الشيء الغريب الذي كان يحدث أحيانا، لو كانت تعرف تلك الأحيان أو تستطيع تخمينها ربما كان في إمكانها أن تستعد، ولكنه كان يحدث مفاجأة بغير توقيت أو ترتيب، كان الصوت الغريب يبدأ أول الأمر، ربما هو صوت أمها لأنه ينبعث من فوق، لكنها لم تكن تلتقط الكلمات، فهي ليست كلمات وإنما همهمة أو زمجرة أو نهنهة، نهنهة عنيفة؛ لأن جسم أمها يهتز ويرتج ارتجاجا شديدا، لولا أنها تمسك بسرعة في الجدار المهتز، وتغرز فيه أصابعها الرفيعة الخالية من الأظافر، ربما كان من الممكن أن تنفصل عنه وتسقط في البئر، لم يكن بئرا بمعنى البئر حيث يكون الماء ساكنا، لكنه أشبه بدوامة البحر تدور وتدور وتضيق وتضيق حتى يصبح مركزها كالثقب المظلم السحيق الذي يكمن فيه الموت.
وتظل قابعة في مكانها متشبثة بالجدار ملتصقة به التصاق القملة بجلدة الرأس، وعيناها المرهفتان من تحت الجفنين المغلقتين ترتجفان في انتظار ذلك الشيء الذي سيبرز من الثقب، وتكتم أنفاسها حين يلمع في الظلام ذلك النصل الطويل الحاد، بطرفه المدبب اللامع يمتد نحوها كعين كبيرة براقة، وترتعد، وتضم أطرافها بعضها إلى بعض وتحشر نفسها في ثنية عميقة داخل الجدار اللزج، ويظل الطرف المدبب يتذبذب حولها كوحش أعمى يشم الفريسة ولا يراها، وقد يرتطم طرفه الحاد بمؤخرتها فتنقبض خلاياها بسرعة؛ لتوقف النزف وتطوي في بطنها الجرح. •••
وولدت «عين» رغم إرادة أمها وتحت حاجبها الأيسر ندبة صغيرة كالجرح القديم، لو تعرف كيف ولدت، ربما فجأة في لحظة واحدة أو ربما بالتدريج في لحظة طويلة بطيئة امتدت الليل بطوله، كانت أمها نائمة فوق الأرض والصمت من حولها إلا صمت الهواء وهو يهز جدران الخيمة هزا خفيفا، وشخير الأب الخافت المتصل والذي قد ينقطع لحظة حين ينقلب من جنب إلى جنب لكنه سرعان ما يعود خافتا ومنتظما كدقات الساعة.
وفجأة توقف الشخير، فقد فتح الأب عينيه الضيقتين على صوت أنة خافتة، ورفع رأسه من فوق الأرض لينظر إلى زوجته، كانت نائمة على جنبها في الطرف الآخر من الخيمة، لكن بطنها الكبير المنتفخ كان ممدودا أمامها ويكاد يصطدم به لولا قالب الطوب الذي وضعته بينه وبينها، وأغمض عينيه لينام مرة أخرى، لكن أنة أخرى عالية قليلا جعلته يجلس في مكانه، وبدأت الأم أنينا خافتا منتظما فرفع عينيه نصف المغمضتين إلى شريط السماء الرفيع الذي يظهر من فرجة باب الخيمة، كان الليل لا يزال مظلما وأحس أنها لا بد وأن تلد الليلة، فالنساء لا يلدن إلا بعد منتصف الليل، ومد يده في هدوء وسحب الغطاء الوحيد من فوق جسدها، إنها امرأة خلقت لتلد وعليها أن تتحمل آلامها، أما هو فقد أدى واجبه وليس عليه إلا أن يواصل النوم في العراء.
وفتحت الأم عينيها الواسعتين الغائرتين فلم تر إلا ضوءا خافتا يدخل من فرجة الباب، وبدأ الهواء يشتد وتشتد معه اهتزازات الخيمة، وكانت الآلام قد زحفت من بطنها إلى ظهرها وراحت تضغط على عمودها الفقري بما يشبه سكينا حادا يهبط ببطء وهو يشق لحم ظهرها، ووضعت ذيل جلبابها بين فكيها لتكتم صرخاتها وتحمي لسانها من أسنانها، وأمسكت بيدها في عمودين من أعمدة الخيمة الثانية في الأرض، وأسقطت عليهما ثقل آلامها.
وأصبح كل شيء يشتد يشتد، اهتزازات الخيمة بفعل الهواء الجامح واهتزاز العمودين تحت يديها، والآلام تتابعت من كل جانب بسرعة وبعنف حتى بلغت ذروتها، وفي تلك اللحظة التي يبلغ فيها الألم ذروته لا يصبح الألم ألما إنما شيئا آخر، ربما يصبح النقيض أو ربما لا يصل إلى النقيض تماما.
في تلك اللحظة فتحت الأم عينيها، ربما كانتا مفتوحتين من قبل لكنها أحست وكأنما هي تفتحهما وترى ما حولها، كان هناك الركن الآخر من الخيمة ويطل من تحت الغطاء البالي خمسة رءوس صغيرة بشعورها الطويلة، ونظرت بين فخذيها فرأت الجسم العاري الصغير يتلوى كالدودة وقد انكفأ فوق وجهه وارتفع ردفاه الصغيران في الهواء، وامتدت يدها بغير وعي لتقلبه على ظهره، ودارت عيناها الواسعتان الغائرتان مع دورة الجسم الصغير لتستقرا على الشق الرفيع أسفل البطن الأملس الصغير، وسقط جفناها فوق عينيها فأخفاهما تماما ولم تعد ترى إلا سوادا حالكا، وبدأت تحس ألما جديدا يكاد يشطر ظهرها شطرين، ويمتد ما بين بطنها وفخذيها كالجرح العميق الغائر، ينزف بغير توقف دما باردا متجمدا، وتحرك جسدها الثقيل لينقلب فوق الجسم الناعم الصغير، وربما كان من الممكن أن يظل جسدها على هذا النحو لولا أن «عين» كانت قد عرفت كيف تقاوم الموت؛ فراحت تضرب أمها بيديها وقدميها واستطاعت أن تنزلق بجسدها الصغير الناعم من تحت فخذيها.
ولم تعرف «عين» متى بدأت ترى الأشياء وتحدد معالمها ، كانت عيناها مفتوحتين دائما لكنها لم تكن ترى إلا كتلا كبيرة تتحرك، ولم تكن تستطيع أن تعرف أمها إلا من صوتها العالي ورائحة لبنها، فتتسلق ساقيها وذراعيها وتدفن رأسها في فتحة ثوبها تبحث عن ثديها، وتزحف شفتاها النهمتان فوق الثدي الضامر حتى تعثر على الحلمة السوداء؛ فتقبض عليها بفكيها الصغيرين بغير أسنان، وتتمنى في كل مرة أن تبقى على هذا النحو حتى تشبع، لكن الثدي كان يجف قبل أن تشبع وتشدها أمها بعيدا عن صدرها.
كانت تبكي أول الأمر وترفس بقدميها الهواء، لكن أحدا لم يكن يسمعها فكفت عن البكاء، وأصبحت تحملق من حولها في الأشياء، كان هناك الجدار المخروطي الأسود يرتفع من فوقها ويقترب ويقترب حتى يلتصق بغير سقف، وكانت عيناها الواسعتان السوداوان تتعلقان بذلك الشق الطويل في الجدار والذي ينفذ منه الضوء، كانت تريد أن تقف على قدميها وتطل من ذلك الشق، وأسندت يدها على الجدار وحاولت أن تقف لكن الجدار اهتز فوقعت على الأرض، واتسع الشق قليلا ولأول مرة ترى وجه أمها، ربما رأته من قبل كثيرا لكن الملامح بدأت تظهر أمام عينيها من خلال الدخان، كان الدخان كثيفا لكنها استطاعت أن ترى العينين الواسعتين الغائرتين والأنف الكبير المدبب والشفتين الجافتين المزمومتين تنفرجان من حين إلى حين عن زمجرة أو همهمة كاشفة عن أسنان كبيرة بيضاء تتوسطها سنة حمراء.
لم تكن تعرف ما هذا الدخان الكثيف الذي يتصاعد في وجه أمها، فزحفت على يديها وقدميها وأمسكت في ذيل أمها، واستطاعت أن تشب إلى فوق لتتسلق ساقيها الطويلتين، كانت تريد أن ترفعها أمها إلى فوق؛ لترى ما هذا الدخان الذي يتصاعد في وجهها، لكن أمها كانت تظل واقفة مكانها، وحينما يشتد إصرارها وتشبثها ترفسها بعيدا عن ساقيها وهي تزمجر وتلعن يوم مولدها.
صفحه نامشخص