لا أذكر أنني كنت أتنفس، لم يكن هناك هواء، لكني لم أكن أحس بالاختناق أو الرغبة في الهواء، بل إنني رغبت في أن أختنق، في أن تنضغط ضلوعي أكثر فيفرغ صدري من الهواء، ويفرغ بطني من الهواء، وتنعصر كل خلية من خلاياي ليخرج ما فيها من فقاعات الهواء، كنت أحس فقاعات الهواء في جسدي ورأسي كالأورام الصغيرة تضغط على اللحم والعروق والعصب.
كنت أنضغط، وأورامي الصغيرة تنضغط معي حتى تنفقئ؛ فإذا بها تزول الواحدة وراء الأخرى في تتابع غريب وانتظام غريب، وزالت كلها إلا واحدة لم تنفقئ ولم تزل، وظلت وحدها تدور كالدمل الصغير، أو كالحبة تدور بحملها وتمتلئ بالهواء والماء وتنتفخ ولا تريد أن تنفجر.
حينما خرجنا من تحت المكتب في ذلك اليوم لم تكن هي انفرجت بعد ولم نكن نحن تباعدنا بعد، كانت أصابعي لا تزال تتفكك من أصابعه، وحينما نظرت إلى أصابعي خيل إلي أنها ضغطت وكبست فصغرت ونعمت وبرمت أطرافها، وخرجت من الجريدة وأسرعت إلى عيادتك، كنت أريدك أن تجسي نبضي، أن تضعي يدك على يدي لتصبح أصابعك فوق أصابعي، وحينما أصبحت أصابعك فوق أصابعي في ذلك اليوم لم أسحب يدي بسرعة كما كنت أفعل، تلكأت وتعمدت أن أتركها تحت يدك فترة طويلة ، كنت أريدك أن تنظري إلى أصابعي وتري أنها أصبحت مبرومة وناعمة، لا تقل نعومة عن أصابعك، لكنك لم تنظري إليها، كنت تنظرين إلى عقرب ساعتك وتعدين النبض، لم أكن أتيت إليك من أجل النبض، لكنك لم تستطيعي مرة واحدة أن تفهميني، لم تدركي أبدا ما الذي يدور في نفسي، وكنت أقول لك إن في أعماقي شيئا يدور، وأمسك بيدي إصبعك وأضعه في المثلث فوق معدتي، كانت النقطة تحت طرف إصبعك مكورة كالحبة تلف حول نفسها وتدور كالنحلة، لكن إصبعك لم يكن يحسها أو يحس حركتها.
ولم تكن حركتها أول الأمر شديدة، كانت لها حركة خفيفة، أحسها في بطني تمشي برقة فوق جدران شراييني كالموجة الهادئة الصغيرة، ثم أصبح لها صوت كالنبض، كالقلب تماما، أصبحت تدق دقات ناعمة ضعيفة تكاد لا تكون مسموعة، لم أكن أسمعها بأذني لكني كنت أحسها تحت كفي ارتعاشات كالذبذبات الدقيقة، كالماء الدافئ ينسكب برفق تحت الجلد، أو كتيار الدم الساخن يمشي في العرق.
وأصبحت أسمعها بأذني دقة دقة، تنتقل من بطني إلى صدري إلى عنقي؛ فإذا بي أسمع النبض في رأسي كأنه نبضي، وحينما أضع يدي على بطني أحس حافتها الناعمة المستديرة وأكاد أمسكها لكنها كانت تنزلق من بين أصابعي وتختفي في أحشائي، وأخفي يدي وراء ظهري وأنتظر، كانت تطفو مرة أخرى تحت جدار بطني، وتسري نعومتها في صدري فأمد يدي من خلف ظهري بهدوء شديد، وأحاول أن ألمسها بطرف إصبعي لكنها سرعان ما تنكمش كالقنفذ، وتغوص في القاع البعيد.
وكما لو كنا نلعب معا، فأضع يدا على عيني لأغميهما، وأخفي اليد الأخرى تحت اللحاف وأكتم أنفاسي، وحينما يسود السكون تبدأ تتحرك من مخبئها، وتمد ذراعا صغيرا ناعما تستكشف به الطريق، فإذا ما اطمأنت عادت إلى السطح وبدأت تلعب وتقفز وترفس الهواء بيديها ورجليها، وأحس رفساتها على جدار بطني، تصطدم وترتد، ككرات صغيرة من القطيفة.
وكان بطني يعلو ويتقوس حولها ليحوطها، ويكاد يصطدم بالمكتب كلما نهضت أو جلست، فأحوطه بذراعي كلما تحركت، وأكاد أحمله بكفي وأنا أمشي، وفي الشارع أرفعه إلى فوق ليراه الناس وأزهو به، وفي السرير أضعه على صدري وأكاد أهدهده.
ليتك لم تكوني طبيبة وكنت أما لتعرفي! هذه اللحظة حين تضمين ذراعيك فلا تقبضان الهواء وإنما جسما صغيرا ناعما نعومة بطنك، ساخنا سخونة صدرك، يبدأ السائل الدافئ يمشي ويتجمع في ثدييك، كأرجل النمل الدقيقة أو كحبات الرمل الناعمة تبلغ من دقتها ونعومتها أن تبعث القشعريرة في كل جسدك.
كانت قشعريرة غريبة تنتشر فوق الجلد كالرجفة، كالرهبة تسري في القلب وتنتقل إلى الأحشاء، وأضع أذني على بطني وأخاف، أخاف أن يضيع النبض من أذني، أن تتوقف الرفسات القطيفية فجأة ويصبح كل شيء هامدا كالجثة، وأدس نفسي تحت الأغطية وأرتعد، وحينما أغمض عيني لأنام لا أنام، وتظل الرعدة في جسمي وفي أحشائي، ويبدأ الجسم الناعم الصغير يهبط، أحس رأسه الدقيق المستدير هابطا فوق عظام ظهري، وأكاد أرى شعره الأسود الناعم من خلال جدار بطني، ويهبط حتى يخيل إلي أنه سيندفع خارجا لكنه لا يخرج، ويظل بين عظمتي الحوض محشورا طول الليل ولا يريد أن يهبط.
وأملأ صدري بالهواء وأكتمه، ثم أضغط بكفي الاثنتين وأدفعه، وأحيانا أقفز على أطراف أصابعي وأهزه ليسقط، وفي الجريدة حين أجلس إلى مكتبي أحس به مضغوطا بين عظمتي الفخذ، فأهب واقفة متوهمة أنه سيسقط لكنه لا يسقط، ويبقى في مكانه لا يتزحزح.
صفحه نامشخص