خواطر الخيال وإملاء الوجدان
خواطر الخيال وإملاء الوجدان
ژانرها
ومن المستغربات أيضا أن إبراهيم الذي تعرف به منصور في المسجد دعاه إلى منزله لأول مرة، وحينما دخلاه نادى إبراهيم أخته زكية وكانت في سن الزواج وعرفها بصديقه، وقال: هيئي له القهوة ثم الغداء، وفي الزورة الثانية لم يجد إبراهيم وفتحت له زكية الباب، وبمجرد دخوله احتضنته وقالت له: قبلني، فخجل وقال لها: دعيني، فقالت له: لا تخف فنحن وحدنا، فعانقها منصور وقبل خديها، وقالت له: إنني أحبك وأريد أن أتزوج منك.
وبعد حين سافر منصور إلى مصر، وبعد خمس سنين ذهب منصور إلى الإسكندرية وزار صديقه إبراهيم وزكية وكانت وحدها في البيت فعانقته كعادتها وجلست على ركبتيه، وأخبرته أنها تزوجت من رجل وما لبثت معه إلا قليلا وطلقت، فسألها عن السبب، فأجابت: إني رأيته أجمل مني ولا أرغب أن أعيش مع امرأة، وإني ما زلت أحبك وأريد أن أتزوج منك، فقال لها: إني طالب فقير، فقالت له: خذ هذه الخمسين دينارا وقدمها إلى أخي مهرا، وبعد قليل أقبل أخوها وتردد منصور في الطلب، وأشارت إليه زكية خفية من الغرفة الأخرى ليخطبها من أخيها، فتردد وانصرف دون أن يفاتحه، وانتهى الجزء الأول على هذا.
هذا الخبر من أوله إلى آخره خيالي لا يقبله العقل؛ إذ كيف يعقل أن فتاة بكرا تهجم على فتى وتنهشه عناقا وتقبيلا بمجرد المقابلة الثانية، مع أن الخليلة بها بعض من الحياء يجعلها متهيبة من عشيقها الجديد زمنا ما إلى أن تتواتر المعاشرة، ومن وجهة أخرى ترى منصورا شديد السمرة فقيرا لا يملك شيئا مع أن زكية تملك بيتا كبيرا وحقولا، كما أن سبب الطلاق غير معقول، وإذا كان لكونه أجمل منها فلماذا قبلته زوجا؟ وأنها لا بد أن رأته مرة أو مرات ولو من خلال النافذة حينما كان يزور أخاها وربما جالسته كما جالست منصور قبله.
وإن هذا الموقف الذي ختم به الجزء الأول لشائن مزر؛ لأنه قبض المهر من الفتاة وانصرف دون أن يفاتح أخاها، وكان من حسن الذوق أن يفاتحه قبل انصرافه حتى لا يثير الظنون ضد منصور بهذا الموقف الرديء، وسنعود - إن شاء الله - لإتمام البحث عندما يظهر الجزء الثاني. (3) كيف تصورنا شاعرة فرنسية؟
قد تحتمل النفوس ما ينفثه الجاهلون من سم التعصب الذميم، وما توحيه إليهم عقولهم الصغيرة من تهكم قارس وبذاءة جارحة؛ فتمر عليها مر الكرام، ونناجي أنفسنا بكلمة واحدة لا يلبث أن يفوه بها اللسان بنغمة إشفاق على هؤلاء المساكين وهي «شفاهم الله».
ولكننا نحار في مفاوز التيه حينما نرى تلكم السخافات والترهات صادرة من إحدى الشهيرات من كاتبات وشاعرات فرنسا؛ ألا وهي «مدام لوسي دولارو ماردروس»، والأدهى من ذلك أنها ألقت محاضرتها التي تسخر فيها من المصريين بل من جميع أهل الشرق في 17 مارس الماضي، ونشرت بمجلة محاضرات جامعة «ليزانال» في أول أغسطس سنة 1923، وهذه الجامعة خاصة بالبنات بباريس، وتلقي فيها محاضرات من آن لآخر يحضرها كثير من الكتاب والشعراء وأعضاء المجمع العلمي وغيرهم من أهل الأدب ومريديه، وكان التصفيق والضحك يدويان في أركان المكان عقب كل جملة مما يدل على الإعجاب بهذا الخلط الممقوت والتعصب الفاضح، لم يكفها ذلك بل انتقلت إلى اللغة العربية وقالت بأنها نشأت من تقليد الإبل والخيل والضأن والكلاب والأسود.
والأعجب من هذا أن زوجها المصري مولدا والمعجب بآداب العربية والذي ساح في أغلب البلاد الشرقية التي تنطق بالضاد، وعرج على الهند لجمع نفائس من الكتب القديمة المخطوطة، ومن ترجم ألف ليلة وليلة والقرآن وملكة سبأ ترجمة سحبت ذيل النسيان على جميع التراجم قديمها وحديثها، لم يراجع زوجه في شيء من هذه الخرافات، فكأن مصر الذي ولد وتربى فيها هو وأبوه وعمه وباقي أسرته التي قضت قرنا تقريبا في مصر وما فتئوا ينعمون بنيلها العذب وشمسها المتألقة وبركاتها الوافرة لم يكن لها عنده ذمام ولا عهد ولا واجب ولا وفاء ولا حب لوطن، ولا للغة فتن بها وقضى عمره في ترجمة شيء عظيم من معجزاتها إلى الفرنسية.
إنني كنت أعجب بهذه الشاعرة هي وزوجها وقد قرأت مقتطفات من شعرها وإحدى رواياتها القصصية المسماة
rex-Voto
أي: «النذر»، وهي من أبدع ما كتب في نوعها؛ إذ تمثل حياة أهل «هونفلور» مسقط رأس شاعرتنا، وهي واقعة في مصب نهر السين وغالب أهلها صيادو أسماك تمثيلا شائقا، وبطلة الرواية تدعى «لوديفين بوكاي» وهي ابنة صياد سكير عربيد لا يقوم بحاجيات بيته، فكانت هذه الفتاة التي مضت طفولتها في التشرد في الطرق أو الهرولة وراء طير أو لتسلق الأسوار لسرقة فاكهة دانية أعظم مؤدب لوالدها السكير، بل لجميع أهل البيت الذي أصبحت مديرته، وقد لعبت أدوارها الشيطانية حينما أجبرها أبوها بأن تتزوج من رجل غني صاحب قهوة وسفن؛ لأنه كان ينفق على أسرتها بكرم حاتمي، وكانوا في فقر مدقع، فأظهرت القبول وأصرت أن تتخلص منه ولو قبل الزفاف؛ لأنها كانت تحب فتى يتيما تربى معها في بيت أبيها ولم تظهر له قط الحب، بل كانت دائما تتهكم عليه بقارس النكات ولا تخاطبه إلا بلهجة الآمر الناهي، وكانت مسيطرة عليه كباقي أفراد الأسرة، وانتهى الأمر بأن تزوجت منه وتخلصت من الأول قبيل الزفاف. وإنها لرواية ذات مغزى عظيم تمثل قوة الإرادة والذكاء وحسن التدبير لفتاة تربت في الطرق ولم تتعلم إلا شيئا يسيرا في طفولتها الأولى، وكان مهذبها الفقر وسوء الحال أو بعبارة أخرى: «الزمن».
صفحه نامشخص