فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير
كطعم الموت في أمر عظيم
مثلك يا أبا الطيب لا يهدأ في داره كما تهدأ العجائز يغزلن بأيديهن، وينلن بألسنتهن كل عدو وصديق، لا يا أبا الطيب، إنك لو أردت الاستقرار لغلبتك نفسك على الجلبة والصخب والاضطراب والضرب في كل مكان، إن لسانك لسان شاعر، وقلبك قلب ملك، وعقلك عقل حكيم، وعزمك عزم جبار، وهذه إذا اجتمعت ضاقت بها الدنيا وغصت بها الآفاق، فكيف تجمعها دار؟ وكيف تحبسها حيطان؟ - هذا هو الذي يؤلمني يا ابن يوسف، وهذا هو الذي يحز في نفسي، لقد رحلت إلى مصر طامعا في أن أنال من الأسود ولاية ألقي عندها رحال آمالي، وأسكت بها صيحات مطامعي، وأتعلل بها عن مطالبي الضخام، ومقاصدي الجسام، فضاع أملي في العبد وخاب ظني فيه. ولقد كنت على اعتزام الرحيل عنه بعد إقامتي سنتين في كنفه تحقق لي فيهما كذبه ومينه وخداعه، وأنه عبقري في بذل الوعود، نابغة النوابغ في إخلافها. كنت على أهبة الخروج من مصر حينذاك، وكان الخروج منها سهلا، فلم يكن كافور قد تشكك في أمري، ولم يكن الأبله يعتقد أني عرفت طوايا نفسه، وأدركت خبثه ومحاله. ولم يعقني عن الرحيل في ذلك الحين إلا أمران: أولهما: عائشة بنت رشدين، فلقد كانت ملكا كريما فوق هذه الأرض يا ابن يوسف، إنها الطهر المصفى والعفاف النقي، والأدب الساحر والذكاء النادر، والحنان الذي ينضح الهموم ويبدد الآلام. - والجمال الذي لم تر الشمس له مثيلا منذ طلعت الشمس. - والجمال الفاتن يا ابن يوسف، جمال الروح وجمال الجسم وجمال الخلق وجمال الابتسامة المشرقة وجمال الحديث الذي يختلب العقول. إنني رجل جاف خشن الطبع شائك الملمس يا ابن يوسف، لم تترك آمالي الضخام في قلبي مكانا لحب ولا موضعا لصبابة، ولم تهف نفسي إلى عبث الشباب ومجون الشباب، ولقد استقر في نفسي أني سهم صوبه الله إلى غرض هو المجد فيجب ألا يحيد عن المجد، وصارم بتار لم يعرف في يوم من الأيام إلا أن يسل من غمده ثم يعود إلى غمده. ما استهواني يوما جمال ولا اجتذبني دلال، ولا فهمت معنى للحب إلا فيما يقول الشعراء، وأنت أعلم بأكاذيب الشعراء، ولكني أحسست نحو عائشة بميل عنيف كفكفت من غربه، وسخرت منه أول الأمر، ولكنه عاودني أعنف مما كان وأشد حينما التقى بميلها، واتصل حبله بحبلها، ولقد كان حبنا عذريا طاهرا منزها عن دنس الدنيا، بريئا من وصمة الشهوات ساميا فوق الحياة ومآرب الحياة، لقد كان حبا يشبه حب الملائكة الأطهار إن كان الملائكة يحبون. فعائشة هي التي حببت إلي البقاء بمصر، وهي التي أماطت عني اليأس وذادت عني هواجس الهموم، وهي التي كانت تضمد تلك الجراح المسمومة التي تركتها في سهام الأسود بلطف حديثها، وفيض حنانها، وسحر بشاشتها. - إن عائشة بهجة مصر وزينة أترابها، وهي أديبة كاتبة شاعرة، وهي فوق ما وصفت جمالا وعفافا وطهرا، ومثلها جدير بحب رجل مثلك يا أبا الطيب، وما الأمر الثاني الذي حملك على إطالة المقام بالفسطاط؟ - حملني على البقاء بالفسطاط تلك الصلة الوثيقة التي عقدتها مع أبي شجاع فاتك، ولعلي اليوم في حل من أن أذيع سرا لأصدق أصدقائي، فقد انتهى الأمر، ومات فاتك وماتت معه آمالي ودفنت مطامحي. - دفنت مطامحك؟ ماذا تريد بهذا؟ - انتظر يا ابن يوسف، لم تكن الصلة بيني وبين فاتك صلة شاعر بقائد، ولكنها كانت أسمى من ذلك وأعظم شأنا، كان فاتك يبغض كافورا وكان كافور يبغضه ويخشى بطشه ويخاف منه على ملكه، فأراد فاتك أن يبتعد عن الأسود فأقام بالفيوم، وقد اتصلت به في الصحراء بالقرب من «كوم أوشيم» مرات، وكثيرا ما دار الحديث حول كافور وظلمه واغتصابه الملك، وعرف منى فاتك بغضي للأسود وما يضطرب في نفسي من آمال، ولمح شدة عجبي من أن يحكم مصر عبد حبشي والدنيا تزخر بسادات العرب وصناديدهم، وكان رجلا شهما ذكيا محبا للعرب مفتونا بعظمة تاريخهم وجلال ماضيهم، فقال: اسمع يا أبا الطيب فإن لي رأيا يسهل تنفيذه إذا حاطته الحكمة وصانه الكتمان. قلت: هات أيها القائد، فقال: إنني عبد رومي رباني الإخشيد، وليس لي في الملك مطمع ولا في عظمة السلطان أرب، ولكني أبغض الأسود كما تبغضه، وأرى أنه مغتصب ملكا لا يسمو لمثله مثله، وأن غيره أولى به وأحفظ له وأقوى عليه. وابن سيدنا «علي» الذي أمات كافور نفسه، وخنق فيه كل همة، وأطفأ وميض كل فضيلة، أصبح أضعف من ذات خمار، وأوهى من القصبة المرضوضة، لا يصلح أن يكون ملكا، ولا يصلح أن يكون رجلا، ورأيي حينما تسنح الفرصة أن أجمع قبائل العرب الضاربة بالفيوم، وأن أكون منها جيشا لهاما نزحف به على الفسطاط، ونقبض على كافور ونريح الدنيا من اسمه، ثم تكون ولاية مصر شركة بيننا على السواء. ما رأيك يا أبا الطيب؟ فدهشت وبهت وكادت تدركني غشية، لقد كانت مفاجأة عجيبة يا ابن يوسف. أكون ملكا لمصر؟ أنا الذي كان يطمع في ولاية صغيرة من العبد؟ أكون ملكا لمصر، وأدبر الأمر من مصر إلى عدن إلى العراق فأرض الروم فالنوب؟
هذا أشبه بالأحلام، وأدخل في باب الأوهام. إن مطامحي لم تصل بي إلى هذا، ولكن ماذا أعمل والخطة واضحة، والغاية محققة؟ فبلعت ريقي ثم قلت: ولكن لكافور أيها القائد جيشا بالفسطاط شديد المراس يدبره قواد عركتهم المواقع وعجمت عودهم الحروب. فأسرع وقال: إنني سأحتال على الرحيل عن الفيوم بعد أن أكون قد اتفقت مع مشايخ قبائلها، وسوف أقيم بالفسطاط حينا أستطيع فيه إغراء قواد كافور وجنوده، وأكثرهم ساخط عليه متبرم بحكمه. وتم الاتفاق والتعاهد على كل هذا يا ابن يوسف، وبقيت بمصر أنتظر الواقعة التي ليس لوقعتها كاذبة، وقدم فاتك إلى الفسطاط وأخبرني أن المؤامرة تمت على خير الوجوه وأدقها إحكاما، وأنه لم يبق إلا أن يشعل النار في الحطب، ولكن الموت عاجله قبل أن يمد يده إلى الزناد، فخابت آمالي وتمزقت مطامعي وطارت مع الرياح أحلامي. أرأيت يا ابن يوسف كيف كان حزني على فاتك شديدا؟ أرأيت كيف ضاقت بي الحياة بعده؟ أرأيت كيف اجتويت مصر وأهلها وخرجت منها محطم النفس مهيض الجناح؟ - لم أعرف كل هذا، ولكن يظهر أن كافورا كان عنده كثير منه. - نعم فإن جواسيسه يكادون يقرءون ما في الصدور. - إذا كنت تطمع في الملك يا أبا محسد! ولكني لم أر في التاريخ شاعرا أحسن القيام على الملك، وأول هؤلاء امرؤ القيس ذلك الملك الضليل، ثم الوليد بن يزيد الخليفة الأموي، ثم عبد الله بن المعتز العباسي. - هؤلاء كانوا شعراء ولم تكن لهم نفوس الملوك وعزائمهم.
وما كاد المتنبي يتم قولته حتى شاهد هو وصاحبه غبارا خلفهما، وسمعا وقع سنابك خيل تعدو نحوهما عدوا، فذهل المتنبي وصاح أدركنا الأسود! أدركنا كافور! يا لخيبة الرجاء ويا لضيعة الأمل! إن هؤلاء بعض جنوده يا ابن يوسف. كنا ظننا أننا نجونا من أظفار الأسد، فإذا هو يرسل علينا ذئابه! سأثب عليهم وأروي منهم صارمي. فصاح به الخزاعي: اهدأ أبا الطيب ولا تسرع إلى الاحتكام إلى السيف. ومضى وقت قصير، فقرب منهما ثلاثة فرسان قد أجهدوا خيلهم شدا وعنقا، وصاح بهما كبيرهم فوقفا ثم قال في صوت الآمر الظافر: ارجعا إلى الفسطاط. فأجابه الخزاعي في رزانة واستخفاف متكلف: بأمر من نرجع إلى الفسطاط؟ بأمرك أنت؟ - بأمر الوالي. - وماذا يريد منا الوالي؟ - يريد المال الذي سرقتماه أول من أمس من دار إسحاق الجوهري، فقد ثبت لنا أن مسافر بن طلحة هو الذي أغار على دار اليهودي، واستولى على جميع جواهره وبعث بها مع فارسين ليبيعاها بالشام. وقد جعل اليهودي ثلث الجواهر أجرا لمن يردها إليه. فقهقه الخزاعي حتى كادت تسقط عمامته، وقال: لله دركم أيها الحراس! ما أشد ذكاءكم! وما أبصركم باقتناص اللصوص! هل ترون في وجوهنا وفي ثيابنا وفي مراكبنا ما يوحي بأننا من اللصوص؟ إنكم أيها السادة الكرام تضيعون وقتكم معنا، فإذا كانت لكم رغبة حافزة للقبض على لصوصكم، فابحثوا عنهم في مكان آخر. - أنتم طلبة الوالي. فصاح المتنبي: إن الوالي أيها الأبله لا يطلب فارسين وكفى، وإنما يطلب لصين. ثم كشف عباءته فظهر تحتها منطقة من النضار المرصع بالجواهر، وبدا سيفه وقد كان مقبضه ونعله من خالص الذهب، وقال: أهذه ثياب لص؟ أهذه عدة لص؟ فهمس أحد الثلاثة في أذن كبيرهم، وقال: ارجع أبا علي ولا تكثر مع السيدين، فإني أخشى أن يكونا من كبار رجال الدولة.
فتراجع أبو علي، وقال: أرجو أن يعذرني السيدان إذا كنت خشن القول عنيفا في البحث، فأنتما تعرفان ما وصلت إليه حال الفسطاط من جرأة اللصوص واستهانتهم بالحكام.
فقال الخزاعي: لا تثريب عليك يا رجل، وإنما الذي أغضبنا أننا كنا نظن أننا أكرم عند الناس وعند أنفسنا من أن يخلطنا مثلك بطائفة اللصوص. - أسألك العفو يا سيدي، وأغلب ظني أن يكون اللصوص قد سلكوا طريقا أخرى. ثم أمر صاحبيه أن يلويا عناني جواديهما، وعاد ثلاثتهم أدراجهم يملئون جنبات الأفق عثيرا وقتاما. وتنفس الخزاعي الصعداء، وابتسم المتنبي ابتسامة ساخرة، وكانا قد قاربا بلبيس فزجوا جواديهما حتى بلغاها بعد ساعة أو بعض ساعة، ورأيا أبناء الخزاعي ورجاله ومحسدا وعبيده ينتظرونهم عند ظاهر المدينة، فحيا المتنبي ابنه وخادمه مسعودا بنظرة عابرة، ثم شكر الخزاعي على حسن بلائه وعظيم ما أسدى في خدمته من عناء ومخاطرة، فسأله الخزاعي عن الطريق التي سيسلكها، فقال: سأخترق الصحراء، وسأسلك المفاوز المجاهيل التي لا يصل إليها جواسيس العبد، وسأرد المناهل الأواجن، وأنزل المنازل التي لا يطرقها إلا أهلها. - إلى بغداد؟ - إلى الكوفة، إلى منبت عظامي ومسرح صباي. منها خلقناكم وفيها نعيدكم. - ومنها نخرجكم تارة أخرى! - ما أظن يا ابن يوسف. ثم التفت فإذا غلام فاره ناضر العود جميل الزي وسيم الطلعة مشرق الجبين، يتقدم نحوه ويمد يدا لتحيته، فحقق فيه النظر ثم صاح: سيدتي عائشة! ماذا جاء بك يا مولاتي؟ وما الذي حملك على اقتحام المخاطر، واتخاذ هذا الزي الغريب؟ - حملني على كل ذلك أن أراك وأن أودعك يا أبا الطيب، ثم تناثرت الدموع من عينيها كما يتناثر اللؤلؤ من عقد انفصم سمطه، ومضت تقول: إذا جفتك مصر يا أبا الطيب وضاقت بك رحابها، فإن فتاة مصرية معجبة بك مفتونة بفنك تكن لك ودا أصفى من سماء مصر، وتفتح لك قلبا أوسع من فسيحات رحابها. إنها تمنحك حبا لو كان في عاصفة لعادت نسيما، ولو مازج الملح الأجاج لصار تسنيما، ولو لمس الهجير لحسده الأصيل، أو خالط الليل ما شكا طوله محب أو عليل. دعني أحمل أوزار قومي يا أبا الطيب، وأبدلك بعقوقهم إخلاصا، وبغدرهم وفاء، وبإهمالهم إجلالا وتقديرا. لقد كان حبنا قدسيا طاهرا كأنه حب الغمام، وكانت نفوسنا صافية كصفاء الملائكة، وكان ودنا روحانيا نقيا كنقاء لآلئ الفردوس. والآن يا أبا الطيب آن أن نفترق، وقد يطوينا الموت قبل أن نلتقي، ولكني سأراك في كل لحظة وسأستمع لك في شعرك كلما رددت قصائدك الخوالد، وأبياتك الأوابد، وسأناديك في اليقظة والمنام، وسأهتف باسمك كلما عصفت بي الآلام. فزفر المتنبي وربت يدها في حنان ورفق، وقال: إن هذه الحياة يا عائشة أضيق من أن تتسع لمثل حبنا الذي لا تحده نهاية، فإذا ضاقت بنا الأولى فإن لنا في الأخرى خلودا ونعيما وظلا ظليلا وعيشا لا يكدره علينا مكدر.
وما كاد يستمر في الحديث حتى صاح مسعود: الرحيل يا سيدي الرحيل. - هل أعددتم الزاد والماء؟ - نعم يا سيدي. فحيا المتنبي الخزاعي، ثم حيا عائشة حزينا كاسف البال، وهو يقول:
لعينك ما يلقى الفؤاد وما لقى
صفحه نامشخص