القاهرة في 11 من يوليو سنة 1925
زارت دارنا منذ أيام عجوز، انقطعت بين دارنا وبينها أسباب التزاور منذ عهد بعيد يرجع إلى زمن طفولتي، إذ كنا في بلد غير هذا البلد، وفي دار غير هذا الدار، وفي محيط غير هذا المحيط، وكانت دنيا حينئذ في أخلاقها وفي شئونها غير دنيا هذه الأيام.
ولست أدري أي ظروف هيأها القضاء لهذه الشيخة الفانية، فجاءت إلى مدينة القاهرة، ثم علمت أين نسكن، وأين نكون من غير الدهر، وأين نكون من أمور الحياة.
لم يعرف زائرتنا صغار المنزل الذين ولدوا تحت سماء غير السماء التي أظلت طوال الأيام، تلك الزائرة، لكن لم ينكرها عجائز البيت رغم ما اتصل بسحنهم من توالى السنين.
ولقد توخيت أن أكون بحيث لا يعطل مجلسي ما قد ينشأ بين ممثلات الماضي من حوار، وبحيث استطيع أن أسمعه أملا في أن أجد درة تكون في طيات تلك الأحاديث المتهدجة، وربما يعثر المرء على موعظة بالغة، تلقيها حاملات الليالي والأعوام.
بقيت طويلا على هذا الحال، أتسمع من القول ما يتصل بعضه بذكريات حياتي الماضية، وخيل إلي أن كل ذكرى كانت تنقلني بأسرع من لمح البصر، فتقطع بي شوطا بعيدا إلى حيث أحل بالماضي الذي أسكن إليه، وأسعد لحظة بصورته البسامة الهادئة.
ولما حانت ساعة نزولي من الدار، ارتديت ملابسي، وخرجت وفي أذني صدى لحديث العجائز، ثم اتخذت سبيلي المعتاد في حارة ضيقة من حارات الحي الذي أسكن فيه، وهناك لقيت شيخا معمما بعمامة حمراء، مرتديا جلبابا أزرق، ذا لحية لم يكمل بياضها، ولم يغادرها قليل السواد، ذا وجه فيه علامات الصبر والأسى، بيده أصناج يدق بها دقا موسيقيا لطيفا على السمع، وينشد ضروبا من الأناشيد القديمة التي تخرج من صدره، أكثر أنغامها وأقلها يخرج من حنجرة تستبقي شيئا من عنفوان الشباب ورنته. •••
وقفت من الحارة في موضع أسمع فيه صوت الشيخ الشادي، وأتبع بنظري حركاته، وأوطن سمعي لما يحمله الهواء من أغانيه ونبراته، التي كنت أخالها لشبح من أشباح الماضي البعيد، ثم انعطف الرجل في منعطف، فتوارى عن بصري، وانقطع صوته عن سمعي، ولم يبق منه إلا الصدى الضئيل.
حينئذ مضيت، ولكن تذكرت أن الفرد لا تكمل شخصيته إلا إذا اتصلت حياته بما يربطها من الماضي بذكريات، وأن الأمم لا تكمل قوميتها إلا بما يذكرها بالغابر ومشخصاته البائدة، وما أتعس امرأ يهون عليه ماضيه، وما أشقى أمة لا تستبقي من تاريخها طيفا يزور.
حول ما لله
صفحه نامشخص