48

الموت الساخر

القاهرة في 25 من إبريل سنة 1924 «أنجل» رجل نحيف الجسم. ممتقع اللون فقير الثياب، له عينان واسعتان، يسفلان جبهة ظاهرة العظم، ويعلوان وجنتين بارزتين. له شاربان رقيقان طويلان مرتفعان، وإذا ابتسم تنفرج شفتاه عن أسنان ناصعة البياض، قوية حسنة الرص والترتيب. وخلاصة القول في وصفه أنه لطوله ونحفه وقلة لحمه ودهنه وابتسامته الخاصة أدنى إلى صورة تلك الهياكل العظمية التي يخلصها الموت من الإنسان بعد زمن قليل. •••

طالما كنت ألقى «أنجل» في حانوت الحلاق. وطالما كان يقص على سوء حاله، مع كثرة عياله وقلة أشغاله. وكثيرا ما كان يثور في حديثه على نظم الحياة. وكثيرا ما كان يسب الفقر، وكثيرا ما كان يسخر من الغني الشحيح. •••

مر زمن طويل لم أر فيه وجه صاحبي هذا، ولم تسمع فيه أذني صخبه على الدنيا، وأنينه من أهلها، وبينما كنت سائرا ذات يوم في إحدى تلك المناهج الكبرى، إذ وصل إلي صوت استوقفني، فإذا بصاحب الصوت هو «أنجل» يبسم لي، ويمد إلي يده، وكنت أكاد أنكر صاحبي القديم؛ لأنه أصبح على غير ما كان عليه من صورة ومسوح. •••

أصبح أنيق الثياب بعد أن كان رثها. أصبح عطر الرائحة نظيفا. أصبح متختما بالذهب. أصبح مترفا بالحلي. أصبح وجهه مضيئا بعد ظلمة. أصبح صوته مليئا بعد تهدج. أصبح «أنجل» غير ما ألفت، وأصبح «أنجل» غير ما عرفت. حياني باسما، وصافحني وثيقا، وكلمني متلطفا رقيقا، وكل ذلك وأنا أنظر إليه ما بين تحديق وترنيق، وكأني كنت مذهولا من مظهر للرغد والنعمة، ما كنت أظن أن ألقى الرجل عليهما في يوم من الأيام. •••

ثم مضى «أنجل» في سبيله، ومضيت أنا الآخر في سبيلي أفكر في أمر هذا الانقلاب الغريب، حتى لقيت رجلا يعرفه، فحادثته في أمر ما رأيت، فقص علي الأمر، وفسر لي اللغز:

ذلك أنه كان «لأنجل» عم بخيل جمع مالا كثيرا، ولم يستمتع به في شيء، ولم يكن له وارث غير «أنجل»، فمات العم، وأحيى موته ذلك الذي كان بالأمس حيا ميتا.

عندئذ مر بخاطري شيء مما يقوله الاشتراكيون في المال ومخلفي الثروات والأموال. وعندئذ فهمت السر في نعمة صاحبي. وعندئذ تجلت لي معنى تلك الابتسامة التي لقيني بها في حاله الجديد. ورأيت في صورتها المتصلة بهيكله النحيف، ووجهه العظمي، ابتسامة الموت الساخر ممن لغيرهم يجمعون. وعندئذ قدرت معنى الأثر الإسلامي القائل: «ينادى مناد كل ليلة فيقول: اللهم اجعل لمنفق خلفا، ولممسك تلفا.»، ثم ترحمت على من قال:

وإن أشد الناس في الحشر حسرة

لمورث مال غيره وهو كاسبه

صفحه نامشخص