خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
ژانرها
المكان المرجح لهذا اللقاء هو مدينة أكسفورد، التي تعد معبرا رئيسيا على نهر التيمز ومقر الجامعة الناشئة. جاء جون من أكسفورد وبالطبع عاد لزيارتها خلال فترة توليه منصب أسقف نورويتش. إضافة إلى ذلك، ظهرت نسخ من العديد من الكتب، التي جلبها دانيال معه عندما عاد من إسبانيا، في مكتبات أكسفورد بعد ذلك بوقت قصير، مما يشير إلى أن دانيال سمح للباحثين بأن يصنعوا نسخا بينما كان هناك. لا شك في أنه يصعب تخيل مقاومة رجل مثله لإغراء التفاخر بالكنوز التي كان قد جمعها.
كان دانيال، الذي اتسم بالتحرر من النزعات القومية والمحلية، وبالمغامرة، والريادة، جزءا من مجموعة من صفوة الرجال ذوي التعليم الراقي الذين قادهم تعطشهم للمعرفة إلى السفر في أرجاء الأرض بحثا عن آفاق مختلفة، سواء كانت جغرافية أو فكرية. ورفضا منهم للاعتماد التقليدي على المرجعية المكتوبة والميل إلى إسناد ألغاز عالم الطبيعة إلى تدبير إلهي، اعتمدوا نهجا جديدا للتعلم استند إلى الدراسة العقلانية وأفكار أخرى اكتشفوها في الأعمال ذات الأصل اليوناني الروماني والعربي المترجمة مؤخرا. لعبت أعمال أرسطو دورا مهما، وترجمت إلى اللاتينية، وكشف النقاب عن كامل إطاره الكوزموجرافي، وهو شيء وصفه تشارلز بيرنت بأنه: «حدث بالغ الأهمية في تاريخ علوم أوروبا الغربية.»
27
كانت محاورة أفلاطون «طيماوس» مصدرا آخر للإلهام؛ إذ حثت الباحثين على فحص بيئتهم بطريقة أكثر عقلانية وتحليلية وعرض اكتشافاتهم بطريقة منطقية، في إطار مخطط منظم، يستند إلى طريقة البرهنة التي تبناها إقليدس ببراعة في أطروحة «العناصر». كتب كل من هيرمان الكارينثي ودانيال مورلي أعمالا من إبداعهم استخدمت المنطق الأرسطي، وطريقة البرهنة ومراقبة عالم الطبيعة، كما فعل العديد من الباحثين الآخرين الذين سوف نلتقي بهم لاحقا.
يوجد كثير من أوجه التشابه بين ما كان يجري في طليطلة في القرن الثاني عشر وما جرى في بغداد في القرن التاسع. فقد جمعت المعرفة وصنفت وترجمت ونظمت في فروع مستقلة من العلم، لكل فرع أسلوبه الخاص وأفكاره ومفرداته الخاصة. وكان هذا الازدهار في السعي الفكري مدفوعا بالتطورات الضمنية نفسها الحادثة في المجتمع والتي اتسمت بها الثقافة العربية قبل ذلك بثلاثة قرون؛ مناطق مختلفة متحدة تحت لواء دين مشترك، وتزايد في عدد السكان والإنتاج الزراعي والتجارة، ونمو المراكز الحضرية؛ مما أدى إلى إيجاد طلب على بنية تحتية ولوائح تنظيمية؛ ومن ثم الإلمام بالحساب والقراءة والكتابة. في أوروبا، اتسمت هذه العملية باتساع نطاق التعليم العلماني، الذي تجلى في نشوء الجامعات باعتبارها المراكز الرئيسية للتعلم في القرن الثالث عشر. ومع اضمحلال مدارس الكاتدرائيات القديمة، تنافس المعلمون في أكسفورد وبولونيا وباريس بعضهم مع بعض على الطلاب؛ مما شجع على الصرامة والدقة الفكرية والأفكار الجديدة وميلاد النظام الحديث للتعليم العالي. مع بزوغ فروع جديدة للعلم، نمت الفروع القائمة بحيث تعين على الباحثين أن يكونوا أكثر تخصصا. فلم يعد من الممكن للطالب أن يتقن معرفة ما بكامل نطاقها. ولعبت طليطلة دورا بارزا في هذا. فقد كانت المدينة جسرا بين الثقافة اليونانية العربية وأوروبا اللاتينية؛ إذ لم تكن مكانا تحفظ فيه المعرفة العلمية في أمان فحسب، وإنما تترجم وتنقل إلى باحثي المستقبل. وفي القرن الثالث عشر، كفل ألفونسو العاشر (1221-1284)، «الحكيم»، كما كان يعرف، استمرار المدينة منارة للعلم والتعاون بين الثقافات. فأنشأ مدرسة من الباحثين اليهود والمسيحيين والمسلمين لترجمة النصوص المهمة إلى اللغة الرومانسية المحلية الدارجة، ودعم بحماسة برنامجا للدراسة والرصد الفلكي. كانت النتيجة «جداول ألفونسين»، المستندة إلى «جداول طليطلة» الأقدم، والتي استخدمت في سائر أوروبا على مدى الثلاثمائة سنة التالية.
كانت طليطلة المكان الرئيسي للترجمة من العربية إلى اللاتينية، ولكنها لم تكن المكان الوحيد. بحلول نهاية القرن الثاني عشر، كان العالمان السياسي والفكري قد تغيرا. وكانت أوروبا المسيحية في تصاعد؛ وأقصي الإسلام أكثر فأكثر إلى الجنوب، عبر إسبانيا، حتى عاد إلى شمال أفريقيا، وخرج من صقلية وأبعد عن بيت المقدس. أثناء القرن الثاني عشر، انتشرت الجيوش الصليبية في أنحاء منطقة شرق البحر المتوسط، محتلة أقاليم وجالبة معها شعورا جديدا بالثقة والإمكانية. جاء في أعقابهم التجار يتبعونهم؛ رجال انتهازيون من دويلات مدن إيطاليا، وضعوا الثروة نصب أعينهم، فاستقروا في المدن الشرق أوسطية وأسسوا مجتمعات تجارية. تاجروا في ثروات الشرق؛ من توابل، وحرير، وجواهر، وسجاد، وقطع أثرية، ومخطوطات، وقايضوا فيها وعقدوا الصفقات، وأبحروا بسفنهم وهي مليئة جمالا وعجبا وحكمة صوب الديار على الخطوط الملاحية الواسعة، ليغيروا أذواق الأوروبيين، وأسلوبهم ومعارفهم إلى الأبد.
هوامش (1)
المكان الذي جرت فيه أحداث رواية أومبيرتو إكو الكلاسيكية «اسم الوردة»، جريمة قتل غامضة تستكشف العالم الفكري لأحد أديرة القرن الرابع عشر. (2)
جلبت نسخة من هذا النص، بالصيغة التي راجعها مسلمة المجريطي، مع تعديل الإحداثيات لتناسب قرطبة، إلى سرقسطة في وقت ما في منتصف القرن الحادي عشر، حيث أعيد إجراء حسابات الجداول لتناسب دائرة العرض المحلية. (3)
ترجمت أربع من هذه الأطروحات من اليونانية على يد حنين بن إسحاق في القرن التاسع. (4)
صفحه نامشخص