خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
ژانرها
13
في بيت الحكمة الذي أنشأه المأمون، تلاقت كل التقاليد الفكرية الكثيرة التي كانت قد وصلت إلى بغداد بينما كان الباحثون الذين وظفهم يترجمونها ويستوعبونها ويبنون عليها، معيدين رسم خريطة المعرفة. كانت قلة فقط منهم عربا من الناحية العرقية؛ كثيرون كانوا فرسا، بعضهم مسيحيون، وبعضهم زرادشتيون، واعتنق كثيرون الإسلام بوصفه طريقة للاندماج مع الصفوة وتسريع وتيرة مساراتهم الوظيفية. وهكذا ازدهر السعي الأكاديمي في ظل هذا المناخ من الثروة والتكنولوجيا والرعاية والتسامح الديني.
شكل 3-5: الرسم التوضيحي الذي وضعه بنو موسى للسراج الذاتي التقلص الذي اخترعوه، من كتابهم المسمى «كتاب الحيل».
كان المأمون راعيا صعب الإرضاء ولكنه كان ذا رؤية مستقبلية، وكان متغطرسا إلى أقصى حد، ولكنه كان طفوليا في حماسه، دائم التساؤل ويتوقع المستحيل من باحثيه. ولحسن الحظ، كان محاطا بأشخاص يمتلكون خيالا وذكاء يتيحان لهم التوصل إلى إجابات، ولم يكن أحد يفوق في ذلك الأشقاء بني موسى. كان هذا الثلاثي العبقري، الغريب الأطوار، يتألف من ثلاثة أبناء لأحد منجمي المأمون في مرو. عندما مات أبوهم على نحو مفاجئ، أخذ المأمون الصبية في كنفه، فعلمهم حسب منهاج الدراسة اليوناني ثم جاء بهم إلى بغداد. استفاد محمد وأحمد والحسن من تعليمهم الممتاز وملكاتهم الفكرية استفادة جيدة، مطبقين معرفتهم بالرياضيات على المشروعات الهندسية العملية؛ فصمموا القنوات والجسور ونظم الري. وأصبحوا لا غنى عنهم لدى الخليفة وأسعدهم ارتقاؤهم إلى مستوى تحدي مطلبه الأجرأ؛ أن يقيسوا له العالم. في الواقع، كان قد سبق القيام بهذا الأمر. فوفقا لتقديرات بطليموس، الذي استخدم معلومات من علماء فلك سابقين عليه، يبلغ محيط الأرض 180 ألف غلوة. لكن لم يوجد أي دليل فيما يخص المقدار الذي كان عليه طول الغلوة؛ وهي تفصيلة صغيرة، ولكنها ذات أهمية جوهرية. غير أن ما عرفه بنو موسى وعلماء الفلك التابعون للمأمون هو أن حسابات بطليموس كانت تستند إلى الافتراض البسيط بأنه إذا كان في استطاعتك أن تقيس درجة واحدة على أرض الكرة الأرضية الكروية الشكل، إذن فكل ما تحتاجه هو أن تضرب هذا الرقم في 360 لتجد المحيط. أرسل فريق من أفضل علماء الفلك إلى سهل سنجار المسطح في شمال غرب العراق. في جوف الليل، قسم الفريق إلى مجموعتين وسارت كل مجموعة في اتجاه معاكس للأخرى؛ واحدة جهة الشمال والأخرى جهة الجنوب. وباستخدام مواقع النجوم، توقفتا عندما قاستا زاوية مقدارها درجة واحدة لمنحنى الأرض. بعد ذلك سارت المجموعتان عائدتين إحداهما باتجاه الأخرى، وقاستا بعناية المسافة التي قطعتاها. بعد ذلك، أخذوا متوسطا للقيمتين، 56,6 ميلا عربيا (ما يعادل 68 ميلا من أميال العصر الحديث)، وضربوا هذا المتوسط في 360 ليحصلوا على مجموع لمحيط الأرض بلغ 24500 ميل؛ أي أقل 400 ميل فقط عن قيمة ال24900 ميل التي قيست بواسطة العلم الحديث. وكان هذا إنجازا باهرا، وخاصة إذا أخذنا في الاعتبار بساطة الآلات التي كانوا يستخدمونها. بالطبع، لم يكن لدى المأمون أي فكرة عن مدى القرب الذي وصل إليه علماء الفلك التابعين له من المجموع الفعلي، ونظرا لأنه كان عازما على الحصول على إجابة دقيقة قدر الإمكان، بعث مجموعة أخرى لتكرر التجربة في الصحراء السورية بعد ذلك بوقت قصير. كان المجموع الذي توصلوا إليه أعلى وأبعد من القياس الفعلي، ولكن بالطبع لم يكن ثمة طريقة يمكنهم أن يعرفوا بها على وجه اليقين.
هذا الإنجاز يمنحنا فكرة واضحة عن المناخ العام في بغداد في القرن التاسع. لقد أطلق بنو موسى وأقرانهم العنان لتخيلاتهم، مسخرين كل ما لديهم من ثروة وفكر في سبيل السعي نحو الاكتشاف والتفوق العلميين. كان بنو موسى يشتهرون على نحو خاص برعايتهم للترجمة. فقد بعثوا بفرق من المندوبين في مهام للعثور على المخطوطات وأنفقوا ثروة طائلة على إنتاج الكتب. وحسبما أورد النديم، دفعوا لمترجميهم 500 دينار في الشهر (كان الدينار الواحد يحتوي على 4,25 جرام من الذهب؛ لذا، استنادا إلى الأسعار الحالية، يعادل هذا مبلغا يقارب 18000 جنيه إسترليني)،
14 «ما يعادل راتب كبار أعضاء الدواوين الحكومية وأكثر بفارق شاسع من حرفي عادي أو جندي.»
15
كذلك كتب الإخوة الثلاثة كتبا خاصة بهم ؛ وكان أشهرها الكتاب المعروف باسم «كتاب الحيل»؛ وهو عبارة عن مجموعة من مائة اختراع أو تعديل ميكانيكي، بعضها تافه وبعضها نافع، تشمل مشعلا مضادا للريح، ومزمارا يعزف وحده، وجرة مضادة للانسكاب، وقنديلا زيتيا ذاتي الضبط. استخدم كل هذه الأجهزة آليات إما سخرت الطاقة الطبيعية، مثل الجاذبية أو الطفو، أو نقلت قوة من جزء من الآلة إلى جزء آخر؛ وكلها ما زال قيد الاستخدام بصورة أو بأخرى. أحد أهم هذه الأجهزة كان ناقل الحركة، الذي اقتبسه بنو موسى من تصميمات كانت مستخدمة في أزمنة الرومان. وصلت هذه التكنولوجيا الثورية إلى أوروبا في أواخر القرن الرابع عشر، وهي مكون حيوي في المحركات من كل الأنواع في الوقت الحاضر. من المؤكد أن «دار الشجرة» التي تعجب منها السفراء البيزنطيون كانت تعتمد على تكنولوجيا صممها في الأصل بنو موسى. كان «كتاب الحيل» مقروءا على نطاق واسع في أنحاء العالم العربي ومن المرجح أن أفكارهم سافرت إلى إسبانيا المسلمة، ومن هناك، مترجمة إلى اللاتينية، انتقلت إلى أوروبا الغربية.
كان من أبرع المترجمين الذين عملوا لحساب بني موسى مسيحي نسطوري شاب يدعى حنين بن إسحاق (809-873). فقد كان يجيد اللغتين السريانية والعربية إجادة تامة، وقد غادر مسقط رأسه في مدينة الحيرة،
14
صفحه نامشخص