خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
ژانرها
ويحل أخيرا يوم الاستقبال.
أول قصر كان سيدخله السفراء هو خان الخيل، بأعمدته الرخامية البديعة. «وكان في الدار من الجانب الأيمن خمسمائة فرس عليها خمسمائة مركب ذهبا وفضة بغير أغشية، ومن الجانب الأيسر خمسمائة فرس عليها الجلال الديباج بالبراقع الطوال. وكل فرس في يدي شاكري بالبزة الجميلة.» من هنا، ننتقل إلى حير الوحش، حيث «كان في هذه الدار من أصناف الوحش التي أخرجت إليها من الحير قطعان تقرب من الناس وتتشممهم وتأكل من أيديهم». في الدار التالية كان يوجد «أربعة فيلة مزينة بالديباج والوشي، على كل فيل ثمانية نفر من السند [في الهند] والزراقين بالنار». وينوه الخطيب البغدادي (1002-1071)، الذي سجل وصفه في تأريخه لبغداد، بجدية قائلا: «فهال الرسل أمرها.» وذلك كان، بالطبع، الهدف من المبادرة.
1
يمضي الخطيب فيصف، في تفصيل يحبس الأنفاس، دارا تحوي مائة أسد، مكممة الأفواه ويمسك بها حراسها، وبستانين بينهما بركة ونهير يحدهما رصاص مصقول يشع بياضا كالفضة، ويطفو عليهما أربعة قوارب لها مجالس مزركشة. كانت الحدائق المحيطة ممتلئة بأشجار غريبة، منها 400 نخلة، كانت جذوعها محاطة بنحاس مذهب. لا بد أنه قد استخدم مئات من الحرفيين لصنع هذه العجائب، التي تظهر كامل مجد الأشغال المعدنية والبراعة الفنية العربية للبيزنطيين. بعد ذلك جاء أكثر المشاهد روعة على الإطلاق: «دار الشجرة ، وفيها شجرة في وسط بركة كبيرة، مدورة فيها ماء صاف، وللشجرة ثمانية عشر غصنا لكل غصن منها شاخات [أفرع] كثيرة عليها الطيور والعصافير من كل نوع مذهبة ومفضضة. وأكثر قضبان الشجرة فضة، وبعضها مذهب. وهي تتمايل في أوقات ولها ورق مختلف الألوان يتحرك كما تحرك الريح ورق الشجر؛ وكل من هذه الطيور يصفر ويهدر.» لا بد أن هذا كان منظرا ساحرا حقا؛ خليط من حرفية وأشغال ميكانيكية بارعة أظهرت إنجازات الثقافة البغدادية على أكمل وجه.
القصر التالي كان أقل خفاء في رسالته؛ إذ كان معلقا على حوائطه آلاف القطع من الدروع، وواقيات الصدر، ودرقات من الجلد، وجعبات محلاة وقسي، وكان يصطف في ممراته عدد لا يحصى من العبيد من مختلف الأجناس، مختارين بعناية ليظهروا اتساع رقعة الممالك المسلمة. بعد طواف مرهق فيما لا يقل عن ثلاثة وعشرين قصرا في حر يوليو القائظ، خفف من وطأته فقط مشروب الشربات والماء المثلج، اقتيد السفراء أخيرا إلى حضرة الخليفة المقتدر.
فوجدوه جالسا على عرش من الأبنوس منجد بقماش مطرز بالذهب، يحيط به خمسة من أبنائه.
هذه الرحلة عبر دهاليز السلطة الإسلامية صممت لتظهر لسفراء بيزنطة أن الخلافة العباسية كانت لا تزال قوة لا يستهان بها، رغم أنها كانت قد فقدت أجزاء كبيرة من حدودها السابقة؛ ففي أوج مجدها، كانت الإمبراطورية الإسلامية قد امتدت من الساحل الأطلسي لأفريقيا إلى جبال الهيمالايا. كان لا يزال في وسعها أن تستحضر السباع والفيلة ونافثي النار من الهند؛ وكان لا يزال في وسعها أن تقدم عرضا. وعاصمتها، بغداد، كانت لا تزال مركزا مهما من مراكز البحث العلمي.
ولكنها كانت في انحدار؛ فمنذ قرن واحد فقط، كانت بغداد في ذروة عصرها الذهبي، لم يكن لها مثيل في أي مكان في العالم لجمالها ورقيها وعلمها وروعتها. في القرن الأول الباهر من الحكم العباسي، كان الخليفة يوصف بأنه ظل الله على الأرض؛ كان حاكما رائعا وكان نفوذه هائلا. في هذه الفترة المبكرة، صنع ثلاثة خلفاء تأثيرا خاصا؛ المنصور (714-775)، الحاكم الثاني للأسرة الحاكمة، الذي أنشأ بغداد وأصبح راعيا ملهما للبحث العلمي؛ وحفيده، هارون الرشيد (763-809)، الأشهر في الوقت الحالي نظرا للتجسيد الممتع، رغم كونه خياليا إلى حد كبير، لمغامراته في كتاب «ألف ليلة وليلة»، والذي لم يكن محاربا مخيفا وزعيما عالميا فحسب، وإنما كان أيضا داعما متحمسا للبحث العلمي؛ وأخيرا، ابن هارون، الخليفة المأمون (786-833)، الذي استقطبت بغداد تحت عنايته أعظم عقول ذلك الزمان، والذي دفع المعرفة الإنسانية إلى الأمام، عبر مزيج يجمع بين الثروة والتنوير والفضول والطموح.
لو كان السفراء البيزنطيون قد خرجوا من أجواء القصر الراقية، لوجدوا أنفسهم في مدينة تعج بالحياة؛ إذ كان يتنافس فيها نصف مليون شخص، من العرب والفرس والأتراك والبدو والأفارقة واليونانيين واليهود والهنود والسلاف، من أجل البقاء والنجاح. كانوا يأكلون وينامون ويصلون ويعملون جنبا إلى جنب في أكبر بوتقة صهر على الأرض. جلب كثيرون إلى المدينة عبيدا؛ شحنات بشرية مربحة أكثر حتى من الحرير.
1
صفحه نامشخص