خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
ژانرها
لكن الاعتراف بقيمة التعليم الكلاسيكي كان أمرا؛ أما حماية المدارس التي كانت تقدمه من اضطرابات عالم آخذ في التغير فكان أمرا آخر تماما. نجت بعض المدارس من الغزو القوطي الشرقي لإيطاليا في القرن الخامس، وكان جستينيان حريصا على تعزيز إعادة احتلاله لروما بإعادة تأسيس التعليم العالي في المدينة. حلم كاسيودوروس (نحو 485-585) بتأسيس جامعة لاهوتية هناك، ولكن هذه الخطط لم تسفر عن شيء. وكان الغزو اللومباردي في عام 568 إيذانا بانتهاء التعليم التقليدي في إيطاليا، والذي لم يكن، على أي حال، متاحا على الإطلاق إلا لقلة قليلة فقط من الأطفال الذكور الأثرياء. علمت القلة المحظوظة التي كان بإمكانها تحمل النفقات أولادها في البيت، ولكن احتكار الأديرة للتعليم كان آخذا في التزايد، مع تركيز لا مفر منه على الأدب المسيحي والعقيدة المسيحية.
لم يختلف الأمر كثيرا عن ذلك فيما يتعلق بإنتاج الكتب، الذي تقلص في أنحاء البحر المتوسط أثناء القرنين الرابع والخامس. استمر بعض الإنتاج التجاري للكتب في مدن كبرى مثل روما، ولكن على نطاق أضيق كثيرا من السابق. نسخت غالبية الكتب على نحو خاص على يد أفراد كان لديهم إمكانية الوصول إلى النصوص التي رغبوا فيها عبر أصدقاء أو شبكات من العلماء. وبحلول عام 500، كان إنتاج الكتب العلمانية يجري على قدم وساق في الخفاء؛ وعلى النقيض، تزايدت إنتاجية مناسخ الأديرة تزايدا كبيرا إثر استحداث أنواع جديدة تماما من المؤلفات الدينية، مثل الهاجيوجرافيا (سير حياة القديسين). وإذ لم يستطع كاسيودوروس إنشاء جامعته في روما، مضى إلى أملاك عائلته وضياعها في بلدة سكيلاتشي، على الساحل الجنوبي لإيطاليا، وأنشأ ديرا، هو دير فيفاريوم، المستوحى من المدرسة الكائنة في مدينة نصيبين، في سوريا، التي كان كاسيودوروس قد سمع عنها وربما زارها حينما كان يعيش في القسطنطينية. كان كاسيودوروس مسيحيا متدينا، وكان أيضا مؤمنا إيمانا شديدا بالمنهج الكلاسيكي، الذي كان مقسما إلى «التريفيوم» (جمع «تريفيا»؛ وتعني الفنون الثلاثة، ويطلق عليها أيضا «المقدمات» ويقصد بها البلاغة والمنطق وقواعد اللغة)، ويليها «الكودريفيوم» (أو «العلوم الأربعة» وهي: علم الحساب وعلم الهندسة وعلم الفلك وعلم الموسيقى). ملأ كاسيودوروس المكتبة في دير فيفاريوم بنصوص عن هذه الموضوعات وحول اتجاه إنتاج المخطوطات في منسخه عن طريق إنشاء معايير وطرق ملائمة للنسخ. وبكونه واحدا من العلماء القلائل المميزين في عصره، لعب كاسيودوروس دورا حيويا في بقاء الثقافة الكلاسيكية في إيطاليا، بإنقاذ كتب من أطلال مكتبات روما المحترقة، والحفاظ عليها وإعادة إنتاجها، وضمان وصولها إلى الأجيال القادمة؛ فاستمرت تلك الكتب لتشكل هيكل النظام التعليمي في العصور الوسطى. وإذ كان قد أمضى عشرين عاما مقيما في القسطنطينية، كان أيضا واحدا من آخر العلماء الذين عملوا على مد الجسور فوق الهوة المتزايدة بين الشرق والغرب، وعلى إعادة الثقافة اليونانية ولغة بيزنطة إلى إيطاليا في هيئة مخطوطات يونانية عديدة، وضعت في خزانة خاصة في المكتبة في دير فيفاريوم.
في عام 523، عين كاسيودوروس في منصب كبير المستشارين للملك القوطي الشرقي في إيطاليا، ثيودوريك، ليحل محل العالم الكبير الآخر الوحيد في إيطاليا آنذاك، وهو آنسينيوس مانليوس سيفيرينوس بوثيوس (480-524). كان بوثيوس قد قطع شوطا أبعد من كاسيودوروس في تعزيزه للمعارف القديمة. كان كاسيودوروس يراها دوما بمثابة خادمة المسيحية، وأنها يجب أن تدرس فقط من أجل الهدف الأسمى وهو التقرب إلى الرب. على الجانب الآخر، كان بوثيوس يؤمن بقيمة المعرفة الدنيوية غاية في حد ذاتها، وكان قد أقدم على مشروع طموح لترجمة كل النصوص اليونانية اللازمة لدراسة المنهج الكلاسيكي، وتوقفت جهوده فجأة عندما سجن وبعد ذلك أعدم للاشتباه في ضلوعه في التآمر على الملك ثيودوريك. ولو كان قد قدر لكل ترجماته أن تحفظ وتنقل إلى الأجيال التالية، لكان من الممكن لقصة نقل العلوم القديمة أن تصبح مختلفة جدا. أما وإن الحال ليس كذلك، فإننا لا نملك إلا أدلة مبهمة عما ترجمه بالفعل، ولكن يبدو أن ترجماته شملت جزءا من أطروحة «العناصر» وبعضا من كتابات بطليموس (ليس من بينها كتاب «المجسطي»). ثمة إشارات شتى إلى ترجمة لاتينية لأطروحة «العناصر» (على الأقل لأجزاء منها)، بواسطة بوثيوس، ويمكن بصعوبة تمييز شذرات غير واضحة منها في رقوق ممسوحة (طروس) ترجع إلى القرن الخامس موجودة في مكتبة كابيتولاري في فيرونا، والتي تعرض محتويات من الكتب من الأول إلى الرابع، ولكن دون الرسوم البيانية والبراهين؛ لذا ربما كانت محدودة النفع. الأرجح أنه لم تكن توجد سوى نسخ قليلة للغاية منه، وأن تلك النسخ التي كانت موجودة كانت مهملة. بحلول القرن التاسع، لم يبق إلا قصاصات. ولا نعرف إلا نذرا يسيرا عن هذه النسخة من عمل إقليدس العظيم، ولكنها، على أقل تقدير، نبهت الباحثين إلى وجود مصدر للمعرفة أعمق بكثير فيما يتعلق بموضوع الرياضيات.
رسم رافاييل في لوحة «مدرسة أثينا» الشخصيات وهي تقرأ أو تحمل كتبا، بينما في الواقع لا بد أنهم كانوا يكتبون على لفائف البردي. لم يدخل مجلد المخطوطات، أو الكتاب، حيز الاستخدام إلا قبل القرن الخامس بقليل وكان يصنع من جلد الرق - وهو جلود حيوانات معالجة - وليس من البردي، الذي كان يصنع من البوص؛ فالمرجح أن مصانع الورق لم يكن لها وجود في غرب أوروبا حتى القرن الرابع عشر، مع أنها أصبحت شائعة في العالم الإسلامي قبل ذلك بقرون.
2
على أفضل تقدير، لا يدوم البردي إلا لبضع مئات من الأعوام قبل أن يحتاج النص إلى إعادة نسخه على لفيفة جديدة. ويدوم جلد الرق زمنا أطول، ولكن فقط إذا حفظ في الظروف المناسبة، بعيدا عن الرطوبة والقوارض والديدان والعث والنار وطائفة أخرى من الأعداء المحتملين. كان مجلد المخطوطات في البداية ظاهرة مسيحية، وازداد شهرة بين القرنين الرابع والثامن. وإذا ضيقنا نطاق عملية النقل إلى مسار افتراضي واحد، فمن المنطقي أن يكون بطليموس قد ألف كتاب «المجسطي» أولا على لفيفة بردي في الإسكندرية في القرن الثاني. ومن المحتمل أن يكون قد أعيد نسخ هذه اللفيفة مرتين على الأقل لكي يتأتى لها البقاء حتى القرن السادس، وهي المرحلة الزمنية التي قد تكون نسخت فيها على جلد رق وصرت في كتاب. ومن شأن هذا الكتاب، أيضا، أن يكون قد استلزم إعادة نسخه كل بضع مئات من السنين لضمان بقائه (إذا ما افترضنا، مجددا، أنه أفلت من الحشرات المعتادة والتلف والكوارث) وكان متاحا للباحثين سنة 1500. ومن ثم فمن المرجح أن يكون الأمر قد استلزم إعادة نسخ كتاب «المجسطي» خمس مرات على أقل تقدير أثناء الفترة الزمنية بين عامي 150 و1500. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: من الذين نسخوه؟ وأين عثروا عليه؟
كان مصير كل نص يتحدد تبعا لما كان يحدث خارج أسوار المكتبة أو المنزل الخاص حيث كان النص موضوعا على رفوفهما. في السنوات المضطربة للعصور القديمة المتأخرة، كانت مكونات الحياة السياسية والاجتماعية والدينية تتبدل وتعيد ترتيب نفسها بصورة جذرية. وانتقل عالم المعرفة تدريجيا من الإطار العام العلماني إلى أديرة الرهبنة الصامتة. كان هذا الانتقال واضحا أيضا في مجالات حياتية أخرى؛ فقد بدأت الطبيعة الطبوغرافية للمدن في التغير مع انتقال الكنيسة لتملأ الفراغ الذي خلفه ما كان يعرف باسم الدولة الرومانية. فقدت الدولة نفوذها الذي أصبح في أيدي أفراد عاديين وزعماء دينيين. وظهرت على السطح كنائس ضخمة في الميادين العامة القديمة، ودمرت المعابد أو بدلت، وكان الطابع المسيحي يضفى على الساحة العامة للمدينة وتبوأ الأساقفة الصدارة. وكشأن المدارس، كانت المكتبات العامة ضحية أخرى لهذه العملية؛ فمع عدم وجود من يدفع مقابل صيانتها، سقطت في براثن الإهمال وتلاشت تدريجيا. كان يتعين على أي شخص مهتم بموضوعات مثل الرياضيات والفلك أن يلتمسها سرا؛ لذا تقلصت شبكة العلماء الهشة أكثر فأكثر.
أما فيما يتعلق بالطب، فكانت القصة مختلفة قليلا بسبب الحاجة الدائمة والماسة إليه؛ فدائما ما كانت المعارف الطبية نافعة، ودائما ما كانت ذات أهمية، لذا كان ثمة طلب باستمرار على الكتب التي تتناول الطب، ومن ثم كانت تتوافر في معظم المكتبات في أواخر العصور القديمة. كان الطب دوما نشاطا متعدد المستويات؛ إذ كان الناس يضطلعون في بيوتهم بأمر الرعاية الأساسية، بينما كان المستوى التالي هو المعالج المحلي أو الحكيم أو الحكيمة، وهؤلاء كان من شأنهم أن يحوزوا قدرا من المعرفة بالنباتات المحلية والعلاج بالأعشاب. بيد أن هذه المعرفة كانت شفاهية، وكان أغلب ممارسيها أميين. كان الأطباء المتعلمون نادري الوجود وكانت أماكن وجودهم بعيدة بعضها عن بعض؛ فتباين تدريبهم تباينا هائلا وكانوا يقدمون خدماتهم في الأغلب لزبائن أثرياء من الحضر. كذلك للدين دور مهم في الطب القديم؛ إذ ضمت مراكز التعليم الطبي في سميرنا وكورينثوس وكوس وبيرجامون مزارات دينية مقدسة للشفاء اجتذبت المتضرعين ملتمسي الشفاء بالطريقة نفسها التي تجتذبهم بها المزارات الكاثوليكية في يومنا هذا. كان الأطباء الذين كانوا يعملون فيها يعالجون المرضى ويدربون طلاب الطب بالاستعانة بالكتب التي كانوا قد جمعوها. ولكن، نظرا لكونها مراكز للعقائد الوثنية، دمر كثير منها عندما أصبح للمسيحية اليد الطولى.
اجتذب المزار المقدس المكرس لأسكليبيوس، إله الشفاء الإغريقي، في بيرجامون، في الأناضول، آلافا من المتضرعين وأصبح مركزا شهيرا لدراسة الطب. وقد ولد جالينوس وتعلم هناك قبل أن يشد الرحال إلى الإسكندرية وبعد ذلك إلى روما ، وكانت المدينة أيضا مقر مكتبة مهمة؛ تضم 200 ألف كتاب، حسب المؤرخ بلوتارخ. يذكر الكاتب الروماني سترابو (64ق.م-24م) المدينة، التي أقامتها السلالة الحاكمة الأتالية في القرن الثالث قبل الميلاد، وهو يناقش ما جرى لكتب أرسطو: «ولكن عندما سمعوا [أي ورثة أرسطو] بمقدار الحماسة، التي كان يحملها الملوك الأتاليون، الذين كانت المدينة خاضعة لهم، في البحث عن الكتب لتأسيس المكتبة في بيرجامون، أخفوا الكتب تحت الأرض فيما يشبه الخندق.»
4
صفحه نامشخص