خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
ژانرها
كان القرن الخامس صاخبا بالأحداث؛ إذ أفلت النصف الغربي من الإمبراطورية الرومانية من السيطرة الإمبراطورية ليقع في أيدي مجموعة من القبائل من شمال أوروبا. وصارت هسبانيا الرومانية حينئذ تحت حكم القوط الغربيين، مع وجود الجزء الشمالي من شبه الجزيرة مأهولا بقبائل الألان والسويبيين. واستولت قبائل الوندال على القطاع الشمالي من أفريقيا، في الوقت الذي كانت فيه إيطاليا وحتى روما نفسها قد استضافت مؤخرا (بكامل الأبهة الإمبراطورية) تتويج ملك القوط الشرقيين، ثيودوريك. في الوقت نفسه، كان الفرنجة يقومون بتأسيس البلد الذي نطلق عليه الآن فرنسا، وعبر القنال، كانت الجيوش الأنجلو سكسونية تتوغل في بريطانيا. بدأت المجتمعات في أوروبا الغربية، التي لم تعد متحدة تحت سلطان روما، في الانغلاق وأصبحت معزولة بعضها عن بعض؛ وانكمشت المدن مع عودة الناس إلى الريف وإلى أسلوب حياة أبسط، وأكثر ريفية. ومع انهيار نظام السفر والاتصال التابع للإمبراطورية، لم يعد التجار يستطيعون نقل بضائعهم بأمان؛ لذا تراجعت التجارة تراجعا شديدا.
كان ما تبقى من الإمبراطورية، هو الجزء الشرقي، ولكن في شكل مختزل كثيرا. ومن عاصمته القسطنطينية، حكم الإمبراطور أناستاسيوس (431-518) - الذي كان يكنى باسم ديكوروس (ذي الحدقتين) لأنه كان لديه عين سوداء وأخرى زرقاء - ممالكه، التي تألفت من آسيا الصغرى واليونان والبلقان وأجزاء من الشرق الأوسط. في عام 500، كان الانفصال بين الشرق والغرب حديث العهد نسبيا، ولم تكن قد ترسخت بعد التقسيمات الاجتماعية والثقافية التي سوف تتسم بها القرون التالية. كانت الحكومة الإمبراطورية في القسطنطينية لا تزال تأمل في أن تتمكن من استعادة ولو جزء من الإمبراطورية الغربية السابقة؛ وتحديدا روما وما حولها. واتضحت بجلاء هذه الرغبة أثناء حكم الإمبراطور جستينيان الأول (527-565)، الذي كان رجلا قويا، ومفعما بالحيوية، أصاب النخبة البيزنطية بصدمة بزواجه من محظيته، ثيودورا، التي صارت لمدة عشرين عاما نائبته، بالإضافة إلى كونها عاهرته.
كان حكم جستينيان مديدا ومليئا بالأحداث؛ فقد أمر بإصلاح نظام القانون الروماني بكامله ، وبدأ برنامجا ضخما لإعادة بناء عاصمته (وفي ذلك إعادة تصميم كنيسة آيا صوفيا) وشجع إنتاج الحرير، بعد أن هرب راهبان، حسبما يزعم، بيوض دودة القز ويرقاتها عائدين بها من الصين تحت ثياب الرهبنة الخاصة بهما. وبمعاونة قائده البارع، بيليساريوس، تمكن من استرجاع أجزاء من شمال أفريقيا من الوندال، وتحصل على موطئ قدم في هسبانيا، والأهم من ذلك كله، أنه أعاد احتلال صقلية ومعظم إيطاليا. لا بد أن النصر كان أمرا رائعا، ولكنه كان قصير العمر. فلم يتخل القوط الشرقيون بسهولة عن مخططاتهم في إيطاليا ووجد جستينيان نفسه متورطا في حرب مريرة على جبهته الغربية، في حين هاجم الفرس من الجنوب وهاجمت القبائل التركية والسلافية الحدود الشمالية في البلقان. في خلال عقود قليلة من موته، كانت كل مكاسبه الإقليمية قد فقدت وبدأ الانقسام يتعمق بين الشرق والغرب، الذي كان خط الصدع فيه يجري من الشمال إلى الجنوب فيما بين اليونان وإيطاليا.
كانت الحياة اليومية في أواخر العصور القديمة محفوفة بمخاطر بالغة، حتى بالنسبة إلى طبقة الأثرياء التي كانت تمثل 5 بالمائة أو نحو ذلك من تعداد السكان الذين لم يكونوا فلاحين ولا عبيدا. لاحق المرض والموت كل بيت، ودائما ما كان الجوع والكوارث محدقين. أضف إلى ذلك جحافل من البربر المغيرين الذين يدهسون محاصيلك ويقتلون أسرتك وستصبح الصورة حقا قاتمة جدا. ولكن كان ثمة بصيص نور في الظلمة، شرارة خافتة من الأمل وسط الفوضى؛ هي الدين. اعتمدت الإمبراطورية الرومانية المسيحية ديانة رسمية لها في عام 380، وبحلول عام 500 كانت قد انتشرت، بأشكال عدة، عبر أوروبا، والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لتحل محل طائفة عريضة من الطوائف والمعبودات والعقائد التي تندرج تحت مظلة مصطلح «الوثنية». كانت العقائد الوثنية متنوعة وغالبا محلية؛ إذ آمن الناس بآلهة كثيرة، كانت في كثير من الأحيان ترتبط ارتباطا وثيقا بعالم الطبيعة، وكانت عبادة تلك الآلهة تهدف إلى محاولة التأثير على الطبيعة لتأمين إمدادات غذائية جيدة والصحة والسعادة للمجتمع المحلي. شكل تشديد المسيحية على مسألة الإله الواحد الحقيقي خيارا صعبا؛ بلا حلول وسط، وأخيرا وضعت نهاية لمعظم العقائد الوثنية القديمة. ومع فوز الكنيسة بالنفوذ والشعبية، أصبح قادتها أكثر تصميما على القضاء على النظم العقائدية المنافسة وتنصير العالم كله. وبحلول عام 500 ميلادية، كانت ماضية في طريقها لإنجاز هذه المهمة.
ما يسترعي الانتباه حقا، في هذه المرحلة، قبل قرن من ظهور الإسلام، أنه كان يوجد مسيحيون في الشرق أكثر بكثير مما في الغرب، وأديرة وكنائس في أرجاء سوريا وبلاد فارس وأرمينيا. فقد تعلق الناس بوعد الخلاص. كانت الفكرة القائلة إنك كلما عانيت هنا على الأرض، فسيصبح وقتك في الحياة الآخرة أفضل، درعا قوية في مواجهة حقائق الحياة اليومية البائسة في القرنين الخامس والسادس. وقد لعبت هذه العقيدة دورا محوريا في نجاح انتصار المسيحية على الوثنية، التي كانت عادة ما تحمل لواء السعي إلى تحقيق السعادة وتندد بالألم باعتباره شرا. تجسد انتصار المعاناة على الملذات في أشد صوره تطرفا في أوائل الأديرة. أقيم كثير من الأديرة في هذه الفترة؛ فبحلول عام 600، كان يوجد منها 300 في بلاد الغال وإيطاليا وحدها. في هذه المجتمعات المنعزلة عادة، هيمن الإيمان السائد، على حد تعبير المؤرخ ستيفن جرينبلات، بأن «خلاص البشر لن يتأتى إلا عن طريق الذل.»
2
وتطلب الأمر من ساكني هذه الأديرة جلد الذات وحرمان النفس ونمط حياة قائما على الزهد الشديد. ولكن هذه الأديرة كانت أيضا أماكن للسلام والأمن في عالم مفزع، وتزايد كونها المكان الوحيد الذي يمكن العثور فيه على أي شيء يشبه تعليما أو مكتبة.
كانت الحرب بين المسيحية والوثنية طويلة وعنيفة، وسقط جراءها الكثير من الضحايا. وانتهى الأمر بالمعرفة العلمية إلى الوقوع في دائرة نزاع بين القوتين المتحاربتين؛ إذ كافحت قوى الكنيسة التي كان لها الغلبة لتدمير أو استيعاب فلسفة العالم القديم وعلمه وأدبه، وهي أشياء كانت بطبيعتها وثنية. في عام 529، رجح حدثان حاسمان الكفة أكثر لصالح المسيحية. فقد أغلق الإمبراطور جستينيان الأكاديمية في أثينا، مركز الفلسفة الأفلاطونية المحدثة والمقاومة الوثنية. وفر الفلاسفة إلى بلاد فارس، حاملين معهم كتبهم وتعاليمهم، محطمين «السلسلة الذهبية»؛ وهي التقليد الأثيني القائم على الاستقصاء الفكري والذي يمتد تاريخه إلى أفلاطون وأرسطو. إبان ذلك، عبر البحر الأيوني، على قمة تلة مونتيكاسينو الصخرية في جنوب إيطاليا، أسس شاب مسيحي ورع يدعى بندكت ديرا، وأسس بداخله طائفة دينية جديدة من شأنها أن تنتشر في أنحاء العالم. وفي القرون التي تلت، أصبحت مونتيكاسينو مشهورة بمكتبتها ومنسخها، وصارت ملاذا مهما للمعرفة والتعليم. مع إغلاق أبواب أكاديمية أفلاطون لآخر مرة، حطم القديس بندكت معبد أبوللو الذي كان قد بقي لقرون واستعاض عنه بدير. كانت الرمزية بالغة الوضوح؛ فقد كانت حقبة جديدة تبعث إلى الوجود.
وعلى الرغم من أنه كان صحيحا أن المسيحية كانت قد انتصرت انتصارا مؤكدا في الصراع على أنفس الناس، احتفظت المعرفة الكلاسيكية المتراكمة (معارف الإغريق والرومان) بسيطرتها على عقولهم؛ فكل شيء متعلق بها كان فائقا، من عبقرية الأفكار ورقي المناقشات إلى جمال اللغة وبراعة قواعدها؛ كانت الكتابات المسيحية الأولى تتسم بعدم الإتقان على نحو سافر، الأمر الذي كان موضع إحراج كبير لرجال الكنيسة. وعلى حد تعبير أحد كتاب القرن السادس: «نحن بحاجة إلى تعليم مسيحي ووثني؛ فمن أحدهما نحقق نفعا للروح، ومن الآخر نتعلم سحر الكلمات.»
3
صفحه نامشخص