سألت نفسها هذا السؤال، وأجابت عليه بالإيجاب متوكلة على الله ونبيه.
الفصل الثالث عشر
بعد أن سلمت جهان نفسها تسليما حسبته نصرا مبينا لها خرجت عند منتصف الليل من منزل الجنرال فون والنستين وهي تقاسي من حقائق الحياة أعمقها سرا، وأشدها ألما، وأقبحها عاقبة، فتراءى لها من خيالاتها الوهمية التي كانت تمازج شعورها شبح مخيف في ظلال أخربة قديمة، شبح هائل لا يبعده منها المنطق، ولا تدنيه منها الملاطفة والسفسطة، بعيد قريب، رهيب مريب، أسود البشرة كالليل الحالك، بل كالخصي سليم الذي كان ينتظرها خارج بيت الجنرال، وقد خيل لها أنها تستطيع أن تقبض على هذا الشبح بيديها وهو جالس أمامها في العربة، وآنا تراءى لها في شكل غريب مخيف كأنه وحش من الغاب يتحفز للوثوب عليها، فشعرت إذ ذاك أن مخالب تمزق جسدها، وأن أنيابا تقطع قلبها.
أحبت جهان الجنرال فون والنستين حبا صادقا شديدا عظيما إلى حين، ولكنها ألبست حبها لباسا من البغض والحقد والازدراء، أحست بعوامل الحب وما يشبهها، وأدركت بعدئذ أنها ضحت في لحظة شرفا حفظته سنين، فكانت هذه هي الحقيقة الهائلة الجارحة التي ألبستها العار والإثم.
إلا أن أباها سينعتق من سجنه، وستجتمع به في الغد، وحسبها هذه تعزية لو أن الوساوس لم تسم بها إلى أعالي الحرية المتلبدة غيوما، فلم تكن لترى في تلك الأعالي الإفضاء من الموت الهادئ، ويدا أثيمة دست السم في كأس نصرها وسعادتها.
دخلت منزلها كفازع وجد مأمنا يقيه شر وحش يلحقه ضاريا هائجا، فقد كانت تحاول الهرب من وجه العار والخوف، بل كانت تخجل أن ترى واحدا من الناس حتى سائق عربتها أو عبدها الرقيق، فدخلت حجرتها وأوصدت الباب، ولكن من أين للأبواب أو الأقفال أو المفاتيح أو المزاليج أن تحجب عنها أفكارها التي لازمتها ملازمة الظل؟ وكانت تعاني من رأسها وهي تنزع ثيابها دوارا مؤلما، فبدت الأشياء والخيالات في رؤياها عديدة الأشكال والأهوال، أية يد بشرية أو شيطانية أو مقدسة قبضت عليها فجرتها إلى أبواب نعيم مريب يخفره الوحش الأشقر؟ إنه لوحش هائل سخيف، وقد كشر عن أنيابه، له عين تبدد الظلمات، ومخالب تبرق في ضوء القمر، وزئير ينصت الرعد إذ رمى بنفسه على صدرها، لله من تلك الساعة وسيف القضاء والقدر مشهور فوق رأسها، ونيران الحياة تضطرم عند قدميها، وحواليها هاويات شديدة الظلام لا قرار لها! ومضجعها الوردي يتمايل بها على شفا هوات الجحيم!
فصاحت: يا لله! وقد تعمقت في كرسيها حاجبة وجهها بيديها؛ ظنا منها أنها تحجب هول الرؤيا أمامها، وحيدة في شدتها وبؤسها، لا معين لها ولا قوة، تتقاذفها أمواج العوامل المتناقضة المخيفة، فأرسلت من أعماق قلبها تنهدات طويلة، وثارت في صدرها المتقد الخفوق عاصفة هوجاء، فأرعبتها الظلمة إذ أغمضت عينيها، وكان الهواء ثقيلا في الغرفة، غتيتا فاسدا مؤذيا، ولهذا فتحت الشباك، ووقفت في رواقه ملتفة بعباءتها، وهناك أيضا وراء مياه القرن الذهبي الهادئة، وراء سروات جامع أيوب المتعالية، وراء مآذن الأستانة وقببها بدا لها ذلك النعيم المريب، وذلك الوحش الأشقر واقفا في الباب.
فصرخت ثانية: يا لله! ماذا فعلت؟ لماذا لم أذهب مسلحة؟ ولماذا لم أنحر الوحش الضاري؟ لماذا؟
وقبضت يسراها بيمناها كأنها تحول دون القيام بعمل هائل تحدثها به النفس الأمارة بالسوء، فقالت في نفسها: يا لها من حماقة! حماقة، يا له من جنون!
واستجمعت قواها لتقاوم ذاتها الأخرى، تلك الذات الأثيمة التي انتصبت أمامها، فجلست على كرسي تفرك جبينها وخديها بيديها، فارتاحت هنيهة، ثم أفاقت إلى عوامل فيها محض جسدية، فإن فمها كان ناشفا من شدة العطش، وقد دب التخدير إلى جسمها، حتى خيل إليها أن ألف إبرة تنخس فيه.
صفحه نامشخص