أفاقت جهان ذلك الصباح مكدرة مغتاظة، ناقمة على نفسها والكون، وكانت كل أفكارها من صبغة واحدة سوداء، ومن صيغة واحدة مكسرة مشوشة، وقفت في الرواق تتنشق الهواء النقي فبدا لها ذلك المنظر البديع خاليا من مظاهر الجمال التي أخذت بمجامع لبها في اليوم السابق، في حين أن الشمس وقد انعكست أشعتها على قبب المآذن، وتلألأت على وجه القرن الذهبي وقواربه كانت أعظم جمالا وأبهة من الماضي، ولكن حزن جهان على أخيها حال دون بصيرتها، والمنظر البهيج البديع، وقد تراءى لها أخوها في الحلم واضعا سيفه بين يديها، وجهان امرأة تعتقد بصحة الأحلام، وعلى الأخص الأحلام المنذرة بالشؤم وسوء العاقبة، وطالما تحققت صحتها، فزاد ذلك الآن في اضطراب نفسها.
ومع ذلك فهي لا تجاذف بيومها أن يذهب ضحية الهواجس، ولا تحب أن تضيعه في المجادلات العقيمة كما أضاعت أيامها الماضية، لا ولن تقضيه في الحزن والكآبة؛ ولهذا قد لامت نفسها إذ سمحت لأمورها الخاصة أن تشغلها عن العمل الكبير العمومي الذي تقدسه، فإن سار شكري بك إلى ميدان الحرب أم لم يسر ، وإن سر الجنرال فون والنستين منها ومن أبيها أو استاء، وإن كان مصرع أخيها انتقاما أو تضحية، وكثيرا ما كانت تردد هذه الكلمات في حلم مزعج، فهذه كلها أمور ثانوية لا ينبغي أن تصرفها عن مساعيها الخيرية والعمومية؛ ولهذا عليها إذن أن تسكن روعها، وتستجمع قواها ومعقولها لتنظر فيما يتطلب منها اليوم من الأعمال.
أمرت بإحضار عربتها الخاصة، وأرسلت الجارية إلى الجنينة لتجيئها بسلة من الأزهار، وارتدت للحال فستانها الأسود المصنوع على الزي الباريسي، وغطت رأسها بقبعة سوداء من المخمل محاطة بالشرائط الرفيعة، وقد تدلى من أطرافها برقع شفاف يرسف على وجهها من جبينها إلى ذقنها، وهو زي أوروبي، واصطلاح في الحداد، ثم خرجت من غرفتها عزومة متيقظة، خفيفة الحركة، ثابتة الخطى، تلوح للرائي كأنها مالكة أمرها، فائزة في قصدها، منتصرة على هواجسها.
أما أبوها، فقد حبذ فكرتها في تخلفها عن المنزل ذلك الصباح، ولهذا لم يعترض على ذهابها إلى المستشفى، لولا ذلك لطلب إليها أن تذهب إما للتنزه في العربة، أو لزيارة إحدى صديقاتها، ولكن الحكمة في تصرفها راقت له، فإن عملها في المستشفى عذر كاف للتخلف عن مقابلة أي كان وإن كان أسمى مقاما من الجنرال فون والنستين، على أن رضا باشا لم يتسلح بهذا العذر، فإنه عندما جاء الجنرال فون والنستين لزيارتهم أمر خادمه أن يقول له: إن جهان غائبة عن المنزل، وإنها في المستشفى، ثم عاد لداع من الدواعي فاستدعى الخادم، وذهب بنفسه إلى البهو، إلا أن الجنرال كما لا يخفى على القارئ لم يتنازل أن يسأل عن جهان، وعن عدم قدومها للقائه، والباشا لم يشأ من تلقاء نفسه أن يعرب له عن واقعة الحال.
قلنا قبل هذه العبارة المعترضة إن رضا باشا سر لعمل ابنته ذلك الصباح، فما كان نقابها الأوروبي، ومركبتها المقفلة، ورضاؤها بمرافقة سليم لها كما أمر إلا إذعانا لإرادة والدها، فإن جهان لم تكن مجردة تماما من تلك الخلة؛ خلة المداراة التي تميز أية امرأة تركية دونها أدبا وتهذيبا وحكمة، فضلا عن أنها كانت ماهرة بارعة في التوفيق بين سخافات الأمور، والمهم منها الجوهري، فهي مولودة في مهد السياسة، ولا نعني بذلك أنها كانت ترغب دائما في التسليم والإذعان، أو أن التساهل كان دينها كما يقول الأتراك، ففي موضوع واحد على الأقل يتفرع منه مواضيع عديدة، كحرية المرأة، وانعتاق الحريم، والاكتفاء بزوجة واحدة، والجهاد على كفر الزوج التركي، وولوعه بالتنوع والتعدد من النساء ... إلخ إلخ. ففي هذه الأمور كانت جهان ثابتة العقيدة لا يزعزعها فيها حال أو زمان أو سلطان، ولا تعرف فيها المداراة ولا المراوغة ولا التساهل.
ولم تكن هذه الخلة التي اقتبستها جهان من الغرب مخالفة روح الجنرال فون والنستين الغربية الغريزية فيه، إلا أنه سلك مسلكا شرقيا كما أنها سلكت مسلكا غربيا، توصلا لما في كليهما من المطامح العلوية، فاختلفا واسطة، واتفقا غاية، وما أدركا أنهما يضحيان في سبيل مطامعهما ما فطر كل منهما عليه من السجايا النفسية الثابتة الأسباب، تخلق كل منهما بخلق الآخر؛ رغبة بتحقيق أمل كبير حبا برقي اجتماعي أو أدبي، غاية جهان القصوى مثلا وأسبابها غربية إنما هي لتحقيق حلم عقلي، وغاية الجنرال وأسبابها شريفة إنما هي لتحقيق حلم سياسي، وكلا الحلمين جميل - إذا صحت الأحلام - ولكن مسألة التخلق هذه أو الاجتهاد في التخلق إنما هي مسألة دقيقة يلذ للمفكر درس أسبابها ونتائجها، فهل يفوز يا ترى امرؤ غربي وامرأة شرقية بأمنية ما تذكر إذا لجآ إلى المداهنة والتمليق يخادعان بعضهما بعضا، ويخادعان أنفسهما أيضا؟ وبعبارة أخرى: ماذا ينتظر من اثنين راقيين كل منهما يعمل لنفسه فقط أن يبلغا من أوطار الروح العلوية؟ كيف يمكنهما أن يوفقا بين المقتبس والموروث من سجاياهما الغربية والشرقية؛ ليتم التوازن والتقارن بين الاثنين، ويتم بذلك ما ينشده كل منهما من السعادة والحبور، ومن السيادة والمجد؟ في هذه الرواية مثال لهذه القضية الغامضة، لا وسيلة عقلية أو اجتماعية لحلها.
كانت جهان أحب المؤاسيات للجرحى في المستشفى، وأقربهن من قلوبهم ألمانيات كن أو عثمانيات، مسيحيات أو مسلمات، بل كانت سلطانة يجلونها ، إلهة يعبدونها، وكان ذلك اليوم الذي لا يرون فيه وجهها يوم وحشة مظلمة، بل يوم شؤم عظيم، كما قال أحدهم: فلئن أشرقت مائة شمس في كبد السماء لم يكن لهم غير جهان شمسا ساطعة علوية، هي رأس التفاؤل في أعينهم، هي البلسم الشافي لجروحهم، هي معبودتهم بعد الله والنبي. - لقد عادت إلي صحتي يا خانم.
قال هذا جندي أسمر البشرة، مقبلا وردة تناولها من جهان وهو يضغط على اليد الكريمة التي جادت عليه بعلبة من اللفائف، ثم قال: وسأعود غدا إلى ساحة الحرب، وقد لا أعود أراك مرة ثانية في هذا المستشفى ولكن جنبي هذه الوردة فإنها تحاكي جمالك، سأذب عن الوطن باسمك، وإذا قدر لي أن أعود محمولا إلى المستشفى فسأكون سعيدا بمشاهدتك يا مولاتي قبل أن أموت.
فرفعت جهان قناعها، وقبلت خديه مودعة.
ثم تقدمت نحو ضابط كان جالسا على كرسي فألبست صدره وردة، فقال لها: قرأت مقالتك في تصوير أفكار يا لها من مقالة جميلة تأخذ بمجامع القلوب، فقد أصبت بها كبد الحقيقة خانم وأنا أذهب مذهبك، فأرى أن الجيل الجديد يجب أن ينشأ في مهد الحب المقدس بعيدا عن العبودية، وأشهد لك يا سيدتي أنني لن أتزوج أكثر من امرأة واحدة، ففي الاكتفاء بزوجة طريق نهوضنا وإصلاحنا. - ومن هو الأحمق الأرعن، بل من هو الأعمى الذي يسمح لامرأة أخرى أن تقاسم هذه السيدة النبيلة سعادتها؟
صفحه نامشخص