فقال له مبتسما: عذرك مقبول عند الله.
ومضى يقرأ الكتاب، ولولا خوف السعال، لتلاه بصوته العذب. ووجد في القراءة لذة وسلاما، واطمأن بذكر الله قلبه، ونسي به الحنين إلى الماضي السعيد، والحسرة على ما فات منه، والندم على ما فرط منه فيه، بل نسي به التوجع الدائم لما صار إليه حاله، واليأس من الشفاء الذي قبض قلبه منذ أمس، والخوف من النهاية التي تتخايل لعينيه، وفر أخيرا من آلامه ومخاوفه لائذا بالاستسلام والتسليم والصبر والتوكل على الله، ووجد ارتياحا في الإذعان المطمئن إلى إرادة الله وقضائه، ورأى تلك الإرادة الشاملة تحيط بماضيه ومستقبله فاستسلم إليها آمنا مطمئنا كما يستسلم إلى صدر أمه إثر نوبة السعال، ومرت أيام وهو هادئ رزين، صابر متصبر، باش مسالم، لا يثور ولا يغضب، لا يشكو ولا يتذمر، ولا يتمرد ولا يسخر، وفي المرات القلائل التي أطلقت فيها زمارات الإنذار لم يفارق الشقة منهم أحد، فكانوا يتحسسون طريقهم إلى حجرته في الظلماء، ويلتفون حوله بقلوب خافقة وأعصاب متوترة، واطرد الزمان في هدوء حتى وقع حادث هام! كان مايو قد انتصف، والوقت أصيلا، والأب قد انطلق كعادته إلى مسجد الحسين لصلاة المغرب، وجلس أحمد في حجرة الشاب يحادثه بوجود والدتهما، فدق الجرس وفتح الباب واقتربت أقدام خفيفة، ثم دخلت الحجرة امرأتان: الست أم توحيدة ونوال! وحدثت دهشة لاحت أماراتها في الأعين، وخفق قلب الشقيقين بعنف، لماذا جاءت نوال بعد هذا الغياب الطويل؟! وإن ظهورها مرة أخرى خليق بأن ينكأ الجرح الذي أوشك أن يندمل، ونهض أحمد وتنحى جانبا حتى ارتفق النافذة ورفع رشدي عينين أحاطت بهما هالتان زرقاوان، ونطقت عيناه بالإنكار، ثم زايلته الدهشة وحل محلها امتعاض شديد فتنغص عليه هدوءه البديع، وحدثته الست توحيدة بلهجتها المرحة، وأكدت له أنه يتحسن تحسنا محسوسا، أما نوال فرنت إليه بعينين مروعتين وقد أفزعهما ما صار إليه من الهزال والضعف، وغلبت على أمرها فلم تدر ماذا تقول، ولم تزد على أن قالت بصوت لا يكاد يسمع: «كيف حالك؟!» ولم يرغب في الرد عليها فاكتفى بأن رفع ذقنه وسط راحتيه كأنه يقول لها: «كما ترين!» ولم يعد يخفى على أحد أن الشاب تغير، وأنه اعتراه اضطراب واستياء، وأنه يعاني ألما باطنيا حادا، وأرادت الست توحيدة بلباقتها أن تخفف من توتر الجو فراحت تتحدث وتضحك وتستثير الضحك ما وسعتها الحيلة، ثم قالت: أبشر يا رشدي أفندي! رأيتك في الحلم حاملا أثقالا عابرا بها قنطرة طويلة، فبلغت نهايتها بسلام، وتفسيره أنك ستبرأ عما قريب إن شاء الله!
فقال رشدي بلهجة لم تخل من خشونة: فسر الدكتور قبلك هذا الحلم فأكد لي أني لن أفارق فراشي قبل عام طويل!
فقالت المرأة بلهجة عتاب: سامحك الله يا رشدي أفندي، هكذا أنت متطير دائما .. (وأومأت إلى ابنتها واستأنفت الكلام) هذه نوال جاءت لتراك وما منعها منك إلا انشغالها بدروسها، ومرضها في الأيام الأخيرة، وستؤدي الامتحان في نهاية هذا الشهر!
فقال الشاب بلا تردد: نفس التاريخ الذي أفصل فيه من عملي.
فاصفر وجه نوال التي أدركت حقيقة غضبه، وبادرت المرأة تقول بامتعاض: بعد الشر .. بعد الشر. كل شدة إلى انتهاء تسير.
ولكنه بسط راحتيه على صدره وقال بحدة: إلا هذه الشدة، فلا انتهاء لها حتى تقضي على الحياة. - مرضك يا رشدي أفندي ليس بالخطير، وستبرأ قريبا بإذن الله.
فهز منكبيه استهانة، وعاد يقول بحدة وراحتاه على صدره: أي مرض تعنين؟! .. ها هنا سل! أما سمعت به؟! .. سل سل إنه يأكل صدري، ويسيل مع ريقي دما .. إنه مرض خطير فظيع، شديد العدوي، فحذار.
واشتد به التأثر، وغلبه الانفعال، فضرعت إليه أمه أن يسكت، ورجت الضيفتين أن يصحباها إلى حجرة الاستقبال معتذرة عن حدة الشاب بمرضه. ولما خلت الحجرة إلا من الشقيقين، قال أحمد بحزن: ليتك لم تستسلم للغضب!
ولكنه قال له بانفعال شديد: والله ما تستحق إشفاقك يا أخي! إن الخيانة قبيحة، وهذه الفتاة هي سبب الكارثة التي حلت بي كما تعلم يا أخي، لولاها لتداركت خطر المرض ودفعت الأذى عن حياتي، ولكن تعلقي بها هيأ لي مداراة المرض حتى انتهيت إلى ما ترى.
صفحه نامشخص