فابتسم الطبيب لأول مرة ثم قال: أرجو بالعناية أن تبرأ بعد ستة أشهر، ومن الضروري بعد ذلك أن تبقى عاما كاملا تحت الاختبار، ويا حبذا لو صبرت نصف عام آخر ...!
ونصحه مرة أخرى بالانتقال إلى المصحة إذا وسعه ذلك، ثم وصاه - إذا لم يسعه الانتقال - بزيارته من حين لآخر، وعاد رشدي ينوء بكمده وكربه، وكان كل شيء يبدو كحلم مزعج، وامتلأت أذناه بل دنياه جميعا بذلك اللفظ المرعب «السل»، فهل يصدق ما يقوله الناس، أو يطمئن بما قال الدكتور؟ وهل قرر الدكتور - بما قال - الحقيقة أو أراد أن يفرخ روعه؟ ولكنه صارحه أيضا أنه كان من ضحايا المرض، ولا يجد مسوغا لتكذيبه، أجل إن ستة أشهر زمن طويل، فليتحل بجميل الصبر وليتوكل على الله، ولو كان حرا يفعل ما يشاء لفضل الاستشفاء في المصحة، ولكن دون ذلك فقدان وظيفته وحبيبته! فما العمل؟! إن صحته مهددة، صحته التي لم يقدرها حق قدرها إلا الساعة، فلم يذكر أوقات العافية والنشاط متحسرا متأوها قبل اليوم، ولا سبق إلى ظنه أن الصحة شيء يزول أو يتغير، ولكن ما قيمة الصحة إذا فقد عمله؟ وما جدواها إذا حيل بينه وبين الفتاة التي شغف بها حبا؟ فمن الحكمة ألا يبرح البيت، وأن يتعهد نفسه بالعناية والدواء دون أن يطلع أحد على سره، وبذلك يسترد صحته محتفظا بسره ووظيفته وحبيبته، هكذا تسلسلت أفكاره، ويسر له الاقتناع بها أن قواه كانت وما تزال متماسكة، وقدرته على النشاط والحركة متوفرة، وشرع في العلاج منطويا على سره حتى شاءت المصادفة أن تطلع أخاه عليه، فبرح الخفاء! والواقع أنه لم يأسف لذلك كثيرا، لا لأن أخاه قطعة من نفسه فحسب، ولكن لأن صدره بات يتصدع بسره الخطير، فوجد في البوح لشقيقه ارتياحا وسلاما، فأفضى إليه بكل آلامه، ما عدا ما يتعلق منها بالمصحة مستوصيا بالحذر.
35
وأصغى الكهل إليه في صمت وذهول وحزن عميق، وزايلته الحالة المضطربة التي كانت تعتور مشاعره نحو أخيه فتسبغ عليها ألوانا متضادة من الميل والنفور، فلم يعد يشعر نحوه بغير شعور واحد لا يقاوم، ودرت حناياه له حبا خالصا وإشفاقا شديدا وحزنا مبرحا.
بيد أن ذكرى خطرت من الماضي القريب الأسيف، ولكنه ذبها عن مخيلته بقسوة خجلا ثائرا وامتلأ صدره حنقا على الفتاة التي استثارتها!
وانتهى رشدي من قصته فتبادلا نظرة أسى وحزن وكآبة، ثم قال أحمد: هذا أمر الله، لن نيأس من رحمته. فينبغي أن نصدق الطبيب فيما يقول فليس العهد بالأطباء أن يكذبوا رحمة بمرضاهم، فالإصابة إذن بسيطة ولكن ينبغي أن نحشد لها كل ما في وسعنا من عناية وحكمة، وإن كان يدهشني أنك لم تفض إلي بالحقيقة في وقتها!
فقال الشاب بسرعة وإن خالف الواقع: عرفت الحقيقة قبيل العيد مباشرة فلم أرد أن أزعج أحدا، ولكني كنت أتحين الوقت الذي أفضي إليك بالأمر وحدك!
فقال أحمد بحزن شديد: هي إرادة الله، فلنصبر على حكمه حتى يمن علينا بالشفاء، وهو أرحم بنا من أنفسنا، والآن فأخبرني عما عزمت عليه.
فساور رشدي القلق، ورمق أخاه بحذر وهو يقول: سأنفذ وصايا الدكتور بطبيعة الحال، وقد أوصاني بالراحة والتغذية الحسنة وبعض الحقن!
فبدا على وجه الرجل كأنه لم يقتنع بما سمع وقال: ولكن المصابين بهذا المرض يقصدون عادة إلى المصحة!
صفحه نامشخص