ولبث فترة قصيرة، ثم غادر القهوة عائدا إلى البيت هائج النفس، ثائر الكرامة، ولحسن حظه ذكر فجأة الغلام! .. وسرعان ما تغيرت حاله ورفت على حواسه الملتهبة بسمة رطيبة أذهبت رياح الحقد والغضب، وتمثلت لخياله العينان النجلاوان، والنظرة الفاتنة، فتنهد متحيرا، وهمس لفؤاده «سأراه حتما مرة أخرى!»
7
ونهض في الصباح المبكر نشيطا، ففتح النافذة وأطل منها على الحي العجيب فوجد الحي يتمطى مستيقظا، فالدكاكين ترفع أبوابها ونوافذ الشقق تفتح على مصاريعها وباعة اللبن والصحف ينطلقون إلى الطرق المتشابكة منادين بغير انقطاع، وجذب انتباهه قدوم جماعات من «مشايخ» المعاهد الأولية الغلمان يسيرون زرافات نحو معهدهم في جبب سوداء وعمم بيضاء فذكروه ب «الفشار» في المقلى وأنصت إليهم مستلذا وهم يرتلون معا
هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا
وجعل رأسه يروح معهم ويجيء حتى ختموها
يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما
فذكر لتوه أحمد راشد المحامي، فهو من الذين أعد لهم العذاب الأليم! .. وإنه به لحقيق!
وعند عصر ذاك اليوم وقد جلس وأمه في الصالة يشربان القهوة، قالت له المرأة بسرور: زارني اليوم نساء الحي من الجيران للترحيب بي والتعرف إلي كما جرت العادة.
فابتسم أحمد الذي يقدر سرور أمه بمعرفة الناس وولعها بالزيارة وقال لها: هنيئا لك!
فضحكت وهي تتناول منه سيجارة، ثم أشعلتها وهي تقول: فيهن نساء لطيفات سيملأن غربتنا حرارة وحبورا! - لعلك أن تنسي بهن الصديقات القديمات من نساء السكاكيني والظاهر والعباسية!
صفحه نامشخص