فقال بتسليم: ليكن. - لا يصح أن تجزع أو أن تحزن.
الجزع، الحزن؟! ابتسم، اتسعت ابتسامته لغير نهاية، أفلتت ضحكة منه، وما لبث أن أغرق في الضحك، صمم على ضبط نفسه، ولكن مقاومته انهارت تماما، فراح يقهقه عاليا.
معجزة
سرى الدفء في أطرافه، هفت النشوة إلى رأسه، لم يعد في «فينيسيا» مقعد واحد خاليا، اختنق المكان بالأنفاس ودخان السجاير، تراءى له وجهه في أكثر من مرآة، تتابعت على بصره وجوه النساء والرجال والشواء ودوارق النبيذ الأحمر والأبيض وأصص الأزهار وصحاف السلطة الخضراء، كان يجلس وحيدا، لعله الزبون الوحيد الذي انفرد بمائدته، وقد ولى الضجر، وانتعشت روحه، فوثب فائض النشاط ينشد متنفسا.
أومأ إلى الجرسون، فجاءه من فوره، فسأله: تعرف السيد محمد شيخون الماوردي؟
امتحن الرجل ذاكرته قليلا، ثم أجاب: كلا يا سيدي. - إنه من زبائن فينيسيا. - لكني لم أسمع باسمه من قبل. - عجيبة! - حضرتك على ميعاد معه؟ - كلا، ولكني أريده لأمر هام. - سأتحرى لك عنه.
ذهب الجرسون فغاب برهة ثم رجع ليؤكد له أن أحدا من موظفي المحل وعماله لا يعرفه، أو يسمع باسمه من قبل. شكره، ثم تفرغ لدورق النبيذ الأحمر. راح يبتسم متسليا باستعراض الوجوه، والتجسس على المداعبات اللطيفة الخفية.
وإذا بصوت يرتفع مناديا: السيد محمد شيخون الماوردي! التفت نحو مصدر الصوت التفاتة مذهول بالمفاجأة، رأى مدير المحل قابضا على سماعة التليفون وهو يكرر النداء، وعيناه تنتقلان من ناحية إلى أخرى، ولم يلب نداءه أحد، أبلغ المتحدث في التليفون أن محمد شيخون الماوردي غير موجود، ثم أرجع السماعة إلى موضعها.
ابتسم الجرسون إليه وقال: ثاني شخص يسأل عن نفس الرجل في ساعة واحدة!
دار رأس الرجل، لا من النبيذ هذه المرة، ولكن من النداء الذي لم يتوقعه، من سماعه اسم «محمد شيخون الماوردي»، هو في الحقيقة لا يعرف أحدا اسمه محمد شيخون الماوردي، ولا يتصور أن يتسمى شخص به، وعلى وجه اليقين لم يرد لقاءه كما زعم. أجل قد سأل عنه الجرسون، ولكنه أراد بذلك أن يسلي وحدته، أن يعبث عبثا بريئا، أن يفعل شيئا لا معنى له ولا ضرر منه، فقرر أن يسأل الجرسون عن شخص ما، بأي اسم يرد على ذهنه، فكان ذلك الاسم الغريب، الذي لوحظت الغرابة في اختياره لتتم اللعبة، وكان محتملا أن يخترع اسما آخر، زيد زيدان زيدون مثلا، لذلك لم يدهش البتة لجهل الجرسون به، ولكنه ذهل حقا عندما ارتفع النداء به، ذهل أن يسأل عنه سائل في هذه الحانة التي لم تسمع به من قبل! كيف حدث هذا؟! وكيف يمكن تفسيره؟!
صفحه نامشخص