جون مينارد كينز: مقدمة قصيرة جدا
جون مينارد كينز: مقدمة قصيرة جدا
ژانرها
شكر وتقدير
مقدمة
1 - حياة كينز
2 - فلسفة الممارسة الاقتصادية لدى كينز
3 - المصلح النقدي
4 - النظرية العامة
5 - حسن الإدارة الاقتصادية لدى كينز
6 - ميراث كينز
خاتمة
المراجع
صفحه نامشخص
قراءات إضافية
شكر وتقدير
مقدمة
1 - حياة كينز
2 - فلسفة الممارسة الاقتصادية لدى كينز
3 - المصلح النقدي
4 - النظرية العامة
5 - حسن الإدارة الاقتصادية لدى كينز
6 - ميراث كينز
خاتمة
صفحه نامشخص
المراجع
قراءات إضافية
جون مينارد كينز
جون مينارد كينز
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
روبرت سكيدلسكي
ترجمة
عبد الرحمن مجدي
مراجعة
صفحه نامشخص
مصطفى محمد فؤاد
إلى ويليام
شكر وتقدير
أود أن أتوجه بالشكر لكل من بيتر أوبنهايمر، وويليام هاليجان، وكلايف لينكس؛ على تعليقاتهم المفيدة. وكل ما يشوب هذا العمل من نقص فهو مني.
مقدمة
كينز الإنسان والاقتصادي
تقوم رؤية كينز الأساسية على أننا لا نعلم ما سيحدث في المستقبل، ولا يمكننا التنبؤ به. وفي ظل هذا الوضع تمثل النقود مصدر اطمئنان نفسي في مواجهة عدم اليقين. وحينما يشعر المدخرون بالتشاؤم تجاه المستقبل، يمكنهم الاتجاه إلى الاحتفاظ بمدخراتهم بدلا من استثمارها في الأعمال؛ لذا ليس ثمة ما يضمن إنفاق الفرد لدخله بالكامل. يعني هذا أنه لا توجد نزعة فطرية لدينا لاستغلال جميع مواردنا المتاحة. يقول كينز في كتابه «النظرية العامة»:
لا يمكن تشغيل الناس عندما يكون الشيء المرغوب فيه (أي النقود) شيئا لا يمكن إنتاجه (أي نوظف الناس لإنتاجه) ولا يمكن وقف الطلب عليه بسهولة. وليس هناك حل إلا بإقناع الناس ببديل زائف للقمر يمكن تصنيعه وإخضاع من يصنعه (أي البنك المركزي) لسيطرة الدولة.
حينما ذكر كينز النقود بدلا من السلع ووصفها بأنها «الشيء المرغوب فيه»، هل كان ذلك سطحيا أم أنه قصد شيئا عميقا على نحو هزلي؟ وإلى أي مدى يمكن أخذ اقتراحه بجعل النقود مثل «البديل الزائف للقمر» على محمل الجد؟
لقد خضعت تلك المسألة للنقاش منذ ذلك الحين. فهل كان كينز مجرد متأمل لبعض الأفكار، أم أنه مخلص يقدم للعالم المريض أملا أو حلا جديدا؟ كتبت الاقتصادية بياتريس ويب، عضو الجمعية الفابية، تقول: «لم يكن كينز جادا بشأن المشكلات الاقتصادية؛ فهو يلعب معها مباراة شطرنج في أوقات فراغه. والمجال الوحيد الذي اهتم به هو علم الجمال.» أما راسل ليفنجويل - المسئول بوزارة الخزانة الأمريكية الذي تفاوض مع كينز في مؤتمر باريس للسلام عام 1919 - فقد رأى أن كينز «فاسد وخبيث دائما ... وشاب ذكي يصدم معجبيه الأكبر سنا بتشكيكه في وجود الرب والوصايا العشر!» لكن الاقتصادي جيمس ميد، الذي عرف كينز وهو طالب في مرحلة الدراسات العليا بجامعة كامبريدج وموظف عام وقت الحرب، قال عنه: «لم يكن كينز مجرد رجل عظيم جدا فحسب، بل كان رجلا رائعا كذلك.» وبالنسبة للاقتصاديين الأصغر سنا على نحو عام، فقد مثل كتاب كينز «النظرية العامة» شعاع ضوء في عالم من الظلام الدامس. وقال عنه ديفيد بينسوزان-بات، الذي أصبح أستاذا للاقتصاد بكلية كينجز كوليدج بجامعة كامبريدج عام 1933: «لقد كان الكتاب بمنزلة رسالة سماوية في عصر الظلام. لقد جاءت رأسمالية كينز المحسنة بكل ما كان يصبو إليه جيل الجمعية الفابية، بل أكثر، في الاشتراكية؛ فقد نادت بالمساواة إذا نظرنا إليها من منظور أخلاقي، وأحسنت استغلال كل شيء، وكانت سخية وبراقة ...» أما لوري تارشيس، وهو تلميذ آخر لكينز، فكتب يقول: «في النهاية كان ما قدمه كينز حقا هو «الأمل»؛ الأمل في استعادة الرخاء والحفاظ عليه دون الحاجة إلى معتقلات وأحكام إعدام واستجوابات وحشية ...»
صفحه نامشخص
استمر هذان الوصفان النمطيان حتى وقتنا هذا. فهؤلاء الذين يعارضون كينز يرون أنه قدم فرضيات مبتكرة لكنها في النهاية مشتتة وغير صحيحة؛ أما مؤيدوه فيرون أنه قدم أفكارا عميقة في مجال السلوك الاقتصادي، إلى جانب أدوات قيمة على نحو دائم للسياسات الاقتصادية. وكلا الوصفين صحيحان، بيد أنهما ناقصان. فشخصية كينز لها جوانب عديدة؛ فيرى الناس منه أوجها مختلفة. هذا بخلاف أنه تغير؛ ما يعني أن الأجيال المختلفة رأته بأشكال مختلفة. ولقد كان كينز بالفعل يحب التلاعب بالأفكار بطريقة متهورة، لكن صديقه أوزوالد فولك قال عنه: «بهذه الطريقة، ورغم الشواهد المضللة، كان أسرع في مواكبة سير الأحداث من غيره.» وقد كان بارعا في صياغة عبارات قوية، وكان يستخدم الكلمات عن عمد لاستثارة الناس وإخراجهم من حالة الكسل العقلي. لكن «حينما وصل إلى مكانة كبيرة في عقول الناس، لم يعد الاستخدام الجمالي للغة مقبولا.» صحيح أنه ليس هناك مجال للشك فيما يتعلق بجدية نوايا الرجل، لكن السؤال الأساسي يكمن فيما إذا كانت المفاهيم التي صاغها ونقلها إلينا هي المفاهيم الصحيحة لفهم عالمه وعالمنا من بعده أم لا.
إن أفكار كينز تضرب بجذورها في زمانه ومكانه؛ فقد ولد عام 1883 وتوفي في عام 1946. كان مولده في عالم افترض أن طريق السلام والرخاء والتقدم هو الطريق الطبيعي للعالم، وعاش طويلا على نحو كاف حتى رأى تلك التوقعات وهي تنهار. فعندما اشتد ساعده، كانت بريطانيا هي قلب إمبراطورية عظمى، في حين شهدت الأشهر الأخيرة من حياته استجداءها للولايات المتحدة الأمريكية. ولم يعاصر في حياته انهيار الإمبراطورية البريطانية فحسب، بل شهد كذلك الوهن وهو ينخر عظام الاقتصاد البريطاني. وشهدت حياته تحولا من اليقين إلى الشك، ومن حديقة طفولته السعيدة إلى غابة سنوات نضجه حيث الوحوش الضارية. وفي عام 1940، كتب إلى مراسل أمريكي يقول: «للمرة الأولى منذ أكثر من قرنين أصبحت رسالة هوبز إلينا أهم من رسالة لوك.»
كان كينز نتاج تفكك تقاليد العصر الفيكتوري. وهذا ما جعل مشكلة السلوك الشخصي والاجتماعي في قلب اهتماماته. لكن فيما قبل الحرب العالمية الأولى، غمر هذا التفكك كينز ومعاصريه بفيض من السعادة؛ فقد رأوا أنفسهم أول جيل يتحرر من الخرافات المسيحية، ورأوا في أنفسهم أيضا صانعي عصر تنويري جديد، والمستفيدين منه، والذين يمكنهم صياغة أفكاره وقواعد سلوكه في ضوء العقل فقط. فكانت أفكارهم شخصية وجمالية؛ فالحياة العامة كانت محبطة إلى حد ما؛ لأنه بدا أن معارك التقدم الكبيرة كلها قد باتت محسومة. وأصبحت التجربة لغة العصر في الفنون والفلسفة والعلوم وفي أساليب الحياة بدلا من السياسة والاقتصاد؛ فقد ولد دياجاليف عام 1872، وولد بيكاسو عام 1881، وجروبيس عام 1883، وجيمس جويس وفيرجينيا وولف في عام 1882، وولد راسل في 1872، وجي إي مور عام 1873، وولد فيتجنشتاين عام 1889، وأينشتاين عام 1880. وكان فرويد - أحد هؤلاء الذين شكلوا الوعي في أوائل القرن العشرين - هو الوحيد الذي لا ينتمي لهذا الجيل؛ فقد كان ميلاده في عام 1856.
نشبت الحرب العالمية الأولى، وتغير بعدها كل شيء. وبعد عام 1914 برزت قضية إدارة العالم الذي ننتمي إليه؛ وهو عالم اتضح أنه ينزلق إلى الفوضى. فكانت القضية هي قضية السيطرة لا التحرر. واعترف كينز عام 1938 أن الحضارة «كانت مجرد قشرة رقيقة غير مستقرة.» استولى رجال الحكم على مقاليد الأمور، عاقدين العزم على فرض تصوراتهم عن النظام للقضاء على الفوضى؛ حيث ولد ستالين عام 1879، وموسوليني عام 1883، وهتلر عام 1889. وفقدت الحداثة براءتها، وتراجع المرح مفسحا المجال للرعب. وبدأ كينز يتأمل عقيدته. وفي عام 1934 قال لفرجينيا وولف: «بدأت أعتقد أن جيلنا - جيلي أنا وأنت - يدين بشكل كبير لدين آبائنا. فلن يخرج الصغار ... الذين لم يتربوا عليه بالكثير من الحياة. فهم تافهون كالكلاب يجرون وراء شهواتهم. لقد فزنا بأحسن ما في العالمين؛ فقد انتصرنا على المسيحية، لكننا مع ذلك فزنا بمزاياها.» لكن النقطة الأهم تكمن في أنه لم يستسلم قط لسياسات اليأس الثقافي. فرغم كل شيء، بقيت لديه بهجة الحقبة الإدواردية. فالشك يمكن مواجهته، ليس بالقوة الوحشية، وإنما بالعقول وتوظيف الذكاء، وعندها يمكن استعادة التوافق مرة أخرى. كانت تلك عقيدته النهائية ورسالته، إن جاز التعبير، لعصرنا.
كان كينز مؤهلا جيدا لنقل تلك الرسالة؛ فقد كتب برتراند راسل يقول إن «عقل كينز كان الأذكى والألمع بين كل من عرفتهم. فعندما كنت أجادله، كنت أشعر أنني أرى حياتي أمام عيني، ولم أكن أشعر فيها قط بأني كنت أحمق إلا أمامه.» لكن ثمة آخرون شعروا أنه استخدم عبقريته بشكل مفرط، ومن بين هؤلاء كينيث كلارك الذي قال عنه إنه: «لم يخفت اتقاد ذهنه قط.» لكن تفكيره المتدفق هذا هو ما صدم معاصريه على نحو أساسي؛ فكانت لديه نزعة - كما يقول كينجسلي مارتن - «للالتفاف حول العقبات التي تقف أمامه وتجاوزها بدلا من التخلص منها. فهو مثل التيار يبدو عادة وكأنه يتحرك في اتجاهات متعاكسة.» ومن العبارات الساخرة التي شاعت في حياة كينز أنه لا يجتمع خمسة من الاقتصاديين إلا وتجد ستة آراء؛ اثنان منها لكينز. ويقول كينجسلي مارتن: «لكن الاتهامات التي وجهت إليه بالتقلب واتباع النزوات، لم تعن شيئا سوى أن عقله يتعامل بسرعة وبشجاعة الفرسان على نحو ما مع الصعوبات العملية، ليقدم حلا ممكنا تلو الآخر بشكل يرعب ويذهل أهل الحذر وجمود الفكر.» وتكمن المفارقة - كما قال كيرت سينجر - في أنه يمكن لشخص «لا يجد ضالته إلا في الحركة ... والذي يمكنه أن يبني ويهدم في يوم واحد عددا كبيرا من الفرضيات الفكرية الرائعة» أن يترك للعالم «كتاب عقيدة جديدة».
مع ذلك فمن الخطأ أن نحكم عليه، كما حكم عليه لويد جورج، بأنه «نبتة بلا جذور»؛ فقد ولد في العصر الفيكتوري، وظل يحتفظ بآثار «القيم الفيكتورية» طوال حياته. وورث كينز حسا قويا بالواجب، رغم أنه - مثل سيدجويك - لم يجد مبررا لذلك من الناحية الفلسفية. لقد آمن بهيمنة النخبة النبيلة أو الأرستقراطية الفكرية. وهذه الفكرة تخلط بين ما هو اجتماعي وما هو فكري؛ مما يعكس صعود عائلة كينز، من خلال التفوق العقلي ونجاح الأعمال، إلى دائرة النخبة الحاكمة في العصر الفيكتوري. وقد كان وطنيا فكريا، رغم أن وطنيته خلت من أي أثر للتطرف. وقد آمن بشدة بفضائل حقبة السلام النسبي الذي ساد أوروبا والعالم بعد هيمنة الإمبراطورية البريطانية على العالم، ولم يقتنع بوجود أي قوة أخرى يمكنها أن تتولى دور بريطانيا العالمي. كما كان مؤيدا لألمانيا ومعارضا لفرنسا، وهو ما ورثه أيضا عن القرن التاسع عشر.
كانت مخالفة العرف عاملا حاسما في تكوين شخصية كينز. وهو ما يظهر في أسلوبه المقتصد. فقد رأى الناس أن متعه كانت «قليلة جدا»؛ ففي نهاية حياته ندم على أنه لم يشرب المزيد من الخمر. وعلى الرغم من أنه قد أصبح فاحش الثراء، فإنه قد عاش باعتدال دون أبهة أو بذخ. وبصفته اقتصاديا، شغل تفكيره على نحو كبير ميل الناس لكنز الأموال بدلا من إنفاقها، وترجم هذا العيب الثقافي، أو النفسي، الموجود في سلوك الطبقة التي ينتمي لها إلى تفسير مفعم بالمفارقة لاحتمال سقوط الاقتصاديات الرأسمالية.
انحدر كينز من عائلة من الوعاظ، وخاصة من ناحية الأم. وكان ضمن الجيل الأول ممن لم يؤمنوا بالدين، والذين لم تزعجهم «الشكوك»، لكن اللاهوت كان يجري منه مجرى الدم، وكان الحد الفاصل بين علم اللاهوت وعلم الاقتصاد أصغر مما هو عليه اليوم. لكن كانت لديه قدرة كبيرة على مخالفة العرف والاعتراض مثل المنشقين البروتستانت؛ فقد كانت مقالاته الاقتصادية بمنزلة مواعظ علمانية. إن «الفردية غير المسبوقة لفلسفتنا» التي أشار إليها عام 1938 قامت على الاعتقاد بأن الإنسان (على الأقل في إنجلترا) هذبته القيم الفيكتورية أخلاقيا على النحو الكافي، وأصبح على استعداد «لأن يتحرر بأمان من القيود الخارجية للعرف والمعايير التقليدية وقواعد السلوك الجامدة، وأن يترك - من الآن فصاعدا - لملكاته العقلانية ودوافعه النقية وفطرته الخيرة السليمة.»
لم يحظ كينز بتعاطف اجتماعي كبير، رغم أنه نما بمرور الوقت؛ فقد بنت عائلته العصامية نفسها بسواعدها، وعلى نحو عام توقع أن يفعل الآخرون نفس الشيء، بشرط توافر فرص العمل التي تكفي الجميع. أما بالنسبة للباقين، فقد كانت هناك جمعية تنظيم العمل الخيري وغيرها من الجمعيات النموذجية التي ظهرت في منتصف العصر الفيكتوري لمساعدة غير القادرين ومدمني الخمر. لكن نزعة كينز الموروثة لمخالفة العرف انحسرت أمام القبول الاجتماعي؛ فقد انتقل إلى كلية إيتون (وهي أفضل مدرسة في بريطانيا في ذلك الوقت)، ونما حبه لرفقة زملائه النابغين الأكبر منه سنا. وقد أحب أيضا مرافقة الأغنياء وذوي النسب، رغم أنه لم يفرط في الاندماج معهم. وعندما كبر كينز أصبح أكثر تحفظا، ليكون رائدا للاستمرارية والتطور؛ فقد كتب في نهاية كتابه «النظرية العامة» أن النتائج الاجتماعية التي خرجت من أفكاره الاقتصادية كانت «إلى حد ما متحفظة». ورأى أن الرأسمالية التي كان ينبذها أخلاقيا يمكنها أن تبقى لكن في ظل إدارة محسنة.
أما ما لم يتغير منذ طفولة كينز، فكان عاداته في العمل؛ فقد كان يعمل كأكثر الآلات كفاءة. وبهذا فرض نظامه الخاص على عالم فوضوي. وهو ما مكنه من أن يعيش حيوات عديدة، وأن يستمتع ويتحمس لكل منها؛ فقد شغل كل لحظة في يومه بأنشطة وخطط متنوعة. وكان يؤدي كل أعماله في سرعة مبهرة. وامتلك قدرة عجيبة على الانتقال من مهمة إلى أخرى؛ ورغم كل ما كان يفعله، لم يبد عليه التسرع، وكان لديه وقت وفير للأصدقاء والتحدث وممارسة الهوايات.
صفحه نامشخص
كان حماس كينز «الهائل والغريب للتاريخ والإنسانية» هو ما قربه من فيرجينيا وولف؛ حيث كان «عقله يعمل باستمرار»، ويفيض «بأفكار غزيرة في موضوعات لا يطرقها إلا القليلون.» فقد كان شغوفا بالعالم، ولم يدرس أي موضوع إلا وكون عنه نظرية ما، مهما كانت خيالية. وهناك جملة مشهورة له تقول: «لم تكن إنجلترا مستعدة لاستقبال شكسبير إن ولد قبل مولده بخمسين عاما.» وكانت عادته الجذابة هذه بالتطرق إلى ميادين تخشى العقول الأبطأ من عقله دخولها، واعتماده على اختلاق الأفكار بسرعة للخروج من المآزق الصعبة؛ هما السبب في أغلب الأحيان في هجوم الخبراء عليه واشتهاره بأنه هاو حتى في علم الاقتصاد. لكن هذا لم يقتصر على محادثات ما بعد العشاء. كان كينز مهووسا باهتمامات فكرية تبدو بعيدة عن مجال عمله؛ فقد حاول في بداية حياته أن يضع صيغة للتنبؤ بعمى الألوان بناء على قوانين مندل الوراثية؛ وفي عشرينيات القرن العشرين استحوذ عليه على نحو متكرر مقال كتبه بعنوان «الجنون البابلي» عن نشأة النقود؛ حيث كتب إلى ليديا لوبوكوفا في 18 يناير 1924 قائلا: «إنه مقال سخيف تماما وعديم الفائدة إلى حد كبير، لكنه استحوذ علي مرة أخرى لدرجة الهوس ... والنتيجة أنني أشعر بالجنون والبلاهة. مع تحيات، مجنون يغمره الجموح، مينارد.»
لكن كفاءة كينز لم تعفه من الإرهاق المستمر؛ فقد كان مجهدا على الدوام. وفي شبابه ذهب ذات مرة ليقضي عطلة نهاية أسبوع هادئة مع برتراند راسل، وحدث أن وصل ستة وعشرون ضيفا بشكل مفاجئ، معظمهم - حسبما ألمح راسل - جاء تلبية لدعوة كينز. ولاحقا أصبحت الحقائب الممتلئة بالأوراق رفيقة دائمة له في عطلاته بالخارج. ولقد قضى سنوات فيما أسماه هو نفسه ب «العذاب على الطريقة الصينية» في لجان المدرسة والجامعة، التي كان من السهل عليه تفاديها؛ فقد كان دائم التساؤل: «هل هذا ضروري؟» «لم كل هذا الضجيج؟» «لماذا أفعل هذا؟» فهل كان لكينز أي هوية وهو وحده؟ لم يبد أنه يعيش في سلام مع نفسه؛ فقد كان يظن أنه قبيح، وكان يكره صوته. وشكا أصدقاؤه في مجموعة بلومزبيري من انعدام حساسيته الفنية، وسخروا من ذوقه في الصور والأثاث. فكانت «الأقنعة» التي يرتديها مادية قبل أن تكون عقلية. وتوارت العيون اللاهية والفم الجذاب خلف القشور التقليدية لأي رجل «ذي شأن»؛ الشارب العسكري والبذلات السوداء والقبعات التي كان يرتديها حتى في نزهاته؛ فقد حاول إثبات هويته من خلال تفوقه في العالم الخارجي.
أما سلوكه نحو الآخرين، فقد كان خليطا من الطيبة وعدم التسامح؛ فقد كان لديه في قلبه متسع كبير لحب الآخرين، وعلى عكس زملائه من أعضاء مجموعة بلومزبيري، كان وفيا لأصدقائه على نحو استثنائي. كما كان يقدر الألغاز والغرائب والهوس بكل ما يخص العقل؛ لأنه كان غالبا ما يراها مصدرا غنيا للاحتمالات المشوقة. وكان يقدر كلمة
genius ، والتي تعني «عبقري»، لكنه استخدمها بمعناها الأصلي وهو «الروح الطليقة». ومثل العديد من المفكرين، كان يحترم الخبرة العملية مهما كانت متواضعة. ولم يكن صبورا، لكنه كان قادرا على تحمل قدر كبير من المشكلات في علاقاته بأصدقائه ومن كان يرى أنهم يستحقون ذلك.
في الوقت نفسه كان من الممكن أن يتصرف أحيانا بطريقة غير مهذبة مطلقا، خاصة مع أولئك الذين كان يرى أنهم ينبغي أن يعرفوه على نحو أفضل. وكان مصابا بلعنة أكسبريدج؛ حيث كان مؤمنا بأن كل البراعة التي في العالم تكمن في جامعتي أكسفورد وكامبريدج وفي كل ما ينتج عنهما. وبالتوازي مع ذلك، كانت نظرة كينز للعالم تعتبر إنجلترا في مركزه، وهي نظرة كانت أكثر شيوعا وقتها من الآن. وكان عادة ما يفلت بسلوكه غير المهذب بسبب حضور بديهته وإتقانه لأسلوب تسفيه الرأي الآخر. لكنه كان قادرا على إيلام الآخرين. وعن هذا، كتب الاقتصادي الأمريكي والتر ستيوارت يقول:
في محادثاته، كان كينز بارعا في أغلب الأحيان، لكنه أحيانا يكون قاسيا أيضا. فلم يكن بإمكانه مقاومة إغراء تحقيق نقاط على حساب الآخرين، وحينها كان ينظر فيمن حوله من المستمعين ليرى هل كانوا قد لاحظوا تفوقه أم لا. وكان أحيانا يستخدم سيف ذكائه ضد من لا يمكنهم الدفاع عن أنفسهم بسهولة، وحتى ضد الغائبين عن المجلس.
لم يكن هذا الأسلوب ليروق لأحد. فلم يعجب قط الأمريكيين. فعلى سبيل المثال، بدا «خطابه المفتوح» لروزفلت عام 1933 - كما يقول هيربرت شتاين - «مثل خطاب معلم لولي أمر فاحش الثراء لتلميذ بليد جدا.» وفي مدينة سافانا، في مارس 1946، في الاجتماع الافتتاحي لصندوق النقد الدولي، ألقى كينز خطابا تمنى فيه ألا تكون هناك أي «جنية شريرة» إلا وقد دعيت إلى ذلك الاجتماع. كان ذلك إشارة لباليه تشايكوفسكي «الجمال النائم»، لكن فريدريك فينسون وزير الخزانة الأمريكي أخذ العبارة على محمل شخصي، وصاح قائلا: «لا أمانع أن أوصف بالشرير، لكني لا أرضى بأن أدعى جنية.»
أما كيرت سينجر، فيقدم صورة أفضل لسلوك كينز؛ حيث يقول عنه: «لقد جسد بالإشارة وبالنظرة وبالكلمة ... صورة طائر ذي سرعة غير معقولة، يرسم دوائر على ارتفاعات شاهقة، لكن بدرجة عالية في الدقة، ثم ينقض فجأة على حقيقة أو فكرة معينة، وهو قادر على نحت كلمات لا تنسى لتعبر عما رآه، فيفرض غنيمته الفكرية بقبضة حديدية حتى على من يرفضونها.»
لم يكن من الواضح، من خلال خلفية كينز ولا من قدراته، أنه سيتخذ من علم الاقتصاد مجالا للعمل؛ فقد كان والده اقتصاديا واختصاصيا في علم المنطق، لكن ما آلت إليه حياته العملية لم يكن شيئا مبشرا بالنسبة لكينز؛ فقد آلت به الحال للعمل في أعمال إدارية في الجامعة. أما كينز فكان عقله شديد الاتساع وروحه عالية الهمة بشكل لا يمكنه من القيام بعمل أكاديمي شديد التخصص. ففي أثناء كتابته لعمله «بحث في الاحتمال» استهلك كل اهتمامه الجدي بالمنطق؛ فقد كان المنطق أفقا ضيقا بالنسبة لعقله. فيجب أن يكون الإنسان قادرا على استخدام عقله بشكل جمالي وعملي. كان كينز مولعا منذ وقت مبكر بالجانب النفسي للتعاملات المالية والمراهنات في سوق الأوراق المالية، وكان من الممكن أن تجعله مواهبه الإدارية موظفا عاما رفيعا، وكان أيضا كاتبا رائعا. وفي نهاية المطاف كان قادرا على أن يجعل من علم الاقتصاد وسيلة لإشباع هوسه وصقل مواهبه، لكن حالة عدم اليقين في عالم صدمته الحرب هي ما جعل علم الاقتصاد مجال عمله.
لكن ما الذي يميز كينز كاقتصادي؟ إن أهم ما يميزه هو مزيج المواهب الذي قدمه لهذا المجال. ومن المستحيل أن تعتقد أنه لم يكن يقصد نفسه حينما كتب في مقاله عن ألفريد مارشال:
صفحه نامشخص
يجب على الاقتصادي المتمكن أن يمتلك مزيجا نادرا من الهبات ... يجب أن يكون عالم رياضيات ومؤرخا ورجل دولة وفيلسوفا، بدرجة ما. عليه أن يفهم الرموز ويتحدث بالكلمات. عليه أن يتأمل ما هو خاص في ضوء ما هو عام، وأن يتعامل مع المجرد والمادي معا في نفس جولة التفكير. وعليه أن يدرس الحاضر في ضوء الماضي من أجل المستقبل. ويجب ألا يخرج أي جزء من طبيعة الإنسان أو مؤسساته عن دائرة اهتمامه بشكل كامل. وعليه أن يكون هادفا ونزيها معا؛ فينعزل ويتسامى عن الشوائب مثل الفنان، لكن ينزل إلى أرض الواقع أحيانا مثل رجل السياسة.
وكتبت زوجة كينز - ليديا لوبوكوفا - إن كينز كان «أكثر من مجرد اقتصادي»؛ فقد رأى كينز نفسه أن «عوالمه كلها» أثرت فكره الاقتصادي. فهو أشبه ما يكون بعالم الاقتصاد السياسي - ذلك المفهوم القديم الذي يصعب تعريفه - وهو شخص يعتبر الاقتصاد فرعا من فروع إدارة الدولة، لا علما منغلقا على ذاته له قوانينه الثابتة. ذات مرة سأله أحد محاوريه في لجنة المالية والصناعة (لجنة ماكميلان): ألم تعطل مزايا الضمان الاجتماعي عمل «القوانين الاقتصادية»؟ رد كينز بقوله: «لا أعتقد أن من بين القوانين الاقتصادية ما ينص على أن تميل الأجور إلى الانخفاض أكثر من ميلها للارتفاع. إن الأمر يتعلق بالحقائق. والقوانين الاقتصادية لا تصنع حقائق؛ بل تبين تبعاتها.» وفي منتصف عمره، كان دائم الشكوى من أن الاقتصاديين الشباب لم يكونوا يتلقون تعليما مناسبا؛ فلم تكن لديهم ثقافة واسعة تمكنهم من تفسير الحقائق الاقتصادية. وفي هذا إشارة لمشكلة علم الاقتصاد، وكذلك للثورة الكينزية؛ فقد أشعل كينز نار الإبداع بين المختصين، لكنهم ظلوا مجرد مختصين؛ فقد استخدموا أدواته لكنهم لم يضيفوا جديدا لرؤيته.
وزعم كينز في مقاله عن توماس مالتوس أن «رجل الاقتصاد الأول في كامبريدج» لديه «حدس اقتصادي عميق»، و«مزيج غير عادي من انفتاح الذهن على الصورة المتغيرة للتجربة والتطبيق المستمر لمبادئ التفكير المنهجي على تفسيرها.» وفي هذا ملخص لفلسفة كينز في الاقتصاد؛ فقد أخبر روي هارود عام 1938 أن علم الاقتصاد «هو علم التفكير باستخدام النماذج ممزوجا بفن اختيار النماذج المناسبة للعالم المعاصر ... فالاقتصاديون الأكفاء نادرون؛ لأن موهبة توظيف «الملاحظة الواعية» لاختيار النماذج الجيدة ... تبدو غاية في الندرة.» وفي مقاله عن إسحاق نيوتن، نقل كينز كلمات دي مورجان عنه: «إنه سعيد جدا بحدسه بحيث يبدو وكأنه يعلم أكثر مما يمكنه إثباته.» وهذا الكلام ينطبق على كينز الذي كان يشعر بصحة النتيجة قبل أن يتمكن من تقديم الدليل عليها.
كان كينز أكثر الاقتصاديين اعتمادا على الحدس؛ والحدس المقصود هنا هو الحدس «الأنثوي»، وهو شعور باليقين بعيد كل البعد عن العقلانية. (ويرجع تشارلز هيسون، واضع إحدى سير حياة كينز، إبداعه إلى مزيج من الحدس الأنثوي والمنطق الذكوري.) ويجب التفريق بين الحدس بهذا المعنى والحدس الفلسفي الذي آمن كينز به أيضا، والذي ينص على أن المعرفة تنبع مباشرة من التأمل الذاتي. كان كينز يتمتع بقدرة ثاقبة على إدراك الصورة الكلية في مجمل المواقف، وكان لديه قدر كبير من الخيال العلمي الذي عزاه إلى فرويد، والذي «يمكنه أن يقدم سيلا من الأفكار المبتكرة والاحتمالات المثيرة والفرضيات المفيدة، التي لها جميعها أساس كاف في الفطرة والتجربة.» كما كانت الحقائق الاقتصادية أكثر ما يجذب تأملاته، عادة من الناحية الإحصائية. وكان دائما ما يقول إن أفضل الأفكار التي خطرت بباله جاءته في أثناء «عبثه بالأرقام ومحاولة اكتشاف مدلولاتها.» لكنه مع ذلك كان متشككا في علم الاقتصاد القياسي المعني باستخدام الطرق الإحصائية لأغراض التنبؤ. كما طالب بتطوير علم الإحصاء، ليس من أجل فهم أفضل لأمور مثل معامل الانحدار، ولكن ليعتمد عليه حدس الاقتصادي.
كان من أهم مصادر فهم كينز لمجال الأعمال انخراطه الشخصي في جني الأموال؛ فقد قال عنه نيكولاس دافينبورت صديقه ورفيقه: «لقد كان فهم كينز لنزعة المراهنة هو ما جعل منه اقتصاديا عظيما.» وأضاف:
الاقتصادي الأكاديمي لا يعلم حقا دوافع رجل الأعمال، ولم يفضل أحيانا أن يراهن على مشروع استثماري، بينما يفضل في أحيان أخرى الاحتفاظ بالسيولة النقدية. أما مينارد فقد فهم تلك الدوافع؛ لأنه كان نفسه مراهنا، وأدرك نزعتي المراهنة والحفاظ على السيولة لدى رجل الأعمال. وفي مرة قال لي: «تذكر يا نيكولاس أن الحياة دائما رهان.»
وغالبا ما كان يتعارض شغف التعميم عند كينز مع حسه الثاقب نحو الأشياء الخاصة المهمة. فقد كافح دائما من أجل «أن يرى عالما كاملا في حبة رمل ... وأن يرى الدهر في ساعة.» لقد كانت قدرة كينز على «أن يتعامل مع المجرد والمادي معا في نفس جولة التفكير» ميزة باهرة ومحيرة في نفس الوقت لأفكاره الاقتصادية. ولم يكن الناس على علم قط بمستوى التجريد في تفكيره. وقد شكا زميل كينز في جامعة كامبريدج، والذي يدعى بيجو، في أثناء نقده لكتابه «النظرية العامة»؛ من رغبة كينز في «تحقيق مستوى عال من التعميم؛ بحيث تجب مناقشة كل شيء في نفس الوقت.» وقال شومبيتر الكلام ذاته تقريبا؛ فقد قال إن كتاب كينز «النظرية العامة» قدم «في ثوب من الحقيقة العلمية العامة، نصائح ... لا معنى لها إلا في سياق المقتضيات العملية لموقف تاريخي مميز في زمان ومكان محددين»؛ فقد عرض الكتاب «حالات خاصة منحها ذهن الكاتب وطريقة عرضه تعميما خادعا.»
وجاء من زميل آخر لكينز في جامعة كامبريدج، وهو دينيس روبرتسون، نقد ذو صلة يلخص في عبارة «التأكيد المفرط المتتابع»، فقد قال في هذا الشأن:
يمكنني القول إنني - بقدرتي على التواصل المستمر مع جميع عناصر مشكلة ما بشكل تقليدي غير مميز - مثل دودة براقة تنشر ضوءها الضعيف على جميع الأشياء المحيطة بها؛ لكنك في المقابل - بفكرك الأكثر قوة - مثل منارة تسلط شعاعا أقوى بكثير، وإن كان مشوها جدا أحيانا، على شيء واحد ثم الذي يليه.
انتقد ألفريد مارشال في جيفنز ما انتقده الكثيرون في كينز: «حتى أخطاؤه عززت نجاحه ... فقد دفع الكثيرين للاعتقاد أنه يصوب أخطاء عظيمة، بينما كان ما يفعله حقيقة هو إضافة تفسيرات هامة.»
صفحه نامشخص
من الواضح أن هناك مجالا للتساؤل عما إذا كان كتاب «النظرية العامة» لكينز - كما يقترح كيرت سينجر - «لم يوضع ليلائم حالة خاصة جدا تحكمها التقلبات السياسية وتداعياتها النفسية للفترة الصعبة فيما بين الحربين العالميتين؛ وعما إذا لم يكن كينز في الحقيقة يناقش ظاهرة من غير الوارد أن تتكرر.» ويصعب على الجانب الآخر تفسير الانهيار الأمريكي عام 1929 في ضوء ذلك؛ فقد كان مقدار الاكتئاب الذي أصاب الولايات المتحدة «بلا سبب»، هو الحقيقة ذاتها التي سعى كتاب «النظرية العامة» لتفسيرها، كما سنرى.
في النهاية، لا يمكن فصل التحول من الاقتصاد «الكلاسيكي» إلى الاقتصاد «الكينزي» عن التغيرات الكبرى التي عاصرها كينز في السياسة والشئون الدولية والعلوم والفلسفة وعلم الجمال؛ فقد انعكست جميعها في عقله اللامع والغامض؛ فقد ظل إدواردي الفكر؛ بمعنى أن معتقداته عن العالم تشكلت في السنوات الأولى من القرن العشرين. وطوع عقيدته للحقائق البائسة اللاحقة. ولم يسع في أفكاره الاقتصادية للبحث عن الحقيقة، بل للوصول إلى فكرة ممكنة ضرورية لسلوك البشر في عالم فقد كل مبادئه الأخلاقية. ولم يستسلم كينز لليأس قط. بل تجاوز بتفاؤله أحلك اللحظات. وقبل وفاته بوقت قصير أثنى على دور علم الاقتصاد ورجاله، قائلا إنهم «أمناء، ليس على الحضارة، بل على السبل المتاحة أمامها.» ولم يكن ليختار هذه الكلمات الدقيقة إلا رجل يمتلك حسا لغويا مرهفا وحسا إدوارديا تجاه الهدف من الحياة.
الفصل الأول
حياة كينز
أخذ كينز على عاتقه إنقاذ ما سماه «الفردية الرأسمالية» من داء انتشار البطالة، الذي رأى كينز أننا إذا أهملناه فسيجعل «أنظمة الحكم الاستبدادية» هي الأنظمة السائدة في العالم الغربي. ولد كينز في الخامس من يونيو عام 1883 في حقبة مختلفة تماما من «الفردية الرأسمالية»؛ حقبة كان التقدم الاقتصادي فيها أمرا بديهيا، وحكمت الدولة فيها نخبة ليبرالية امتلكت الأراضي والأموال، وبدا أن بريطانيا أمنت لنفسها موقعها في قلب النظام التجاري العالمي. ولم ير سوى قليلين أن هذه الحقبة تتجه نحو الأفول. وكانت شكوك العصر الفيكتوري لا تزال دينية أكثر منها مادية، رغم الهواجس بشأن الأخطار التي تهدد النظام الراسخ، والتي منها ظهور الديمقراطية في الداخل، وخطر ألمانيا في الخارج، وتراجع الأهمية الاقتصادية، والتزايد المطرد في معدل التقلبات الصناعية. وظهرت كلمة «بطالة» لأول مرة في «قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية» عام 1888، وهذه علامة على أشياء كانت وشيكة الحدوث.
لم يكن جون مينارد كينز نتاج قصة نجاح فيكتورية غير مألوفة؛ فقد كان الأكبر من بين ثلاثة أطفال لعائلة ميسورة الحال، عملت بالسلك الأكاديمي بجامعة كامبريدج، وسكنت في 6 طريق هارفي. ويعود أصل عائلة كينز إلى فارس نورماني جاء مع ويليام الأول الملقب بويليام الفاتح. لكن كان جد مينارد كينز من جهة الأب هو من أنقذ العائلة من الفقر، بعد أن جمع ثروة صغيرة من امتلاكه لمزرعة خضراوات صغيرة يبيع ثمارها للناس في سولزبيري. وتمكن ولده الوحيد، جون نيفيل، من الحصول على زمالة كلية بيمبروك في جامعة كامبريدج في سبعينيات القرن التاسع عشر. كان فيلسوفا واقتصاديا، حيث كتب نصوصا صالحة للنشر في علم المنطق والمناهج الاقتصادية، وأصبح لاحقا أمين سجلات الجامعة. وفي عام 1882 تزوج فلورنس أدا براون، ابنة كاهن طائفة معروف شمال البلاد وناظرة مدرسة كرست حياتها لقضية تعليم المرأة. كان نسب العائلتين يجمع بين «الدين والتجارة»، وكان انتقال العائلة إلى كامبريدج جزءا من استيعاب الشذوذ الريفي في أثناء تأسيس إنجلترا الفيكتورية.
جسد والدا كينز القيم الفيكتورية في صورة مرنة. فانغمس جون نيفيل كينز في مجموعة متنوعة من الهوايات. وورث عنه مينارد كينز حدة الفكر وكفاءة الإدارة مع نزعة للمزاح، رغم أن القدر رحمه ولم يرث القلق من أبيه. أما فلورنس كينز فقد تبنت «قضايا هامة»، لكن ليس على حساب أسرتها قط؛ فقد مثلت - كما هو الحال بالنسبة لجميع أفراد عائلة براون التي تنتمي إليها - جانبي «الوعظ وفعل الخير» فيما ورثه مينارد عن عائلته؛ كما أن عائلة براون كانت تتمتع ببعض الخيال الفكري. كانت عبقرية كينز ذاتية، لكنه شعر أن هناك تقاليد اجتماعية وفكرية عليه الالتزام بها.
كانت البيئة المحيطة بكينز على مستوى عقلي رفيع؛ فقد شملت دائرة كينز بعضا من أكبر الاقتصاديين والفلاسفة في ذلك العصر؛ ألفريد مارشال وهيربرت فوكسويل وهنري سيدجويك ودبليو إي جونستون وجيمس وارد. وعندما كان كينز شابا صغيرا كان يلعب الجولف مع سيدجويك، وكتب عنه بدقة يشوبها المكر (لصديقه برنارد سويثينبانك في 27 مارس 1906): «لم يكن يفعل أي شيء قط سوى التساؤل عما إذا كانت المسيحية حقيقة فيثبت العكس، ومع ذلك، يأمل أن تكون حقيقة.» كانت كامبريدج أقل اهتماما بزخارف الحياة من أكسفورد. ورغم أن مينارد امتزج بالعالم الدنيوي، فقد ظلت مبادئه سماوية. وطبق في الحكم على حياته وحياة الآخرين المعايير الفكرية والجمالية. وفرض نفسه على العالم المادي بقوة الفكر والخيال، لكنه لم ينشغل به قط.
تقبل كينز دون مناقشة القيمة الرفيعة التي رآها والداه في التفوق الأكاديمي. وفي واقع الأمر، لم يتمرد قط على والديه رغم أن دائرة اهتمامه كانت أكبر. وكان منزل الأسرة، الذي استمر نيفيل وفلورنس كينز في العيش فيه بعد وفاة مينارد، سببا في الاستقرار والاستمرارية في حياته. وارتبط فكره الاجتماعي بظروف أسرته على نحو دقيق. ورأى نفسه عضوا في الطبقة الوسطى «المفكرة». كما رأى أن الهروب من الفقر كان ممكنا دائما في أوروبا، فيما قبل الحرب العالمية الأولى، «لأي رجل له القدرة أو الشخصية التي تتجاوز الحد المتوسط.» ولم يفقد إيمانه قط بواجب النخبة الفاعلة صاحبة التفكير السليم في قيادة الجماهير.
في عام 1897 فاز بمنحة دراسية للالتحاق بكلية إيتون، أعلى الكليات البريطانية. وكان طالبا متميزا على نحو كبير؛ حيث فاز بعدد كبير من الجوائز، كما انتخب عضوا في النادي الاجتماعي الحصري الخاص بالكلية الذي يسمى «بوب»، وكان يؤدي أداء مشرفا في لعبة الحائط التي اشتهرت بها الكلية. وكان الشيء المميز هو النطاق المذهل لاهتماماته وقدراته. كانت الرياضيات مادته المفضلة، لكنه تفوق أيضا في مادتي الأدب الكلاسيكي والتاريخ. وحقق تقدما في دراسته بسرعة البرق. وحظي باحترام الأساتذة والزملاء معا، تماما كما تفوق لاحقا على كل من علماء الاقتصاد ورجال الأعمال. وأدرك كينز منذ سن صغيرة أن الدهاء هو الطريق إلى النجاح في التعامل مع البالغين؛ فقد كان الدهاء بديلا عن الاستسلام أو التمرد؛ فمن خلاله يمكن للإنسان أن يستغل أي موقف لصالحه. كما كان من الملاحظ أن هناك نوعا من عدم الاتساق بين قدراته واهتماماته؛ فقد كان يتحول إلى كينز عالم المنطق، الإحصائي، الإداري، المتغطرس؛ لكنه في الوقت ذاته كان «مينارد»، كما عرفه أصدقاؤه المقربون، الذي يتوق إلى الحب وينجذب إلى الكتاب والفنانين والحالمين، ويغرق في بحر شعر العصور الوسطى أو التأمل العميق. ورأى لاحقا الفائدة العملية لعلم الاقتصاد باعتباره درعا واقيا للحضارة من قوى الجنون والجهل.
صفحه نامشخص
وفي عام 1902، ذهب إلى كلية كينجز كوليدج في كامبريدج في منحة مفتوحة لدراسة الرياضيات والأدب الكلاسيكي. لم يجد قط متعة كبيرة في دراسته للرياضيات - مادته المفضلة - فتخلى عنها بطيب نفس بمجرد حصوله على درجة الشرف الأولى في الرياضيات من جامعة كامبريدج. وقضى معظم الوقت قبل تخرجه في أشياء أخرى؛ مثل دراسة الفلسفة، وكتابة بحث عن عالم المنطق بيتر أبيلارد الذي عاش في العصور الوسطى، وإلقاء الخطب في اتحاد جامعة كامبريدج (الذي ترأسه عام 1905)، ولعب البريدج، وتكوين الصداقات. وفي عام 1906 جاء ثانيا بعد أوتو نيماير في اختبار الخدمة العامة، والتحق بمكتب الهند. وبعد عامين من العمل الرتيب، كان قد حصل معرفة جيدة بالنظام المالي للهند؛ وهو ما أدى لتعيينه عضوا في اللجنة الملكية لشئون المالية والعملة بالهند في عام 1913. لكنه قضى معظم ساعات عمله في كتابة بحثه عن الاحتمالات، الذي منحه في ثاني محاولة درجة الزمالة في كلية كينجز كوليدج عام 1909. وبقيت جامعة كامبريدج بيته الأكاديمي لبقية حياته.
وبينما كان يؤسس بذلك لحياته العملية، حدث تغير في القيم، أدى به إلى تجاوز قيود القيم الفيكتورية المرنة التي تربى وفقها على يد والديه؛ فقد كانت الأخلاق الفيكتورية تدعمها معتقدات دينية آخذة في الانهيار. كان كينز وزملاؤه قبل التخرج ملحدين على نحو واضح؛ لكن بالنسبة لهم - كما هو الحال مع الكثير من المفكرين المنشقين عن الكنيسة - لم يغن تخليهم عن المعتقدات التي رأوها خاطئة عن الحاجة لمعتقدات يرونها صحيحة. فبحثوا في الفلسفة الأخلاقية محاولين إيجاد وسيلة لعيش حياتهم. فوجدوا في الفيلسوف جي إي مور ضالتهم لتبرير خرقهم للقواعد الاجتماعية والجنسية لآبائهم. وكان كتابه «مبادئ الأخلاق» (1903) هو البيان التأسيسي لحقبة الحداثة بالنسبة لجيل كينز، والذي وصفه كينز فيما بعد بأنه «السبيل إلى جنة جديدة على الأرض.»
وقع كينز تحت تأثير مور عندما انتخب - في الفصل الدراسي الثاني قبل تخرجه - عضوا بجماعة «رسل كامبريدج»؛ وهي جماعة فلسفية نقاشية انتقائية وسرية (في ذلك الوقت). وكون من خلال تلك الجماعة عددا من أفضل الصداقات في حياته، وخاصة مع ليتون ستراتشي، وفي نهاية العقد الأول من القرن العشرين أصبح عضوا في مجموعة بلومزبيري، والتي تضم أعضاء جماعة «رسل كامبريدج» وأصدقاءهم وأقاربهم من الرجال والنساء، وتوجد في لندن. كانت تلك المجموعة تضم عددا من شباب الكتاب والفنانين الذين وجدوا في الحياة الأكثر تحررا في منطقة بلومزبيري غير المعروفة الموجودة بلندن مهربا من الأعراف الضيقة الأفق لبيوت آبائهم. ووجد كينز في هذه المجموعة الماكرة من الأصدقاء البارعين - الذين يبدون الإعجاب به تارة ويهاجمونه تارة أخرى - موطنا عاطفيا له قبل زواجه.
أقنع مور أفراد تلك المجموعة بالقيمة السامية للتجارب الجمالية والصداقة الشخصية، ومحا سوداوية الجيل السابق الذي لم يجد سببا وجيها للقيام بواجبه؛ فأعاد إدخال التفاؤل والبهجة إلى النقاشات الأخلاقية، وهو ما فجر نقاشا جديدا للروحانيات على أساس من فلسفة كامبريدج التحليلية. ولم يكن ذلك التحول ممكنا إلا لمن سمحت لهم ظروف الحياة بذلك، وهؤلاء الذين كانت السياسة من أقل اهتماماتهم بحيث تعجز عن تعكير صفو «الحالات الشعورية الجيدة »؛ وهو شيء انطبق بكل تأكيد على كينز قبل عام 1914، لكنه كان تحولا محطما للقيود على نحو كبير.
كتب كينز في عام 1938 عن الأيام التي عاشها قبل الحرب العالمية الأولى: «كانت كبرى غاياتنا في الحياة هي الحب والإبداع والاستمتاع بالتجارب الجمالية والسعي وراء المعرفة. لكن الحب كان في مكانة أعلى بكثير من باقي تلك الغايات.» وكان الحب بالنسبة لكينز وأصدقائه في جماعة «رسل كامبريدج» يعني الحب المثلي، بشكل روحي نوعا ما في البداية. وكان رفيق كينز من عام 1908 حتى عام 1911 الرسام دانكان جرانت، ابن عم ليتون ستراتشي، الذي «اختطفه» كينز من الأخير؛ وهو ما سبب اضطرابا شديدا في المجموعة. واستمر ارتباط كينز العاطفي بالشباب الصغار حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. لكن كينز لم يكن متطرفا في الحب كما كان في الاقتصاد أو السياسة. فلم تمنعه مثليته من إمكانية الوقوع في الحب والدخول في علاقة جنسية سعيدة مع المرأة المناسبة؛ وكان موعد ظهورها في حياته بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.
أما الجمال بالنسبة لكينز وأصدقائه، فكان يعني بالدرجة الأولى الرسم القائم على مذهب ما بعد الانطباعية والباليه الروسي والأساليب الجديدة للفن الزخرفي التي تأثرت بكليهما. فكانت لندن بالنسبة لمن يملكون المال والذوق والخدم المحليين (لم يكن من المكلف استقدام خدم) مكانا مثيرا، وذلك قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى. وكان التمسك الشديد بالتقاليد البريطانية، الذي شكا منه ماثيو أرنولد من قبل، قد بدأ يتوارى أمام محاولات التجديد الفني. ولم تخطر ببال أحد فكرة أن بإمكان بعض الأشخاص الأغبياء في وسط أوروبا أن يهدموا الحضارة بسبب الطموح للقوة والسيطرة والعداوات العرقية؛ فقد كان عالما منفصلا تماما عن الحياة البسيطة للناس الذين رأوا مع ذلك أن التقدم الاقتصادي سيؤدي إلى حياة أفضل لهم.
كان السعي وراء المعرفة بالنسبة لكينز يعني الفلسفة وعلم الاقتصاد، والفلسفة على الأخص. ووجه معظم طاقته الفكرية قبل عام 1914 إلى تحويل بحثه إلى كتاب تحت اسم «بحث في الاحتمال»، الذي لم ينشر حتى عام 1921، وفيه حاول توسيع نطاق المناقشة المنطقية لتغطي الحالات التي كانت نتائجها غير مؤكدة. وكان لهذا العمل تأثير مهم جدا في أفكاره الاقتصادية. ألقى كينز محاضرات في كامبريدج عن النقود. وكان منظرا متعصبا لأفكار مارشال المتعلقة بنظرية كمية النقود، ولم يبذل الكثير من الجهد في توسيع حدود هذا الموضوع، رغم أن كتابه الأول (والوحيد الصادر قبل الحرب العالمية الأولى) المسمى «العملة والمالية في الهند» (1913) كان محاولة واضحة لتطبيق النظرية النقدية القائمة من أجل إصلاح النظام النقدي الهندي. وتميز الكتاب بالمعرفة الخبيرة بالعمل في المؤسسات المالية، وبإجازته لمعيار صرف الذهب، وبدعوته لقيام بنك مركزي هندي. وقد تكشفت هذه التفاصيل لكينز من خلال عمله عضوا في اللجنة الملكية لشئون المالية والعملة بالهند في العام نفسه.
لكن كينز كان مهتما كذلك بمشكلة المعرفة في علم الاقتصاد، ودخل في عام 1911 في جدال حاد مع كارل بيرسون حول تأثير شرب الوالدين للكحوليات على حياة أولادهم. ورفض كينز استخدام بيرسون للمنهج الاستقرائي لإثبات الحقائق الاجتماعية. وعكس ذلك تشككه الأعم في فائدة الاستدلال الإحصائي، إلى جانب رفضه للنظرية الإحصائية أو التكرارية للاحتمال. فعلم الاقتصاد لا يمكن أن يكون علما محكما؛ لأن عدد المتغيرات كبير جدا، ولا ضامن لاستقرار المتغيرات عبر الزمن. وكما قال كينز لاحقا: من الأفضل أن تكون قريبا من الصواب عن أن تكون مخطئا على نحو جازم.
كان كينز في الحادية والثلاثين من عمره حين اندلعت الحرب العالمية الأولى. وغيرت الحرب أسلوب حياته وحياته المهنية وطموحاته، لكنها لم تغير قيمه الأساسية التي كان يؤمن بها. وبعد أن لعب دورا مهما في تجنب انهيار معيار الذهب في أزمة البنوك في أغسطس عام 1914، عمل بوزارة الخزانة في يناير 1915، وبقي هناك إلى أن استقال في يونيو 1919. في يناير 1917 أصبح رئيسا لإدارة جديدة مختصة بتعاملات بريطانيا المالية الخارجية. وخلال تلك الفترة ساعد في بناء نظام لمشتريات الحلفاء في الأسواق الخارجية، والتي كانت بريطانيا تمول جزءا كبيرا منها. وأثبت كينز في الحقيقة أنه مسئول خزانة كفء؛ حيث تكيف بسرعة مع نظام العمل في المؤسسات الحكومية البريطانية، وطبق أكثر من مرة بفاعلية المبادئ الأساسية على المواقف الخاصة، وكانت لديه قدرة رائعة على إعداد مذكرات قصيرة وواضحة بسرعة البرق، وهي ملكة لا تقدر بمال عند الوزراء المنهكين. كما أشبعت الحكومة جزءا من رغباته التي طمحت إلى السيطرة على العالم المادي. استمتع كينز بعمله وسعد بصحبة العظماء وذوي النفوذ التي أتاحها له عمله في وزارة الخزانة كموظف كبير، وعبقري، ووسيم، وعزب، وماهر في لعبة البريدج، ويثير قوله الكثير من القيل والقال.
لكن تلك الصورة التي كشف عنها السير روي هارود في سيرته لكينز لم تكن إلا قناعا أخفى وراءه كينز صراعا داخليا عميقا؛ فقد صدم كينز ورفاقه باندلاع الحرب التي قضت على آمالهم في بناء «حضارة جديدة». ومع تطور الحرب ضعف إيمانهم بتلك الفكرة شيئا فشيئا. لعب كينز الدور المطلوب منه في الحرب؛ ما جعله عرضة للانتقاد المتزايد من أعضاء مجموعة بلومزبيري وأصدقائه من دعاة السلام، وزاد من شعوره بتأنيب الضمير. لكنه برر موقفه بأشكال مختلفة. فبداية من صيف عام 1915 حتى يناير عام 1916، قدم لريجنالد ماكينا، وزير الخزانة، مذكرات رصينة عن العواقب الاقتصادية للتجنيد الإجباري. وكانت فكرته التي عرضها في تلك المذكرات هي أن بريطانيا عليها أن تركز على تقديم الدعم المالي لحلفائها من خلال زيادة الإيرادات بالعملات الأجنبية، بدلا من تبديد الرجال والذخيرة على الجبهة الغربية. كانت تلك الفكرة منطقية مبنية على مبدأ تقسيم العمل، لكن من ورائها كانت هناك كراهية متنامية للحرب ورغبة في إبعاد نارها عن أصدقائه. كما أكسبته تلك الفكرة عداوة لويد جورج الذي آمن بفكرة «الضربة القاضية»، والتي ترى بضرورة تقديم ضربة موجعة للأعداء للتخلص منهم نهائيا.
صفحه نامشخص
وعندما فرض التجنيد الإجباري في يناير 1916، أراد كينز من ماكينا ورانسيمان وغيرهما من قادة الليبرالية الأسكويثية أن يستقيلوا من الحكومة، واقترح انضمامه وإياهم للمعارضة. وحينما بقوا في مناصبهم، بقي في منصبه هو الآخر، لكن بعد أن قدم طلبا بإعفائه من الخدمة العسكرية بوصفه رافضا لها، وهي خطوة رمزية بما أنه كان معفى بالفعل بسبب عمله في وزارة الخزانة. وفي الأشهر الستة التالية، استغل منصبه الرسمي ليساعد دانكان جرانت وغيره في الحصول على الإعفاء من الخدمة العسكرية؛ إذ كان يشهد - كما قال - «على إخلاص أصدقائه واستقامتهم وصدقهم.» لم يكن كينز ورفقاؤه من دعاة السلام بالمعنى المعروف، لكنهم كانوا ليبراليين يؤمنون بأن الدولة ليس لها الحق في إجبار الناس على القتال. كما أنهم آمنوا بأن هذه الحرب لم تستحق خوضها، وبأنه يجب بذل كل ما يمكن لإيقافها من خلال تسوية سلمية. وفي ديسمبر عام 1916، أصبح لويد جورج رئيسا للوزراء في ظل أزمة مالية هددت بحرمان بريطانيا من وسائل تمويل مشترياتها العسكرية من الولايات المتحدة. وكتب كينز لدانكان جرانت في 14 يناير 1917 يقول: «اللعنة عليه (قاصدا لويد جورج) ... إنني أصلي من أجل أن تحدث أزمة مالية طاحنة، ومع ذلك أكافح في سبيل منعها؛ لذا فإن كل ما أفعله يتنافى مع كل ما أشعر به.»
كان من بين عوامل زيادة كراهية كينز للحرب أنها كانت تجعل بريطانيا تعتمد على الولايات المتحدة. ومع استنفاد موارد بريطانيا كان عليها أن تقترض من الولايات المتحدة لتساعد حلفاءها، وخاصة روسيا. وفي 24 أكتوبر عام 1916، وفوق الأحرف الأولى من اسم ريجنالد ماكينا وزير الخزانة، كتبت كلمات - صاغها كينز بكل تأكيد - جاء فيها: «إذا استمرت الأمور على منوالها الحالي ... فسيصبح رئيس الجمهورية الأمريكية في وضع ... يسمح له بإملاء شروطه علينا.» تلك الكلمات سجلت لحظة انتقال الهيمنة المالية عبر المحيط الأطلنطي. وتكرر الموقف ذاته لاحقا في الحرب العالمية الثانية. وزاد إدراك كينز أفول نجم بريطانيا (وأوروبا) في مقابل بزوغ نجم الولايات المتحدة من إلحاحه في المطالبة بالتفاوض من أجل السلام، وشكل هذا جزءا كبيرا من تفكيره فيما بعد الحرب.
في سبتمبر 1917 ذهب كينز إلى واشنطن ليشارك للمرة الأولى في مفاوضات القروض، ولم تعجبه تلك التجربة. وكتب إلى دانكان جرانت يقول: «إن الشيء الوحيد الودود والأصيل حقا في الولايات المتحدة هو الزنوج الرائعون.» ولم يعجب الأمريكيون بكينز كذلك؛ حيث خلف «انطباعا سيئا عنه هناك بسبب وقاحته»، حسبما قال باسيل بلاكيت، وهو أحد ممثلي وزارة الخزانة بالسفارة البريطانية. وكان ذلك بداية علاقة مضطربة استمرت حتى وفاة كينز.
وبنهاية عام 1917، اقتنع كينز، كما قال لوالدته، بأن استمرار الحرب معناه «انتهاء النظام الاجتماعي الذي طالما عرفناه ... إن ما يرعبني هو فكرة «الفقر العام». ففي خلال عام من الآن سنكون قد خسرنا ما نستحوذ عليه في العالم الجديد، وسيرهن هذا البلد للولايات المتحدة.» تلخص هذه الكلمات المزاج الذي ساد كتابه «الآثار الاقتصادية للسلام»، الذي نشر في ديسمبر من عام 1919، وهو رثاء لعصر ولى، كما أن فيه هجوما عنيفا على معاهدة فرساي. وفي غضون ذلك، كانت روسيا قد استسلمت للثورة البلشفية، واندلعت الثورات في ألمانيا والمجر، وساد التضخم، وعانت معظم دول أوروبا من الجوع. ومع ذلك، كان ما يشغل بال صانعي السلام هو «الحدود والسيادة». وحاول كينز، بوصفه أحد كبار ممثلي وزارة الخزانة البريطانية في مؤتمر باريس للسلام، أن يقنع لويد جورج بالموافقة على الحصول على مبلغ معقول كتعويضات من ألمانيا. وعندما فشل في ذلك استقال في 7 يونيو 1919، وألف كتابه عن السلام في صيف عام 1919 في تشارلستون بساسيكس حيث تعيش فانيسا بيل ودانكان جرانت.
استنكر كتابه حمق صناع السلام الذين حاولوا أن ينتزعوا من ألمانيا تعويضا لا يمكنها دفعه. وتنبأ كينز بأن محاولات إجبار ألمانيا على دفع التعويضات سيدمر الآليات الاقتصادية التي اعتمد عليها رخاء أوروبا القارية قبل الحرب. كما توقع أن تشن ألمانيا حربا انتقامية. وضم الكتاب صورا مميزة لكبار صناع السلام، من أمثال جورج كليمنصو ووودرو ويلسون، إلا أن كينز استثنى صورة لويد جورج بناء على نصيحة أسكويث.
كانت اقتراحات كينز الرئيسية هي شطب كل الديون فيما بين دول الحلفاء، وتقليل التزامات ألمانيا الخاصة بالتعويضات إلى مبلغ سنوي معقول يمكن دفعه لفرنسا وبلجيكا، ومساعدة ألمانيا لتعود رائدة الاقتصاد في أوروبا القارية، وأن يعاد بناء روسيا «من خلال المؤسسات والمشروعات الألمانية.» وكان الهدف من شطب الديون فيما بين دول الحلفاء بعد الحرب هو التحرر من التمويل الأمريكي لأوروبا؛ فقد أيد كينز القروض الأمريكية لاستعادة الصناعة الأوروبية لسابق عهدها ، ولدفع تكاليف واردات الغذاء الأساسية، والعمل على استقرار أسعار العملات. لكنه عارض بشدة اقتراض الأوروبيين من الولايات المتحدة لخدمة أعباء الدين الثقيلة.
أصبح كتاب كينز أحد الكتب الأكثر بيعا على مستوى العالم، وكان له تأثير عميق في فكر ما بعد الحرب، كما جعل كينز مشهورا في جميع أنحاء العالم. وسيكون تسطيحا للأمور أن نعتبر الكتاب هو ما «خلق» مناخ التهدئة تجاه ألمانيا؛ فقد كان النفور من دعاية الحرب قد بدأ فعلا. ولم يفعل الكتاب سوى أنه حول الانتباه من سياسات القوى العظمى إلى أسباب الرخاء الاقتصادي. وضع كينز الاقتصاد في الصورة بالنسبة لعامة الجماهير المطلعة، وبقي الاقتصاد في الصورة منذ ذلك الحين. كما بدأت فكرة الحاجة لإدارة الرأسمالية في الترسخ في الأذهان. فلم يخرج كينز من الحرب اشتراكيا ولا بلشفيا. وأخذ يقول إن الاشتراكية وجدت لظروف لاحقة؛ أي بعد حل المشكلة الاقتصادية، وفي ذلك صلة غريبة بالماركسية الكلاسيكية. وظل كينز ليبراليا إلى أن مات. وكانت المهمة التي أخذها على عاتقه هي إعادة بناء النظام الاجتماعي الرأسمالي على أساس من الإدارة الفنية المحسنة.
تسببت الحرب كذلك في إعادة ترتيب حياة كينز الشخصية؛ حيث تخلصت من صبغتها الجامعية التي استمرت حتى عام 1914. وأصبح كينز الآن رجلا عظيما له وزنه في مسائل التمويل الدولي، وتسبب كتاباته اضطراب العملات، ويسعى إلى مشورته رجال المال والسياسة والمسئولون في جميع الدول. عاد كينز إلى كامبريدج في أكتوبر 1919، لكن كامبريدج لم تعد مركز حياته كما كانت؛ فقد أصبح يقيم فيها وقت الدراسة فقط، وحتى مع ذلك اقتصرت الإقامة على نهايات الأسبوع المطولة (عادة من مساء الخميس حتى صباح الثلاثاء)؛ حيث يجمع فيها كل تكليفاته التدريسية القليلة ولجانه الجامعية وحياة اجتماعية تمحورت حول عائلته التي تعيش في بيته القديم وبعض الأصدقاء المقربين من بين زملائه الأصغر سنا. وفي الفترة بين الحربين أصبح كينز أمين صندوق ناجحا على نحو مذهل في كلية كينجز كوليدج؛ حيث زاد رأسمال صندوق الكلية من 30 ألف جنيه استرليني عام 1920 إلى أكثر من 300 ألف جنيه بحلول عام 1945.
كان سكن كينز في لندن في 46 ميدان جوردون، الذي يعتبر «النصب التاريخي» لمجموعة بلومزبيري. وكان يقضي هناك منتصف الأسبوع في وقت الدراسة والجزء الأول من كل عطلة. وازدحمت حياته في لندن بأنشطة أكثر. ففي بعض الأوقات شغل كينز مناصب في مجالس إدارة ما لا يقل عن خمس شركات استثمار وتأمين، كان أكبرها الشركة الوطنية للتأمين التعاوني على الحياة؛ حيث كان رئيسا لمجلس إدارتها بين عامي 1921 و1937. وفي عامي 1923 و1931، كان أكبر مساهم ورئيس مجلس الإدارة في جريدة «نيشان آند أثينيوم» الأسبوعية؛ حيث عمل عن قرب مع محررها هوبرت هيندرسون. كما كان يحرر دورية «إيكونوميك جورنال» (1911-1937) من لندن أيضا. فكانت لندن مهمة لكينز بوصفها منطلق نفوذه؛ إذ كان على اتصال مباشر مع رئيس الوزراء والوزراء في معظم سنوات الفترة فيما بين الحربين. وفي عشرينيات القرن العشرين انطبعت أفكاره المطورة عن السياسات الاقتصادية على الفكر الرسمي من خلال الاجتماعات الشهرية لنادي الثلاثاء، وهو ناد لتناول الطعام للمصرفيين وموظفي الخزانة والاقتصاديين والصحفيين الاقتصاديين، أنشأه سمسار الأوراق المالية أوزوالد فولك عام 1917، وفي الثلاثينيات سعى كينز للتأثير في السياسة من خلال عضويته في المجلس الاستشاري الاقتصادي التابع لرئيس الوزراء.
في عشرينيات القرن العشرين كان أوزوالد فولك شريك كينز الأول في استثماراته. وبدأ كلاهما المضاربة على العملات بمجرد انتهاء الحرب، واستمرت مضاربتهما في السلع. وبالرغم من تعرض كينز لثلاث أزمات كبيرة - في عام 1920، وفي عامي 1928 و1929، وفي عامي 1937 و1938 - فقد تمكن من زيادة قيمة صافي أصوله من 16315 جنيها استرلينيا في عام 1919 إلى 411238 جنيها استرلينيا - وهو ما يساوي 10 ملايين جنيه استرليني اليوم - قبل وفاته. وخلال سنوات ما بين الحربين، تغيرت فلسفته الاستثمارية من المضاربة على العملات والسلع إلى الاستثمار في أسهم الشركات الممتازة مع تغير نظريته الاقتصادية. وكان فشل نظريته الاستثمارية التي تقوم على فكرة «دورة الائتمان» في إدرار أرباح عليه سببا في تحوله إلى نظرية «الغرائز الحيوانية» في السلوك الاستثماري في كتابه «النظرية العامة»، وإلى فلسفة استثمارية شخصية تقوم على فكرة «الإخلاص». (فمن أجل التغلب على تقلبات الاستثمار ، طالب كينز باعتبار العلاقة بين المستثمر وأسهمه مثل العلاقة بين الزوج وزوجته.) وكانت الصحافة كذلك مصدرا كبيرا لكسب الأموال، وخاصة في أوائل العشرينيات. وربح من ثلاث ضربات استثمارية موفقة بين عامي 1921 و1922، بجانب مكاسبه من الصحافة، ما يعادل 100 ألف جنيه استرليني في يومنا هذا. ومكنه نجاحه في جمع الأموال من تمويل أنشطته كمحب لجمع الصور والكتب النادرة، مسترجعا فكرته المثالية في شبابه عن الحياة الطيبة.
صفحه نامشخص
كانت أكبر علامة على إعادة تنظيم حياته هي زواجه؛ فقد قابل راقصة الباليه ليديا لوبوكوفا في أكتوبر عام 1918 عندما عادت عروض دياجاليف للباليه إلى لندن، وبدأ في التودد إليها في نهاية عام 1921، عندما رقصت في رائعة تشايكوفسكي «الجمال النائم»، التي قدمها دياجاليف ولم تنجح تجاريا على مسرح ألهامبرا. كانت ليديا - بضآلة جسمها وتألقها، وأنفها الأقنى، ورأسها الذي ذكر فيرجينيا وولف ببيضة طائر الزقزاق - فنانة متميزة بذاتها، تتمتع بحس فكاهي خليع، وعبقرية في صياغة الأفكار باللغة الإنجليزية (فقد تحدثت ذات مرة عن «تحريض المسيح للماء كي تتحول إلى نبيذ في قرية قانا»)، وبديهة قوية واثقة تعبر عنها بشكل مباشر. افتتن كينز بها، وتزوجا في 4 أغسطس 1925. ولم يكن من الممكن إلا لامرأة أجنبية آتية من خارج البيئة الاجتماعية لكينز أن تأسر قلب رجل اتجهت عواطفه أساسا للرجال من أبناء جنسه. ورغم تحذيرات ومخاوف مجموعة بلومزبيري، أثبتت ليديا أنها زوجة مثالية له؛ فقد أدخلت على حياته الاستقرار العاطفي الذي كان ينقصه لسنوات عديدة، وهو ما وفر الخلفية الضرورية لاستمرار جهده الفكري. وفي عام 1925 استأجر مزرعة تيلتون، وهي مزرعة في شرق ساسيكس بالقرب من تشارلستون. وكان يقضي فيها مع ليديا عطلاتهما، وكان الأصدقاء والأقارب يأتون إليهما، وفي مبنى رطب بعض الشيء ملحق بالمنزل الرئيسي كتب كينز الجزء الأكبر من عمليه النظريين الكبيرين «بحث في النقود» و«النظرية العامة».
كان كينز مشغولا طوال الوقت. ففي سنوات ما بين الحربين تشتت جهده على أنشطة متنوعة في اتجاهات مختلفة. وعرفه معاصروه بأنه رجل يحمل دائما حقيبة مليئة بالأوراق ، يهرول من مكان لمكان ومن اجتماع لآخر. وكانت تلك الأنشطة المتنوعة هي ما أثرت فكره، وهيأته للكتابة وصرفته عنها في نفس الوقت. وكان فشله في كتابة عمل نظري كبير حتى عام 1930 - حينما شارف على عامه الخمسين - هو الثمن الذي دفعه. لكن ربما كان ذلك من الأفضل لشخص مثله في عشرينيات القرن العشرين أن يبقى مرنا فكريا، ولا يلتزم على نحو كبير بنظرية اقتصادية معينة؛ فقد كانت النظريات الاقتصادية في حالة سيولة. وتطلب الأمر تعرض النظام الرأسمالي لصدمات ما بين الحربين؛ لكي تتبلور المآخذ على التصورات القديمة عن السلوك الاقتصادي. كما أسفر تنامي شهرة كينز وانشغاله بالشئون العامة عن ضيق دائرة صداقاته ونوعياتها. وفيما سوى زواجه تضاءلت مساحة «اللحظات الشخصية». وكان ل «جودة الأداء» الأولوية على «جودة الحياة الشخصية». لكنه لم يتخل قط عن مثل شبابه؛ فرغم أنه كان منشغلا دائما، فقد أعطت السرعة والكفاءة، اللتان كان يؤدي بهما عمله، إيحاء بتميزه بالهدوء وعدم العجلة.
كان الدافع وراء جهود كينز النظرية والعملية في الفترة بين الحربين هو خوفه من المستقبل. وتوارت أفكار الحرية الاقتصادية والجنسية فيما قبل الحرب - التي ساعد على ظهورها التطلع إلى التطور «التلقائي» - أمام الإحساس بهشاشة الحضارة الرأسمالية. وتعزز ذلك الإحساس من خلال الكوارث التي وقعت فيما بين الحربين، خاصة فترة الكساد الكبير في عامي 1929 و1933 ونجاح هتلر في ألمانيا. وحل محل الإيمان باستقرار نظام السوق ومرونته اعتبار حقبة «الحرية الاقتصادية» في القرن التاسع عشر أنها حقبة استثنائية في التاريخ الاقتصادي اعتمدت على ظروف خاصة لم تعد قائمة، وأنه رغم التقدم التقني فإن الإنسانية كانت تعيش في خطر الانتكاس من حالة الرخاء والتحضر التي وصلت إليها في العصر الفيكتوري. ومن طرق تفسير هواجس كينز هذه أنها رد فعل متأخر للخوف الذي ساد القرن التاسع عشر من الحياة دون الرب. وفي عام 1925 - بعد زيارته للاتحاد السوفييتي - كتب كينز أن «الرأسمالية الحديثة ملحدة تماما ... وعلى مثل هذا النظام ألا يكون ناجحا وحسب، بل ناجحا جدا كي يصمد.» وكانت هذه هي الخلفية الروحية والنفسية للفكر الكينزي.
وفي السنوات اللاحقة للحرب ركز كينز على شيئين: الفوضى المالية الدولية التي خلفتها الحرب وزادها إبرام معاهدة فرساي للسلام سوءا، وانهيار عوامل التوازن التجاري بين أوروبا والعالم الجديد. وفي ضوء معدلات الإنتاج القائمة، كان على الأوروبيين أن يقبلوا بمستوى معيشة أدنى مما كان قبل الحرب؛ إذ إن صادرات المنتجات الصناعية لم تعد تسمح إلا باستيراد كميات أقل من المواد الغذائية والمواد الخام من الخارج من ذي قبل. ويمكن تتبع هذه المخاوف في إسهامات كينز في ملاحق إعادة البناء بجريدة «مانشستر جارديان كوميرشال»، التي حرر كينز أعدادها الاثني عشر في 1922 و1923. ولم تحظ صبغة «المالتوسية الجديدة» في فكر كينز بالانتباه الكافي؛ فقد كانت في قلب حجته الخاصة بانخفاض قيمة العملات الأوروبية الرئيسية أمام الدولار.
ورغم استقالته من وزارة الخزانة، والاستنكار الذي أثاره كتابه «الآثار الاقتصادية للسلام» في بعض «الأوساط الرسمية»؛ لعب كينز دورا لا يمكن تجاهله أبدا في إصلاح ما أفسده صناع السلام؛ فقد شارك بشكل مباشر في خطة الخزانة البريطانية لحل مشكلة التعويضات الألمانية في نهاية عام 1922، ومن خلال صداقته مع المصرفي الألماني المولود في هامبورج، كارل ملكيور، عمل كمستشار غير رسمي للحكومة الألمانية في عامي 1922 و1923، وهو دور مثير للجدل ما زال محل بحث.
لم يكن كينز قبل عام 1923 مهتما بوجه خاص بمشكلات بريطانيا، التي بدت له تافهة مقارنة بمشكلات دول أوروبا القارية. لكن ظهور مشكلة انتشار البطالة واستمرارها لفترة طويلة جذب انتباهه لهذه السمة المميزة للوضع البريطاني. وأرجع كينز جل مشكلة البطالة غير الطبيعية في بريطانيا خلال العقد الثاني من القرن العشرين إلى سوء الإدارة النقدية؛ فقد أدى عدم الرفع السريع لسعر الفائدة البنكية أو عدم رفعه بالقدر الكافي إلى خروج مشكلة الازدهار التضخمي في عامي 1919 و1920 عن السيطرة، وأدى أيضا خلال الفترة اللاحقة التي انخفضت فيها الأسعار والناتج ومعدلات الإنتاج ونسبة التوظيف إلى تعميق مشكلة الكساد بشدة عن ذي قبل. ذكر كينز أن الهدف من المرحلة الثانية من السياسة الاقتصادية ليس فقط هو الرغبة في تقليل التضخم فيما بعد الحرب (وهو الأمر الذي كان يريده أيضا)، وإنما أيضا في خفض مستويات الأسعار بشكل كاف؛ ليعود الجنيه الاسترليني على معيار الذهب إلى سعر صرفه أمام الدولار قبل الحرب، عندما كان الجنيه الاسترليني يساوي 4,86 دولارات. وتوقع كينز، مثل كل الاقتصاديين، أن تستعيد نسب التوظيف البريطانية معدلاتها «الطبيعية» (طبقا لمقاييس ما قبل الحرب) عندما «استقرت» الأسعار في عام 1922. لكن نسبة البطالة لم تقل، وظلت أعلى من 10٪. وكان عدم القدرة على خفض البطالة عن تلك النسبة حتى نهاية عشرينيات القرن العشرين، هو ما نبه كينز لاحتمال أن تصبح تبعات حالة الانكماش القاسية فيما يتعلق بالتوظيف أكبر من أن تكون «مؤقتة» في ظل سقوط الاقتصاد في فخ انخفاض نسبة التوظيف. وأصبح تفسير كيفية إحداث «التوازن في حالة نقص التوظيف» هذا هو الهدف الأساسي من كتاباته النظرية.
كان كتاب كينز «بحث في الإصلاح النقدي» (1923) محاولة من كينز لوضع ما يسمى الآن «نظاما» نقديا من شأنه أن يتيح ثباتا معقولا في النشاط الاقتصادي. رفض كينز معيار الذهب ولم يعتبره النظام النقدي المناسب. فلم يضمن شرط قابلية استبدال العملة المحلية بالذهب بسعر ثابت رسمي ثبات مستويات الأسعار المحلية، وهو ما اعتبره كينز ضروريا لاستقرار التوقعات الاقتصادية؛ لأن قيمة الذهب ذاتها كانت عرضة للتذبذب بوصفه سلعة عرضة لأن تكون نادرة أو متوفرة. كذلك فإنه مع وضع التوزيع الفعلي والمحتمل لاحتياطيات الذهب العالمية في الاعتبار، فإن العودة إلى معيار الذهب سيعني تسليم سيطرة بريطانيا على مستويات الأسعار لديها لمجلس الاحتياطي الفيدرالي في واشنطن. ويجب أن تظل لدى بريطانيا حرية التصرف في تحديد سعر الصرف حسب احتياجات اقتصادها المحلي. وقال كينز إن نظام السيطرة النقدية المحلية هذا سيتماشى مع استقرار سعر الصرف على المدى القصير. لكن استقرار سعر الصرف هو نتيجة استقرار الأسعار المحلية، وليس هدفا مستقلا للسياسة الاقتصادية.
وضع كتاب «بحث في الإصلاح النقدي» كينز في موقع الخصم الفكري الأول للسياسة «الرسمية»، التي تتضمن إعادة الجنيه الاسترليني لمعيار الذهب عند سعر صرفه أمام الدولار قبل الحرب. لكن مطالبته بوجود «إدارة» نقدية لم تلق ترحيبا كبيرا. وأعاد ونستون تشرشل، وزير الخزانة، الجنيه الاسترليني إلى معيار الذهب عند سعر 4,86 دولارات في 20 أبريل 1925. فهاجم كينز القرار فورا في كتيب مهم سماه «الآثار الاقتصادية لقرار السيد تشرشل». وقال فيه إن إعادة تقييم الجنيه الاسترليني تتطلب تقليص تكاليف الأجور في بريطانيا بنسبة 10٪، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا من خلال «زيادة نسبة البطالة دون حدود». وكانت الفكرة الضمنية لما قاله هي أن تكلفة التوظيف هي المؤثر الرئيسي في مستوى الأسعار، وفي ظل مفاوضات الأجور التي تقودها الاتحادات العمالية في العصر الحديث، فإن تقليل كمية النقود أدى بشكل مباشر إلى تقليل نسبة التوظيف. وتوقع كينز أن تنكمش السياسة النقدية الفعلية بسبب محاولة استعادة التوازن بهذه الطريقة. فأسعار الفائدة ستظل مرتفعة على نحو كاف لجذب رءوس الأموال الأجنبية للندن، لكنها لن ترفع أكثر للتغلب على معارضة الاتحادات العمالية لتقليل الأجور النقدية للعمال. وستكون النتيجة اقتصادا منخفض نسبة التوظيف. وهو ما حدث بالفعل. وعلى الرغم من إنهاء الإضراب العام عام 1926، فلم يسع أصحاب الأعمال لتقليل الأجور النقدية التي ظلت ثابتة حتى نهاية العشرينيات، مع أن مستويات الأسعار انخفضت. كان كينز أول من أدرك وأعلن بوضوح بأن العملة المبالغ في سعر صرفها هي عملة ضعيفة وليست قوية.
أسفرت الأحداث المحيطة بالإضراب العام عن تحول ولاء كينز السياسي من أسكويث إلى لويد جورج، كما زاد تعاطفه مع حزب العمال. وفيما بين عامي 1926 و1929، لعب كينز دورا ملحوظا في صياغة سياسة حزب لويد جورج الليبرالي؛ فقد استعان لويد بكينز لإعداد برنامج اقتصادي يؤمن لليبراليين على الأقل حصة في السلطة، ورأى كينز في لويد جورج وسيلة واعدة ل «محاربة البطالة». ومثل اشتراك كينز في الاستقصاء الصناعي للحزب الليبرالي في عامي 1927 و1928 ذروة اشتغاله بالسياسة. وكانت كذلك مرحلة من حياته تأمل فيها بعمق المشكلات الهيكلية للصناعة البريطانية. ونتيجة لتلك المرحلة تبلورت فلسفته السياسية التي تعتمد على فكرة الطريق الوسط، وظهرت لأول مرة في عمله «نهاية مبدأ الحرية الاقتصادية» (1926).
قضى كينز المدة فيما بين عامي 1925 و1928 بشكل جزئي في تأليف كتابه «بحث في النقود»، الذي بدأ في صورة تطوير لأفكاره في كتاب «بحث في الإصلاح النقدي». وكان رفيقه الفكري الأساسي في ذلك الوقت هو دينيس روبرتسون، زميله في كلية ترينيتي، وهو رجل متقاعد لكنه مجادل عنيد. لم يكن لكينز أي تلامذة في منتصف عشرينيات القرن العشرين، وذكر كيرت سينجر أن كينز كان «شخصية وحيدة متمردة مثيرة للشفقة ومولعة بالسيطرة، لكنه لم يمتلك بعد ما يمكنه من قيادة الآخرين.» لكن كان هناك جيل أصغر من الذين شاركوا في صناعة الثورة الكينزية يمد جذوره في جامعة كامبريدج، مثل المهاجر الإيطالي بيرو سرافا، وجون، وأوستن روبنسون، وقبلهم جميعا ريتشارد كان، الذي وصفه كينز بأنه «تلميذه المفضل». وكان أحد تلاميذ كينز - إتش إم روبرتسون - يرى أنه «أشبه بسمسار أوراق مالية أكثر منه أستاذا جامعيا»، ببذلاته ونميمته اللندنية.
صفحه نامشخص
كان كتاب «بحث في النقود» - الذي نشر عام 1930 - خير مثال على شغف كينز بالتعميم؛ فقد بنى كينز بالأساس منظومة مفاهيم معقدة جدا؛ ليبين كيف يمكن لاقتصاد قائم على معيار الذهب - تحت ظروف معينة - أن يسقط في فخ انخفاض نسبة التوظيف. فإذا منعت المؤسسة النقدية من خفض سعر الفائدة الطويل الأجل لمستوى يتماشى مع توقعات المستثمرين، وإذا منعت تكاليف الإنتاج المحلية تحقيق فائض تصديري يساوي ما يرغب الناس في إقراضه بالخارج، فستكون النتيجة هي الإفراط في الادخار على حساب الاستثمار، وانخفاض سعر صرف العملة، وجمود الاقتصاد. وكان هذا مصير بريطانيا في عشرينيات القرن العشرين. ونادى الفكر الثوري - الذي ظهر بوضوح أكثر في كتاب كينز «النظرية العامة» - بأنه ليس هناك آلية تلقائية في أي نظام اقتصادي حديث للموازنة بين معدلي الادخار والاستثمار المستهدفين. وكما لاحظ «هايك» وحده، كان معنى هذا أنه لا توجد آلية تلقائية في النظام الاقتصادي لضبط إجمالي الطلب مع إجمالي العرض. وكانت فكرة عدم التناسب بين المدخرات المحلية والاستثمارات المحلية أو الأجنبية هي ما وفر لكينز أساس برنامج لتمويل المشروعات العامة بالقروض لزيادة نسب التوظيف في ظل قيود نظام معيار الذهب.
وكان أهم ما ميز إقرار كينز في أبريل عام 1929 بسياسة لويد جورج لتمويل المشروعات العامة بالقروض في عمله «هل يمكن للويد جورج أن ينجح؟» - الذي كتبه بالاشتراك مع هوبرت هيندرسون - هو زعمه أن الإنفاق على المشروعات العامة سيسفر عن موجة رخاء «تراكمية». وسنحت له فرصة التأثير في سياسة حكومة رامزي ماكدونالد العمالية الثانية، لما عين في لجنة ماكميلان التي تشكلت في نوفمبر 1929، وكذلك في المجلس الاستشاري الاقتصادي للحكومة الذي أنشئ في يناير 1930. وكان عرضه الذي استغرق تسعة أيام لنظرية عمله «بحث في النقود» وللحلول المقترحة لمشكلة البطالة أمام لجنة ماكميلان في مارس 1930؛ بمنزلة البداية الحقيقية للثورة الكينزية في السياسة الاقتصادية. لكن اقتراحاته بخصوص المشروعات العامة والحماية لم تلق قبولا في ذلك الوقت؛ فقد أدى انهيار الاقتصاد العالمي وفقدان الثقة في مجال الأعمال إلى دعم الفكر المحافظ. وأدت الضغوط في سبيل خفض النفقات في مجال التمويل العام إلى استبدال حكومة ائتلافية بالحكومة العمالية في 25 أغسطس 1931. وفي 21 سبتمبر أدى الانهيار المالي في دول وسط أوروبا مع تفاقم عجز الحساب الجاري في بريطانيا إلى إنهاء الارتباط بين الجنيه الاسترليني ومعيار الذهب. وفي ذلك الخريف بدأ كينز تأليف كتاب نظري جديد للتأكيد على دور التغيرات في الناتج في التكيف مع وضع توازن جديد.
ورغم أن كينز لم يكتب إلا كتيبا واحدا عن السياسة الاقتصادية، وهو «الطريق إلى الرخاء» في عام 1933، فإنه لم يقض معظم «وقت فراغه» فيما بين عامي 1931 و1935 في تقديم المشورة للحكومات، بل في تأليف كتابه «النظرية العامة» الذي نشر في فبراير 1936. كما نشر له كتابان عبارة عن مقالات مجمعة؛ وهما: «مقالات في الإقناع» (1931)، و«مقالات في السيرة الذاتية» (1933). وضم الأول ما أطلق عليه كينز في مقدمته «نبوءات اثني عشر عاما؛ نبوءات العرافة كاساندرا التي لا يصدقها أحد ولا يمكنها أبدا أن تؤثر على مسار الأحداث الجارية». وكان من أهم خصائص الكتاب الثاني هو استغلال كينز لحياة العلماء القصيرة ليتأمل ويرسم صورة للعبقرية العلمية.
وفي المدة ما بين عامي 1931 و1932، اشتغل كينز بكتابة مراسلات متقطعة لكنها قوية عن بعض النقاط في نظريات هوتري وروبرتسون وهايك. كما ساعده أيضا مجموعة من الاقتصاديين الشباب الذين سموا أنفسهم «سيرك كامبريدج» الذي قدم أبرزهم له، وهو ريتشارد كان، نظرية «المضاعف». ولم يكن عمله «الطريق إلى الرخاء» هو العلامة الوحيدة على تقدمه في كتابة عمله الأساسي، بل كانت هناك أيضا مسودات لفصول الكتاب وأجزاء من محاضرات ومجموعة كاملة من الملاحظات التي دونها تلاميذ كينز في محاضراته من عام 1932 حتى عام 1935. وتحدث أحد تلامذته هؤلاء - وهو إيه سي جيلبين - عن الجو العام في جامعة كامبريدج عام 1933 في خطاب إلى والديه قائلا:
يبدو أن محاضرات علم الاقتصاد هذا العام بشكل أساسي عبارة عن توضيحات أو تفنيدات للنظريات التي درسناها العام الماضي؛ فمارشال يهاجمه شوف، وبيجو يهاجمه كينز، وروبرتسون يختلف مع كينز ويترك للحضور أن يقرروا من على صواب، وتحاول السيدة جون روبنسون - وهي سيدة حادة - أن تشرح لنا سبب اختلافهم. الأمر شائق لكنه مربك.
وفي المرحلة الأخيرة الخاصة بالبراهين في صيف عام 1935 قدم روي هارود لكينز بعض الاقتراحات الهامة.
لم يكن كينز يقضي وقته في عمل شيء واحد. فبالإضافة إلى انشغاله بتأليف كتابه الأساسي، فقد قضى معظم وقته في عامي 1934 و1935 في التخطيط والإشراف على بناء مسرح كامبريدج للفنون؛ تحقيقا لحلمه فيما قبل الحرب بإثراء كامبريدج بمركز دائم للفنون المسرحية. أصبح كينز، بوصفه أمين صندوق كلية كينجز كوليدج وبصفته «مالك ضيعة في تيلتون»، أكثر انشغالا بأعمال الفلاحة. وانعكست تلك الأعمال في مقالين كتبهما عام 1933 للإشادة ب «الاكتفاء الذاتي الوطني»، وهما اللذان حملا في طياتهما هجوما أخلاقيا على التقسيم الدولي للعمل، بحجة أن «معظم عمليات الإنتاج الواسع النطاق الحديثة يمكن إجراؤها في معظم الدول والظروف المناخية بنفس الكفاءة تقريبا.» زار كينز الولايات المتحدة مرتين عامي 1931 و1934. وفي زيارته الثانية قابل روزفلت وأغلب الذين وضعوا «الصفقة الجديدة» بجانب عدد ممن انتقدوها. واستخف كثيرون بتأثير حضور كينز وكتاباته في المرحلة الأولى من تنفيذ «الصفقة الجديدة».
لقد غير كتاب كينز «النظرية العامة» طريقة فهم معظم الاقتصاديين لآليات عمل الاقتصاد. وفي هذا السياق كان الكتاب ثوريا بشكل مباشر وناجحا. كما كان للكتاب تأثير جذري في السياسات الاقتصادية. لم يكن التأثير آنيا، لكن في أعقاب الحرب العالمية الثانية التزمت الحكومات الغربية بشكل صريح أو غير صريح بالحفاظ على معدلات توظيف عالية. وكان الكتاب في حد ذاته رحلة استكشاف عميقة لمنطق السلوك الاقتصادي في ظل عدم اليقين المقترن بنموذج قصير المدى لتحديد الدخل؛ حيث ركز على ضبط كمية النقود لا أسعار صرفها. وكانت العلاقة الفضفاضة بين هذين العاملين سببا لمعظم الخلاف الذي حدث لاحقا حول «المعنى الحقيقي» للكتاب بين من سماهم آلان كودنجتون الكينزيين «الأصوليين» والكينزيين «المتساهلين»؛ فقد كان نموذج تحديد الدخل القائم على المضاعف، بجانب التطور اللاحق في إحصائيات الدخل الوطني، هو ما جعل الاقتصاد الكينزي مقبولا لدى صناع السياسات؛ إذ إنه وفر لهم طريقة آمنة في ظاهرها للتنبؤ والسيطرة على سير متغيرات «حقيقية» مثل الاستثمار والاستهلاك والتوظيف.
جاءت محاولة كينز الأولى لتطبيق نظريته المعروضة في عمله «النظرية العامة» على السياسة الاقتصادية في ثلاثة مقالات كتبها لصحيفة «ذا تايمز» في يناير 1937 حول كيفية تجنب الكساد، وهي عبارة عن تقييم حذر لاحتمال تقليل البطالة إلى أدنى من مستواها في ذلك الوقت البالغ 12٪ من خلال إيجاد «إجمالي طلب أعلى» في الاقتصاد. لم يتمتع كينز بصحة جيدة قط. ففي مايو عام 1937؛ أي وهو في الثالثة والخمسين من عمره، عانى من جلطة في الشريان التاجي، ولم يتعاف منها إلا ببطء. ولما قامت الحرب في 3 سبتمبر 1939 كان يانوس بليش، وهو طبيب مجري، قد أعاد لكينز شيئا من حيويته السابقة.
وفي أعقاب نشر كتابه «النظرية العامة»، أصبح لكينز أكبر تأثير في السياسة الاقتصادية البريطانية. وقد حقق ذلك بفضل قدراته العقلية وشخصيته، لا بفضل منصبه السياسي. ورغم تلقيه عروضا كثيرة للترشح للبرلمان، فإنه لم يترشح. وفي يونيو 1940 أصبح عضوا في لجنة استشارية شكلت لتقدم نصائح لوزير الخزانة بخصوص مشكلات الحرب، وعين في أغسطس في وزارة الخزانة، وعمل سكرتيرا بدوام جزئي. ولم تكن لديه «واجبات روتينية ولا ساعات عمل محددة ... بل كان عمله عبارة عن مفوض متنقل بجانب عضويته في لجان عليا عديدة، وهو ما سمح له بالدخول في أي مكان ليقول ما يريد.» واستغل كينز وضعه الاستثنائي للتدخل، بشكل حاسم غالبا، في كل ما يقع في نطاق العمل الاقتصادي، كبيرا كان أم صغيرا. فأصبح أكثر الموظفين الحكوميين نفوذا في تاريخ الحكومة البريطانية؛ ولم يكن «موظفا لدى رؤسائه بقدر ما كان سيدا عليهم.» وكان من الممكن أن يتيح دخوله في طبقة النبلاء عام 1942 بحمل لقب بارون تيلتون الفرصة أمامه لدخول الحكومة، لكن ذلك لم يطرح قط؛ ربما لأنه كان أكثر نفعا في موقعه. لكن ذلك مكنه من تمثيل الحكومة في بعثات عديدة للولايات المتحدة؛ حيث كان قد ترأس في آخرها (بالاشتراك مع اللورد هاليفاكس) الوفد البريطاني لواشنطن في سبتمبر 1945 للتفاوض بشأن الحصول على قرض أمريكي.
صفحه نامشخص
كانت أهم الخدمات التي قدمها كينز في الفترة الأخيرة من حياته هي المساعدة في وضع أسس محلية ودولية للرأسمالية المحسنة التي أشارت إليها نظريته. وهناك ثلاثة من إسهاماته في إدارة الشئون الاقتصادية فيما بعد الحرب تستحق الوقوف عندها.
ظهرت أولى تلك الإسهامات في سياق التمويل وقت الحرب. كان من بين التبعات المحتملة للنظرية الكينزية أن ميزانية الحكومة ينبغي أن تستخدم لموازنة حسابات الأمة، لا الحكومة فقط، لضمان تساوي إجمالي العرض والطلب في ظل وضع التوظيف الكامل. لم تكن المشكلة في وقت الحرب تحقيق نسب التوظيف الكامل - التي تحققت عام 1940 - لكن في منع التضخم، الذي يرتفع فيه إجمالي الطلب عن إجمالي العرض. وكانت المهمة المحددة للتمويل وقت الحرب هي التأكد من أن الحكومة كانت السبب في الزيادة في الطلب الناتجة عن التوظيف الكامل، لا المستهلك الفردي. وفي ثلاثة مقالات منشورة في صحيفة «ذا تايمز» في أكتوبر 1939، وأعيد نشرها في صورة كتيب بعنوان «كيف تمول الحرب؟» قدم كينز مشروعا للادخار القسري أو «الدفع المؤجل»؛ حيث يتلاشى فائض القوة الشرائية أمام الضريبة الإضافية التصاعدية على جميع الدخول (مع تقديم تعويضات للفقراء في صورة إعانات أسرية)، ويعاد جزء منها في صورة أقساط بعد الحرب لمواجهة الكساد المتوقع حدوثه. ورغم أن هذا المشروع لم يتم تبنيه إلا جزئيا، فقد أصبح مذهب كينز التحليلي بجانب تقديرات الدخل القومي التي استخدمها لحساب حجم «الفجوة التضخمية» هما الأساس لخطط الميزانية طوال فترة الحرب، بدءا من ميزانية كينجسلي وود عام 1941. لكن أهمية النظام تتجاوز ذلك. ففي 1939 شك كينز في توافر إرادة «الديمقراطية الرأسمالية» لعمل «التجربة الكبرى» التي ستثبت نظريته. وأجريت التجربة وقت الحرب وثبتت صحة النظرية. فكان الاقتصاد يعمل بكامل طاقته ولم يكن هناك تضخم إلا بقدر قليل. وما يمكن تطبيقه وقت الحرب أمكن تطبيقه وقت السلام، أو كان هذا ما يبدو على الأقل.
كان ثاني إسهامات كينز الكبرى لنظام ما بعد الحرب هو اشتراكه في تأسيس نظام بريتون وودز. وكان هذا بقية عمل لم ينته خلفه انهيار النظام القديم. لم يكن كينز مؤيدا لتعويم العملة حتى في عمله «بحث في الإصلاح النقدي»؛ فقد أراد نظاما «مدارا» لسعر الصرف يتماشى مع الاستقرار «الفعلي» في أسعار الصرف لفترات طويلة.
وسمحت خطة كينز المشهورة، الخاصة بإنشاء «اتحاد المقاصة الدولي»، في عام 1942 بالربط بين العملة المحلية وأصل احتياطي جديد سماه «بانكور». وتحتفظ الدول التي لديها فائض بأرصدة من عملة بانكور في بنك اتحاد المقاصة الدولي، وتتاح للدول التي لديها عجز تسهيلات ائتمانية على المكشوف بحيث لا تتجاوز إجمالي الفائض. وضعت الخطة لتشجيع الدول على عدم تراكم فوائض ميزان المدفوعات لديها على نحو مستمر. ومع تبني الدول لتلك الخطة يمكن للدول المدينة تلقائيا السحب من أرصدة الدول المدينة من عملة بانكور. ومع أن تلك فكرة انهارت أمام مشروع هاري دكستر وايت البديل لاعتماد معيار صرف ذهب تدعمه آلية تعديل بسيطة (وهي صندوق النقد الدولي)، فقد استمر كينز في السعي للتوصل إلى اتفاقية بريتون وودز وحشد الدعم لها في بريطانيا؛ حيث شارك في جولتي مفاوضات شاقة في واشنطن عامي 1943 و1944. ومن خلال ذلك ، لعب كينز دورا حاسما في نقل بريطانيا (وأوروبا) إلى الجانب الليبرالي من النظام الاقتصادي الدولي فيما بعد الحرب.
أما الإسهام الثالث لكينز فكان التفاوض بخصوص القرض الأمريكي في الفترة بين سبتمبر وديسمبر من عام 1945. قدر كينز آنذاك أن عجز الحساب الجاري البريطاني سيصل مجمله إلى نحو 7 مليارات دولار في السنوات الثلاث الأولى بعد الحرب. وذهب كينز لواشنطن في سبتمبر 1945؛ طلبا لمنحة «غير مشروطة» قيمتها 5 مليارات دولار. وعاد - بعد ثلاثة أشهر مليئة بالنزاعات الشهيرة - بقرض قيمته 3,75 مليارات دولار، بشرط الالتزام بالسماح بتحويل الجنيه الاسترليني للعملات الأخرى بعد عام من تفعيل الاتفاق. وكانت تلك على الأرجح أكثر تجارب حياته إذلالا؛ فقد كان الاستجداء من الولايات المتحدة تجربة مريرة بالنسبة لشخص كان واحدا من المسئولين الكبار في أكبر إمبراطورية في العالم. لكن كينز ابتلع مرارتها، وأقنع حكومة حزب العمل الجديدة هي الأخرى بابتلاعها؛ لأنها - كما قال للورد هاليفاكس - كانت البديل لأساليب «النازيين أو الشيوعيين». كما ألقى خطابا بليغا في مجلس اللوردات البريطاني دفاعا عن الاتفاق.
لم يتعاف كينز تماما من الضغط العصبي الذي سببته مفاوضات القرض. وذهب إلى الولايات المتحدة مرة أخرى، وتحديدا إلى مؤتمر سافانا في مارس 1946، لتدشين صندوق النقد الدولي. وتورط كينز مرة أخرى في شجار مع الأمريكيين حول إدارة الصندوق. وكعادته كانت لديه مسئوليات أخرى. ففي أثناء الحرب أضيف لمسئوليات كينز في وزارة الخزانة واجباته بصفته رئيس مجلس تشجيع الموسيقى والفنون؛ إذ كان قد عين في عام 1945 أول رئيس لمجلس الفنون. وبعد وصوله إلى نيويورك في أعقاب مؤتمر سافانا، رتب كينز لزيارة فريق الباليه الأمريكي لدار الأوبرا الملكية بكوفنت جاردن، الذي قدم عرض «الجمال النائم» في إعادة افتتاح الأوبرا في 20 فبراير 1946، وذهب هو لمشاهدة العرض. وبعد شهرين - في 21 أبريل 1946 - توفي نتيجة تجلط شديد في الشريان التاجي. وأقيم له حفل تأبين في كنيسة ويستمينستر آبي، إلا أنه اختار قبل سنوات رثاءه الخاص عندما كان تلميذا في إيتون؛ حيث اقتبس مقطعا من قصيدة بيرنار ناسك كلوني التي بعنوان «في ازدراء العالم»:
ليس فقط هؤلاء
الذين يسمعون أصداء حديث السماء بوضوح
هم من يستحقون الاحترام؛ فهم مباركون في جميع الأحوال .
لكن هؤلاء الذين يسمعون
صفحه نامشخص
بعض الأصداء الضعيفة الصافية وسط غفلة العوام،
ويرون من إبداع الرب في الطبيعة
ما لا يراه الناس، فهم، وإن لم يجدوا
لرؤاهم مكانا، من المباركين،
ولا يستحقون منا الرثاء.
الفصل الثاني
فلسفة الممارسة الاقتصادية لدى كينز
كانت آراء كينز في الاقتصاد - بخلاف النظرية الكينزية في الاقتصاد - تحركها دوافع فلسفية. وتأثرت بنظرته ل «الحياة الجيدة»؛ وتخللتها نظريته في الاحتمال. ترسخت الأسس الفلسفية هذه لدى كينز في سنوات حياته الأولى؛ فقد جاءت الفلسفة قبل الاقتصاد، وجاءت فلسفة الغاية عنده قبل فلسفة الوسيلة.
كانت فلسفة كينز نتاج جيل ملحد؛ فقد رأى كينز ومعاصروه أنهم يستبدلون ب «الخرافات» المسيحية نظاما عقلانيا للأخلاق والسلوك. لكنهم استخدموا أدوات فكرية ورثوها عن الماضي المسيحي (واليوناني)؛ حيث كان هيكل فكرهم ذا طابع ميتافيزيقي.
كانت نظرية كينز المعرفية المعتمدة على الحدس محورية؛ فقد اعتبر الحدس، لا التجربة الحسية، أساس المعرفة، بما فيها المعرفة الأخلاقية، وهو تقليد يرجع إلى أفلاطون. فكان تركيزه على التفكير الحدسي في الاقتصاد، إلى جانب رفضه لعلم الاقتصاد القياسي، مبنيا على أسس فلسفية لا مجرد ميل.
صفحه نامشخص
واستمد كينز معتقداته الأخلاقية من كتاب جي إي مور «مبادئ الأخلاق»، الذي نشر عام 1903 وكان ذلك عامه الثاني في الجامعة. وفي عام 1938 قال كينز: «لا أرى أي داع لتجاهل الحدس الأساسي في كتاب «مبادئ الأخلاق».» وهناك ثلاثة أشياء تعلمها من مور تبدو ذات أهمية خاصة. كان أولها استحالة تعريف الخير؛ فقد قال مور إن الخير كلمة تعبر عن صفة بسيطة غير طبيعية، ومعروفة بالبديهة. أما الشيء الثاني؛ فهو أن الحالات الشعورية الجيدة أو السيئة تسبق فعل الخير أو الشر؛ فالقيم تحدد الواجبات. والشيء الثالث هو أن «أثمن الأشياء التي نعرفها أو يمكن أن نتصورها هي حالات شعورية معينة، والتي ربما تنحصر في الإحساس بلذة ممارسة الجنس والاستمتاع بالأشياء الجميلة.» وآمن مور بأن تلك حقيقة بديهية. وأضاف كينز الشاب المتأثر تأثرا شديدا بأفكار مور إلى هذين الشيئين حب المعرفة.
كانت أعمال الخير عند مور هي تلك التي تجلب حالات شعورية جيدة؛ فقد قال مور إن «هذين الشيئين (لذة ممارسة الجنس والاستمتاع بالأشياء الجميلة) والحصول على أكبر قدر ممكن منهما في وقت معين هما المسوغ الوحيد الذي يجعل أي شخص يقوم بأي واجب خاص أو عام، وإنهما أسباب وجود الفضيلة، وهما يمثلان الغاية العقلانية للفعل البشري والمعيار الوحيد للتقدم.»
ورأى كينز الشاب في ذلك مشكلتين؛ أولا: عجز مور - بحسب قول كينز - عن وضع أساس عقلاني لسلوك الإيثار؛ فليس هناك «رابط واضح» بين الخيرية الفردية والعامة، ويعلل كينز ذلك قائلا: «لأن الخيرية الفردية والخيرية العامة تفرضان علي متطلبات لا يمكن الجمع بينها ولا يمكن المفاضلة بينها على ميزان واحد.» ويمكننا القول إن المتطلبات المتعارضة لدى كينز هي متطلبات مجموعة بلومزبيري والحكومة البريطانية.
ثانيا: لأننا «لم تسنح لنا الفرصة قط للمعاينة المباشرة للمشاعر الخيرة للآخرين، فإنه من المستحيل تحديد أنواع الأفعال التي تزيد الخيرية العامة ككل.» ويعد معيار مور لتقييم الفعل العام أدنى مرتبة من معيار بنثام؛ إذ إنه من المستحيل باستخدام هذا المعيار معرفة هل كان التقدم الأخلاقي يحدث أم لا. وبالأخص، لا تعتمد الحالات الشعورية الجيدة للناس بأي نحو مباشر على صلاح أمر العالم.
بنى مور جسرا للإصلاح الاجتماعي بأفكاره عن الوحدة العضوية. وكان الهدف الرئيسي من مبدئه، كما وصفه كينز، هو الحد من محاولات تحديد الخيرية بالرجوع فقط لحالات شعورية منفصلة. بل ينبغي عند الحكم على خيرية وضع معين الرجوع إلى الزمن وعناصر التجربة. وحلل كينز «الكليات المركبة» لمور إلى حالات عقلية خيرة في جوهرها، وإلى أشياء اعتبرها «مناسبة» أو «مرغوبة». ولا تحتاج تلك الأشياء لأن تحمل قيمة أخلاقية في ذاتها. لكن قيمة التجربة دونها أقل من قيمتها في وجودها. ويمكن للمصلح الاجتماعي الادعاء بأنه بتحسين جودة عناصر التجربة تزيد الخيرية الأخلاقية في العالم. ويرى مور أن الخيرية تزداد، مع ثبات العوامل الأخرى، بزيادة مقدار الجمال. وقد تصرف كينز تبعا لهذا الاعتقاد بوصفه محبا لخير البشرية، ومؤسسا لمسرح كامبريدج للفنون، وكونه أول رئيس لمجلس الفنون. وفي ذروة الكساد، أشار كذلك إلى أنه إذا وضع برنامجا للاستثمار العام مستوحى من مبادئ مور، فإنه سيسعى لتزويد مدن بريطانيا «بكل أدوات الفن والحضارة» وجعلها «أعظم الإنجازات البشرية على مستوى العالم». وقد يود كينز، كأحد تلامذة مور، العمل على رفع مستوى التعليم والرفاهية ما دام أن هذا يحسن مستوى الذكاء ويزيد الوعي والجمال لدى الأمة.
لكن تظهر المشكلة مع ما صنفه مور ضمن فئة «الخير المختلط»؛ حيث تعتمد المشاعر الجيدة على وجود نظيرتها السيئة؛ إذ يمكن القول إن مشاعر الشفقة والشجاعة والعدل التي تحمل قيمة أخلاقية إيجابية تعتمد على وجود المعاناة والخطر والظلم. وقد يقلل الإصلاح الاقتصادي من مجمل الخيرية الأخلاقية بقدر ما يخلص العالم من المشاعر السيئة. وربما يعتبر المصلحون الاجتماعيون تلك الاعتبارات تافهة إذا ما قورنت بالمعاناة والاضطهاد اللذين يمكن التخلص منهما. ويبين انتباه كينز لذلك أمانته الفكرية؛ كما يفسر ضعف حماسته تجاه الإصلاح الاجتماعي.
كما ظهرت مشكلة أخرى في مناقشة مور لفكرة الواجب دفعت كينز، بحسب قوله، لقضاء «كل وقت فراغه على مدار سنوات» في دراسة الاحتمال؛ فقد قال مور إننا يجب أن نتصرف بشكل يجلب لنا أكبر قدر ممكن من الخيرية العامة. لكن معرفتنا بنتائج أفعالنا ستكون احتمالية في أحسن الأحوال. وبما أنه من المستحيل معرفة الآثار المحتملة للأفعال الممتدة عبر الزمن إلى المستقبل، فإن أقصى ما يمكننا عمله في معظم الأحوال، حسبما قال مور، هو اتباع القواعد الأخلاقية المفيدة بشكل عام، والتي تمارس على نطاق واسع كما اقترح هيوم من قبل. وكان هذا الاستنتاج غصة في حلق كينز الشاب؛ فقد استرجع عام 1938 قائلا: «قبل نزول وحي السماء، كنا نزعم أننا القاضي الوحيد في قضيتنا.» وأخذ كينز يحاول اكتشاف أساس عقلاني للأحكام الفردية للاحتمال. وقال في مقال قرأه على أعضاء جماعة «رسل كامبريدج» في 23 يناير 1904 إن مور خلط بين معرفة الاحتمالات ومعرفة التكرار النسبي للحدوث؛ فقد كان مور يزعم أننا إن لم نعلم بشكل مؤكد أن أي خير يمكننا عمله في المستقبل القريب لن يفوقه مقدار الضرر الناتج عنه في المستقبل البعيد، فإنه ليس لدينا أساس عقلاني للحكم الفردي. لكن كينز قال إن هذا غير صحيح. فكل ما نحتاجه هو «تلاشي أسباب الاعتقاد» بأن أي خير آني نفعله لن تفسده النتائج بعيدة الأمد. فلم يكن الجهل عائقا أمام الحكم الفردي، بل كان وسيلة لتحييد المجهول. وبتطبيق «مبدأ اللامبالاة» - أي تخصيص احتمالات متساوية لكل البدائل التي تتساوى لدينا الأدلة عنها (بما في ذلك انعدام الأدلة) - يمكننا توسيع نطاق الأحكام الاحتمالية. وعلى نحو أكثر عمومية، كانت المعرفة الاحتمالية نوعا من المعرفة المنطقية، بالنظر إلى «ارتباط الأدلة» بالاستنتاجات؛ فقد ارتبطت بعقلانية الاعتقادات لا بظروف الأحداث. وكان بحث كينز في الاحتمال الذي نشر أخيرا في عام 1921 نابعا من تلك الفكرة الجريئة.
كان السؤال الذي طرحه كينز هو: ما هي مبادئ الاختيار والفعل العقلاني عندما يكون المستقبل مجهولا أو غير مؤكد؟ هذا يعني أن اهتمامه كان بعقلانية الوسيلة لا الغاية، رغم أن الحكم بخيرية الفعل يعتمد على كلتيهما. وزعم كينز أن العقل يمكنه غالبا أن «يقلل» عدم اليقين إلى احتمال؛ حيث يدله الحدس إلى أن بعض النتائج أكثر أو أقل احتمالا للحدوث من غيرها؛ أو كما قال إنه «يدرك» علاقة احتمال بين الدليل (المقدمة) والنتيجة في مسألة ما. ويسمح هذا الإدراك ب «درجة من تصديق» النتيجة. فالمنطق الذي يقترحه هو منطق الاستتباع الجزئي.
اعتبر رأي كينز بأن الاحتمال عبارة عن «تبصر» منطقي هجوما على النظرية السائدة في ذلك الوقت - وهي النظرية التكرارية - التي قالت إن الاحتمال حقيقة من حقائق الطبيعة؛ فإذا كان واحد من كل عشرة مدخنين يموت بالسرطان، فإن احتمال وفاة المدخنين بسبب السرطان هي 10٪. كتب كينز يقول إن المطابقة بين التكرار والاحتمال «هي انحراف شديد عن الاستخدام المعروف للكلمات.» علاوة على ذلك، فإنها تفترض «الافتراض الاستقرائي» الذي لا يمكن اشتقاقه من التكرار.
كانت النقطة التي أراد كينز - قبل كل شيء - أن يثبتها هي أن معرفتنا بالاحتمالات أوسع من معرفتنا بالتكرار. وبنفس المنطق فإن معرفتنا بالاحتمالات جزئيا هي معرفة رقمية؛ أي معرفة النسب. فالحدس المنطقي - عندما يقوم على دليل - لا يمكنه في معظم الأحوال إلا أن يشير إلى أن نتيجة معينة أكثر احتمالا للحدوث من الأخرى دون القدرة على الإشارة إلى نسبة احتمال الحدوث أو عدم الحدوث. فلدينا قدر محدود من التبصر الفردي تجاه طبيعة الكون. وطرح كينز فكرة الاحتمالات المجهولة نتيجة استحالة المقارنة بين الاحتمالات في بعض الأحيان بناء على أوجه مقارنة مختلفة. فعند اتخاذ قرار أخذ مظلة عند الخروج للسير، أي القرائن التي ستدفعنا أكثر لذلك: هل كثرة الغيوم، أم ارتفاع قياس الضغط الجوي في البارومتر؟ وفي تلك الحالة، «سيكون من المنطقي السماح لرغباتنا بتحديد قرارنا وتوفير الوقت الذي سيضيع في النقاش.» مرة أخرى، لا يمكن اعتبار الجهل عائقا أمام الحكم العقلاني.
صفحه نامشخص
تتسم نظرية كينز في الاحتمال بالتفاؤل حيال قوة العقل البشري وبالتشاؤم حيال قدرة العقل على كشف أسرار الكون. اقتبس كينز عن لوك قوله: «في الجزء الأكبر من دائرة اهتمامنا، أستطيع القول إن الرب لم يقدم لنا سوى «شفق الاحتمال»، وهو ما يناسب - حسب ما اعتقد - الحالة المتواضعة والبدائية التي أراد أن نكون عليها في هذه الأرض.»
وعند تحديد الشيء العقلاني حتى نفعله، علينا أن ننظر إلى اعتبارين آخرين لا علاقة لهما بالاحتمال؛ وهما، بحسب كينز: «مدى أهمية القضية» و«المخاطرة الأخلاقية». ويقصد كينز بالأولى قدر الدليل الذي يؤيد حكما احتماليا معينا. ولا يغير هذا من الاحتمال، وإنما قد يغير قدر الثقة في حكمنا. ويلعب تفريق كينز بين عقلانية أي حكم نصدره وقدر الثقة التي من المنطقي توافره فيه دورا محوريا في مناقشة الجانب النفسي للاستثمار في كتابه «النظرية العامة». ويشير مبدأ المخاطرة الأخلاقية إلى أنه من المنطقي أكثر استهداف نوع أصغر من الخيرية يزيد احتمال تحققه بدلا من استهداف نوع أكبر من الخيرية يقل احتمال تحققه، وذلك في حالة تساوي احتمال وجود الخير في الحالتين. وعند تساوي العوامل الأخرى، «تؤدي زيادة أهمية القضية وغياب المخاطرة الأخلاقية إلى زيادة الرغبة في القيام بفعل ما.» وتمثل هذه الفكرة الأساس الفلسفي لرفض كينز للتغيير الثوري.
وفي أثناء إعداد بحثه في الاحتمال للنشر، أضاف كينز بعض الأقسام عن الاستقراء والاستدلال الإحصائي. وكتب يقول إن العالم المتعمق في المذهب التجريبي لا يمكنه الاستفادة من الاستقراء دون عدم اتساق؛ إذ إن استخدام المنهج الاستقرائي يتطلب تعيين احتمال مسبق لصحتها. أما الصفحات التي تربو على المائة بقليل عن الاستدلال الإحصائي، فهي رائعة بسبب محاولة كينز قصر نطاق صحة تلك الطريقة على مجموعات الحالات التي يتوافر فيها معدل التكرار الثابت بدلا من المتوسط. وهذا مكمن اعتراضه على إساءة استخدام علم الاقتصاد القياسي. ومما لا شك فيه أن اعتراض كينز الفلسفي على الاستقراء جعل آراءه الاقتصادية تنحرف بشدة عن المذهب التجريبي، رغم مطالبته المستمرة بتحسين جودة البيانات. وبينما قصد اختيار نماذج قادرة على تفسير «حقائق التجربة»، لم تشتق نماذجه من التجربة، بل من التأمل الذاتي. وفي هذا السياق يعد منهجه أقرب لمنهج الاقتصاديين الكلاسيكيين من منهج نقادهم من أتباع الاقتصاد «المؤسسي».
لم ينتشل تلامذة كينز كتابه «بحث في الاحتمال» من غياهب النسيان إلا مؤخرا. ويعد ذلك جزءا من تنامي الوعي بأهمية نظرية كينز المعرفية في فهم نظريته في السلوك الاقتصادي. هناك جدل حول وضع نظريته في الاحتمال. فهل كانت النظرية عبارة عن بنية منظر واقعي كما يزعم رودريك أودونيل، أم أنها عبارة عن «منطق رأي» كما تقول آنا كارابيلي؟ يبدو أن إصرار كينز على أن الاحتمال هو علاقة «موضوعية واقعية» وأن كل المعتقدات المنطقية تعتمد على فرضيات صحيحة يدعم مذهب أودونيل، رغم أن كينز عدل رأيه لاحقا استجابة للنقد الذي وجهه إليه فرانك رامزي. وهناك مسألة أخرى تتعلق بالاتساق المعرفي بين كتاب «بحث في الاحتمال» وكتاب «النظرية العامة»؛ إذ يتساءل أثول فيتزجيبونز عن سبب تحول «شفق الاحتمال» بحلول عام 1936 إلى «ظلام حالك» من عدم اليقين. وتقدم نقطة التحول المتمثلة في الحرب العالمية الأولى الإجابة. لكن في النهاية هل يرى كينز - في كتاب «النظرية العامة» - في السلوك الاستثماري سلوكا عقلانيا أم غير عقلاني؟ هنا يظهر الخلاف الجوهري بين من يرون أن استراتيجية الاستثمار «التقليدي»، التي ذكرها كينز في «النظرية العامة»، هي شكل «باهت» من العقلانية، ومن يقولون إن كينز كان يعتقد أن السلوك الاستثماري غير عقلاني. ربما كان هذا حكما «تقليديا» غير قابل للجدال على الاحتمالات، والذي يحافظ على ثبات معقول للاستثمار مع كون «الغريزة الحيوانية» هي السبب في دورته.
لم تكن تلك المناقشات مجرد اهتمام بالتاريخ؛ فقد كان كينز أول اقتصادي يضع عدم اليقين في قلب المشكلة الاقتصادية، وهو ما أثار قضية نطاق العقلانية ومعناها في علم الاقتصاد. فهل العقلانية ممكنة في عالم يتسم بعدم اليقين؟ وكيف يمكن تحديدها؟ ترتبط المسألة المتعلقة بالسياسة الاقتصادية بالظروف التي ينبغي توفيرها؛ لئلا ترى العناصر الاقتصادية الفاعلة هيكل الاقتصاد يتسم من الأساس بعدم اليقين.
وضعت نظرية كينز في السياسة ضمن الإطار المفاهيمي ذاته لفلسفته الأخلاقية والاقتصادية. وكانت أقرب محاولاته لتقديم عرض منهجي هو المقال الذي كتبه في 100 صفحة خلال دراسته الجامعية عن إدموند بيرك، الذي نجح في الحصول به على الجائزة الجامعية في المقال الإنجليزي عام 1904، وهي نفس السنة التي كتب فيها أول مقالاته عن الاحتمالات. أبدى كينز تعاطفا شديدا مع آراء مؤسس مبادئ التيار المحافظ البريطاني؛ فقد أيد فصل بيرك بين الأخلاق والسياسة، بجانب تفضيله للمصلحة الحالية على المصلحة المستقبلية. لكن كينز انتقد بيرك لجبنه الشديد بوصفه مصلحا ولاستخفافه بادعاءات الحقيقة؛ فقد انتقده بشكل عام لمبالغته في تحميل الافتراضات المنطقية ما لا تحتمل. وقد كانت الآراء التي قدمها في مقاله هذا الذي كتبه خلال الدراسة الجامعية، وكذلك في كتاباته الناضجة لاحقا، سابقة لعصرها.
تكمن «حكمة بيرك السياسية التي لا تضاهى» - طبقا لكينز - في أنه كان أول مفكر على الإطلاق يضع نظرية سياسية تقوم على النفعية بدلا من الحقوق المجردة، رغم أن تلك النفعية «اقترنت» بمبدأ المساواة القائل إن على الحكومات أن تتجنب التمييز المفتعل ضد أفراد أو طبقات معينة. واقتبس كينز عن بيرك، مؤيدا له، قوله: «القضية بالنسبة لي لا تتمثل فيما إذا كنت تمتلك حق إتعاس شعبك أم لا، وإنما إذا كنت ليست لديك الرغبة في إسعاده أم لا.» وأضاف كينز: «ليست هذه الفكرة عميقة تماما، لكن يجب أن نقر، بفضل بيرك، بأنه أول من عبر عنها بوضوح وثبات.» وكان أهم تبعات هذه الفكرة هو احتفاء بيرك بالنفعية بوصفها مبدأ جوهريا في السياسة، وهو ما أيده كينز بالتأكيد. وقد قال كينز في أحد مقالاته في منتصف عشرينيات القرن العشرين: «إنها لكارثة فادحة أن تتبنى حكومة رأسمالية أي مبادئ. بل يجب عليها أن تكون انتهازية بكل معاني الكلمة وتعتمد على المواءمة وعلى التقدير السليم للموقف. وأي حكومة، سواء كانت ملكية أم حكومة أثرياء أو غيرها، إن تبنت أي مبادئ فستسقط في النهاية.» كان لدى كينز في صناعة السياسات ميل صريح، وإن كان غير متطرف، تجاه حرية التصرف في مقابل القواعد الثابتة؛ وذلك لأسباب يمكن استنتاجها بسهولة من إعجابه بأفكار بيرك.
لقد تقبل كينز الرأي الذي أرجع أصله لبيرك، والقائل إن هدف السياسة ليس جلب المشاعر «الخيرة في ذاتها والمنفصلة عما سواها»، وإنما تيسير سعي أعضاء المجتمع نحو الأهداف الأخلاقية، عن طريق ضمان توافر ظروف «الراحة البدنية والرفاهية المادية والحرية الفكرية». وتتفق متطلبات الرفاهية ومتطلبات الخيرية الأخلاقية إلى حد ما. لكن كينز لم يعتبر قط السياسة ملعبا لتحقيق أهداف أخلاقية، ولم يجعل للعواطف السياسية إلا قيمة أخلاقية محدودة.
كما أقر كينز أحد مبادئ بيرك الجوهرية الأخرى؛ وهو أن السعادة أو المنفعة التي ينبغي أن تسعى الحكومات لتعظيمها هي المنفعة قصيرة المدى، لا طويلة المدى. وكان هذا نتيجة لقبوله معيار «المخاطرة الأخلاقية» لكل من مور وبيرك؛ إذ يقول: «طالما رأى بيرك - وكان على صواب - أنه نادرا ما تصح ... التضحية بمنفعة حاضرة من أجل منفعة مستقبلية غير مؤكدة.» وكان مفهوم المخاطرة الأخلاقية أحد المبادئ التي وجهت أعمال كينز السياسية. كما حصنه بنفس القدر من الشيوعية وفكر التضحية الموجود ضمنا في معظم الأفكار الاقتصادية التقليدية.
مع ذلك رأى كينز أن بيرك فسر معيار «المخاطرة الأخلاقية» على نطاق شديد الضيق؛ إذ انتقد بيرك في مقاله عام 1904 «لتفضيله السلام على الحقيقة، ولتردده الشديد في قبول شر حال من أجل تحقيق منفعة مستقبلية، ولإنكاره أن البشر يفعلون الصواب، إلا فيما ندر من الحالات؛ لأنهم يحكمون على أفعالهم بالصواب.» فقد كان تشكك بيرك المعرفي هو ما أجبره للعودة إلى التقاليد. أنكر بيرك قيمة السعي للوصول إلى الحقيقة على أساس أن ذلك ربما يفسد سلام الأمة (أي خير حال) بغير وجود ضمانة لوجود منفعة أكبر. وكان هذا استنتاجا أراد كينز مقاومته. فقد حاج - مستلهما فكر ميل - أنه «مهما كانت التبعات الفورية لحقيقة جديدة، فإن هناك احتمالا قويا أن تلك الحقيقة ستؤدي إلى نتائج أفضل من نتائج الزيف على المدى البعيد.» واتسق هذا مع هجومه على فكرة مور باتباع القواعد المتفق عليها على المستوى العام بدلا من الحكم الفردي. لكنه خلص إلى أن «التحيز الحديث للحقيقة ربما يكون مبنيا على أسس غير كافية إلى حد ما»؛ لذا يمكن اعتبار كتاب كينز «بحث في الاحتمال» ردا على كل من مور وبيرك في هذه المسألة؛ فقد كانت العقلانية مبدأ هاما في فلسفة كينز السياسية. وكانت فكرة السياسة التي توجهها العقلانية تتضمن أفقا مستقبليا متفائلا، وربما ثوريا غير موجود في المذهب الكلاسيكي المحافظ. لقد كان إيمان كينز بقوة العقل وإمكانية تصرف الحكام تبعا لما يمليه عليهم هو ما جعله يسمح بقدر كبير من الحرية للحكام في وضع السياسات الاقتصادية.
صفحه نامشخص
يعد تناول كينز لآراء بيرك عن الملكية والديمقراطية في ضوء «قوانينه» السياسية جديرا بالملاحظة الدقيقة؛ فقد دافع بيرك عن حقوق الملكية القائمة على أساس أن إعادة توزيع الثروة لن تحدث أي فارق حقيقي للفقراء؛ إذ إن عددهم يفوق عدد الأغنياء بكثير، بينما في الوقت ذاته «تقلل عدد من يمكنهم الاستمتاع بالمنافع المؤكدة للثروة، وتقلل عدد من يمكنهم أن يجلبوا على الدولة المنافع التي يجلبها دائما وجود الأثرياء.» ورأى كينز أن هذه الفكرة «تحمل أهمية كبيرة بلا شك ... ويجب أن تكون ضمن أقوى الردود على أي خطط تستهدف تحقيق المساواة.» لكن تلك الفكرة لا تصح إن وجهت ضد «أي محاولة للتأثير على قنوات تدفق الثروة» وضد مواجهة الجوع أو الفقر الشديد؛ فلا تصلح مثلا للاعتراض على ضرائب التركات «التي يقصد منها تقليل تكدس الثروة»، ولا للاعتراض على مصادرة الملكيات الإقطاعية في أثناء الثورة الفرنسية. فطالما اهتم بيرك بالدفاع عن «الأسوار الخارجية» لنظام الملكية، لدرجة أنه لم ير أن ذلك ربما يعرض «قلب» النظام نفسه للخطر.
كانت تلك فكرة تقليدية عرضت بشكل تقليدي. لقد أصر كينز في عمله «بحث في الإصلاح النقدي» (1923) على أن الحكومات يجب أن تكون لديها حرية مراجعة العقود بين الأحياء والأموات؛ حيث إن «عواقب العوائد الربوية غير المنقطعة ضخمة جدا.» فبحسب قوله، إن «مؤيدي ثبات عقود الدين هم آباء الثورة»؛ وهذا موقف يحمل طابع بيرك عن جدارة، رغم أن بيرك كان يتجاهله أحيانا.
وسط أزمات ثلاثينيات القرن العشرين، تكون لدى كينز اعتقاد بأنه قد يكون من الضروري القيام ببعض التدخلات بشأن «الأسوار الخارجية» أكبر من التي أشار إليها في عام 1904 للدفاع عن قلب النظام؛ لذا فقد اقترح في «النظرية العامة» تنفيذ «القتل الرحيم في أصحاب الدخول الربوية» من خلال عدم السماح بوجود فوائد ربوية على القروض، كما دافع عن قوانين العصور الوسطى الربوية التي أرست حدا أقصى للفائدة. لكن عندما أوضح له مراسله الفرنسي مارسيل لابوردير أن «استقرار الثروات واستمرار التوريث في العائلات التي تنتمي لطبقات اجتماعية مختلفة هي أحد الأصول الاجتماعية غير المرئية التي تعتمد عليها جميع الثقافات بشكل أو بآخر»؛ رد كينز على الفور بقوله: «أتفق تماما مع ما تقول، وأرجو أن تكون كلماتك كافية لتأكيده بشكل كاف. وكلما كبرت أصبح أكثر اقتناعا بأن ما تقوله صحيح وهام. لكن يجب ألا أسمح لك بتحويلي إلى محافظ متشدد.»
قال كينز إن قضية الديمقراطية تتضمن سؤالين منفصلين؛ أولا: هل للجماهير الحق في إدارة حكومة ذاتية؟ ثانيا: هل من النافع والمفيد أن تكون الحكومة الجيدة حكومة ذاتية؟ كان بيرك قد رد على كلا السؤالين بالنفي القاطع. وأيد كينز بيرك بشدة في إجابة السؤال الأول. فالحكومة ما هي إلا «أحد ابتكارات الحكمة البشرية» من أجل «إشباع حاجات معينة، وهذا آخر القول.» فللناس الحق في حكومة جيدة لا حكومة ذاتية، وهو مبدأ ينطبق بلا نقاش على مكتب الهند. لكن المسألة الأصعب هي ما إذا كانت الحكومة الذاتية شرطا لوجود حكومة جيدة، وكان كينز في هذه النقطة أكثر انفتاحا من بيرك؛ إذ إنه اتفق معه في أن «الناس» غير قادرين على حكم أنفسهم، وأن على البرلمان أن يكون مستعدا دائما لمقاومة التحيز الشعبي تحت اسم المساواة بين الأفراد والطبقات. إلا أنه انتقد حلم بيرك بوجود «طبقة ممثلي الشعب» وقال إنه استخف بالقيمة التربوية للحكومة الذاتية. مع ذلك شك كينز في أن يجرؤ أي «كيان شعبي عقلاني أو غير متحيز» على أن يجري التجربة في ظل المعاناة الموجودة في العالم ما لم يكونوا «تحت تأثير الفكر الخاطئ القائم على الحقوق السياسية الطبيعية.»
لم يظهر في عصر كينز ما يشوب الديمقراطية؛ كان هذا لأن «قوتها الكاملة لم تكن قد دخلت حيز التنفيذ»؛ فالنظام القائم كان نظاما نخبويا تحكمه قلة من الأثرياء، وليس نظاما ديمقراطيا. وكان افتراض كينز استمرار النظام بهذا الحال مع إضافة بعض «الخبرة الفنية» نقطة ضعف في نظريته السياسية.
زاوج كينز في فلسفته السياسية بين عنصرين جوهريين لمذهب بيرك المحافظ؛ وهما: الرضا بوصفه هدفا، وتجنب المخاطرة بوصفها منهج الحكومة؛ وعنصرين جوهريين في إصلاح الليبرالية؛ وهما: الالتزام بالحقيقة، والإيمان بإمكانية وجود حكم فردي عقلاني. ورفض كلا من المذهب المحافظ غير المعتمد على العقلانية والاشتراكية الراديكالية. وكان هذا بشكل كبير هو مضمون فكرة «الطريق الوسط» التي اعتنقها في فترة ما بين الحربين العالميتين.
لقد ثار قدر كبير من الجدل حول ماهية الليبرالية التي اتبعها كينز؛ إذ يراه بيتر كلارك جزءا من الحركة «التقدمية» فيما قبل عام 1914 التي وحدت الليبراليين اليساريين والاشتراكيين المعتدلين في برنامج ديمقراطي مشترك لإعادة توزيع الثروة. في حين يقول مايكل فريدن إن كينز كان ليبراليا «وسطيا» صارما يطوع الحلول التكنوقراطية لمذهب فردي؛ فقد تبرأ كينز من السمات المميزة لليبرالية «التقدمية» من خلال تقييد تدخل الدولة لملء الفراغات التي يتركها القطاع الخاص، و«التخلي عن إعادة توزيع الثروة بوصفها مجالا واسعا للسياسة الاقتصادية الاجتماعية»، و«نزع الديمقراطية» من صناعة السياسات لصالح سيطرة الخبراء.
من الممكن إيجاد مبررات لكلا الطرفين. فمن الواضح أن ما جعل كينز بعيدا عن «التقدميين» هو سلوكه تجاه العدالة الاجتماعية؛ إذ لم يعترض كينز - أو بالأحرى لم يعترض بالقوة الكافية - على النظام الاجتماعي القائم على أساس أنه غير عادل أو غير منصف في توزيع الفرص، بل لأن مبدأ الحرية الاقتصادية لم يحم «الأعراف» الاقتصادية والاجتماعية القائمة. فالظلم بالنسبة لكينز يعني أي تغير عشوائي في الترتيبات الاجتماعية المستقرة، كتلك التي تسببها التغيرات في قيمة النقود؛ فقد تعاطف بشدة مع عمال المناجم في أثناء إضرابهم العام سنة 1926؛ لأنه رأى أنهم ضحايا العودة لمعيار الذهب بسعر مبالغ فيه للجنيه، والذي تم في العام السابق. وحول كينز مشكلة العدالة من الاقتصاد الجزئي إلى الاقتصاد الكلي؛ فأصبح الظلم مسألة عدم يقين، والعدل مسألة توقع تعاقدي. ولعبت فكرة إعادة توزيع الثروة دورا هامشيا في فلسفته الاجتماعية، ثم أصبحت مجرد جزء من آليات استقرار الاقتصاد الكلي، وليست وسيلة لتحقيق غاية مثالية كالمساواة.
تظهر تلك الاتجاهات في مقاله «نهاية مبدأ الحرية الاقتصادية» الذي قرأه لأول مرة في صورة محاضرة في جامعة أكسفورد عام 1924. وكانت شرور النظام القائم مصدرها في الغالب «المخاطرة وعدم اليقين والجهل». وتطلب علاجها «السيطرة المدروسة على العملة وعلى الائتمان من قبل مؤسسة مركزية»، و«جمع بيانات الأعمال ونشرها»، و«القرارات الحكيمة المنسقة» فيما يخص إجمالي حجم المدخرات وتوزيعها بين الاستثمار المحلي والأجنبي، ووضع سياسة سكانية «تهتم بالجودة الجوهرية ... مثل اهتمامها بالأرقام.» إن ما كان يسعى إليه كينز - كما كتب لاحقا في عمله «النظرية العامة» - هو سد الفجوات في «ليبرالية مانشستر». وقدم كينز معيارا لتدخل الدولة تمثل في فكرة الخدمة أو النشاط «الاجتماعي من الناحية الفنية»؛ بمعنى أن الدولة هي الوحيدة القادرة على تقديمه. واقترن بمجموعة النقاط تلك على نحو غير متناسق بعض الشيء منظور تطوري انحسرت بموجبه الرأسمالية الفردية لشركات العائلات أمام الرأسمالية «الاشتراكية الطابع» للمنفعة العامة والشركات الخاصة الكبيرة. وهكذا تنبأت التطورات الصناعية التلقائية ب «إضفاء الطابع الاشتراكي على الاستثمار» الواعي الذي دافع عنه كينز في عمله «النظرية العامة» وجعلته ممكنا.
ورغم رفض الليبراليين له، لم ينضم كينز إلى حزب المحافظين ولا حزب العمال. وتساءل في مقال له في عام 1926 بعنوان «هل أنا ليبرالي؟» قائلا: «كيف يكون لي أن أصبح محافظا؟» ثم أضاف:
صفحه نامشخص
إنهم لا يوفرون لي الطعام ولا الشراب، ولا يقدمون أي تعزية فكرية أو روحية ... فالتوجهات المحافظة لا تؤدي إلى أي شيء؛ فهي لا تحقق أي مثل، ولا تتفق مع أي معيار فكري، وليست حتى آمنة أو حذرة بحيث يمكنها حماية ما وصلنا إليه من الحضارة مما قد يفسدها.
كان حزب المحافظين بالنسبة لجيل كينز من الليبراليين عدوا تاريخيا، وظل كذلك طوال سنوات ما بين الحربين رغم «سمو أخلاق» ستانلي بولدوين؛ فقد اعتبروا الحزب حزب الحماقة والخرافات والتحيز؛ حزب الحماية الاقتصادية والوطنية الجوفاء. وكان المحافظون أنصار القواعد الأخلاقية الرجعية التي ثار عليها جيل كينز. أدرج كينز ضمن أجندة الليبرالية «تحديد النسل واستخدام وسائل منع الحمل وقوانين الزواج ومواجهة الجرائم والتشوهات الجنسية والوضع الاقتصادي للمرأة والأسرة ... وقضايا المخدرات.» واتخذ المحافظون - على الأقل في العلن - من كل تلك القضايا التي كانت ذات أهمية خاصة لجماعتي بلومزبيري وهامبستيد موقفا طالما وصفه كينز بأنه متخلف يرجع للعصور الوسطى.
أرجع كينز حماقة التوجهات المحافظة لارتباطها بمبدأ التوريث. وفسر هذا أيضا عدم كفاءة العديد من الشركات البريطانية؛ فقد سيطر أفراد من الجيل الثالث على الرأسمالية البريطانية. واختفى احترام كينز الذي أظهره في البداية لقائد المحافظين ستانلي بولدوين سريعا؛ حيث كتب في عام 1925: «كنت أشعر في البداية أن السيد بولدوين لا يمكن ألا يكون بارعا. لكنه عندما وجدته دائما يستسلم لعواطفه ويتصرف بحماقة، زال هذا الشعور.» لكنه قال عنه في عام 1936 إنه «نموذج لرجل الدولة الذي يمكنه وضع نظام اشتراكي معدل إن سمح له حزبه بذلك.»
إذا كان حزب المحافظين هو الحزب الأحمق، فقد كان حزب العمال هو الحزب السخيف. لكن كانت معظم توجهاته على الأقل على الطريق الصحيح. وكان ما يحتاجه حزب العمال - حسبما أوضح كثيرا كينز - هو محركا يقوده نحو برنامج لإصلاح الليبرالية. انشغل كينز في معظم كتاباته السياسية بحوار مع ليبرالية حزب العمال. وتخلل ذلك أحيانا استخدام لغة شديدة الالتباس؛ حيث حاول أن يفصل موقفه عن موقف الاشتراكية، وأن يؤكد في الوقت ذاته على التوافق بين مجموعة من الطموحات الليبرالية والاشتراكية. ويجعل ذلك الالتباس - الذي بدا أن كينز رآه جزءا ضروريا من جهوده الإقناعية - من الصعب معرفة مدى استعداد كينز لأن يسلك طريق الاشتراكية. ولم يضطر كينز خلال حياته للاختيار الذي واجه الكثيرين في سبعينيات القرن العشرين.
رفض كينز بشكل قاطع الاشتراكية باعتبارها علاجا «اقتصاديا» لمشكلات الرأسمالية. وطالما قال إن الاقتصاديين الكلاسيكيين والاشتراكيين يؤمنون بقوانين الاقتصاد نفسها. لكن في الوقت الذي اعتبرها الفريق الأول صائبة وحتمية، رآها الفريق الثاني صائبة ولا يمكن تحملها. وحاول كينز أن يثبت خطأ تلك القوانين. وأضاف أن مجرد فكرة تحول الرأسمالية نحو الاشتراكية تجعل الملكية العامة غير ضرورية.
عارض كينز الجانب الثوري للاشتراكية. وأدرك أن السواد الأعظم من أعضاء حزب العمال لم يكونوا «بلشفيين يعقوبيين شيوعيين»، لكنه رأى أن مكر تلك المجموعات وحقدها أثر في الحزب بالكامل؛ حيث تم الجمع بين الخبيث «وما هو مثالي من أجل بناء جمهورية اشتراكية حقيقية.» وقال كينز في إحدى المناظرات مع الاشتراكي الاسكتلندي توماس جونستون عام 1929، إن حزب العمال يجب أن «يظهر بمظهر المعارض لكل من هو أكثر نجاحا أو مهارة أو اجتهادا أو أكثر نجاحا من المتوسط ... وذلك قمة الظلم والحمق؛ فهذا يدمر ما يجب أن يكون دائما هو القطاع الأقوى من المجتمع ويلقي به في المعسكر الرجعي.»
عارض كينز صراحة الأساس الطبقي الذي تقوم عليه السياسة الاشتراكية. وقال في إحدى ملاحظاته الأكثر اقتباسا: «حزب العمال هو حزب طبقي تختلف طبقته عن طبقتي. وإن سعيت يوما لتحقيق مصالح فئوية، فعلي أن أسعى لتحقيق مصالحي ... من الممكن أن أتأثر بما قد يبدو عدلا وحسن تقدير، لكن في «الحرب الطبقية» سأكون في جانب الطبقة البرجوازية «المستنيرة».» فقد كان من أنصار المساواة برفع مستويات الطبقات الدنيا، لا بخفض مستويات الطبقات العليا. وقال: «أريد أن أشجع كل الجهود والقدرات والشجاعة والشخصيات الاستثنائية. ولا أريد أن أستعدي كل ما هو ناجح واستثنائي.»
وأخيرا رفض كينز معارضة حزب العمال للنخبوية. وشعر بأن العناصر المفكرة في حزب العمال «لن تكون لديها أبدا السلطة الكافية، وسيتخذ من لا يفقهون شيئا على الإطلاق عما يتحدثون بشأنه جل القرارات.» كان المحافظون أفضل حالا في هذا الجانب؛ حيث إن «الدائرة الداخلية في الحزب يمكنها أن تحدد تفاصيل سياسة الحزب وآلياتها.» آمن كينز - كما تبين كتاباته الأولى - بحكم الطبقة الأفلاطونية الحارسة التي تقيدها - ولا تهيمن عليها - الديمقراطية.
أعجب كينز بثلاثة أشياء في الاشتراكية، هي: شغفها بالعدالة، ومثل الخدمة العامة الفابية، ومثاليتها المبنية على إلغاء دافع الربح. وكان لدى كينز مدينته الفاضلة كذلك، وهي ما ألهم أعماله في الاقتصاد، والتي عبر عنها على نحو بارز في مقاله «الإمكانات الاقتصادية لأحفادنا» المنشور عام 1930. في هذا المقال يشرح كينز تصوره لمجتمع ينعم بالوفرة والرفاهية والجمال والفضيلة والتنوع، ويعتبر فيه «حب المال» مرضا عقليا. لكن تلك المثالية كان منبعها كامبريدج أكثر من الفلسفة الاشتراكية (حيث ليس هناك فيها مكان واضح للمساواة أو الأخوة أو الديمقراطية). هذا بخلاف أنها لا تتحقق إلا بعد حل المشكلة الاقتصادية. في الوقت الراهن، كما قال كينز: «علينا أن نستمر في التظاهر بأن الجميل قبيح والقبيح جميل؛ إذ إن القبيح نافع والجميل لا ينفع.» باختصار، عارض كينز الاشتراكية بوصفها وسيلة، ولم يقرها بوصفها غاية إلا من خلال تصوره الذاتي.
قدم دميتري ميرسكي، المراقب الدقيق للثقافة البريطانية في فترة ما بين الحربين، تفسيرا ماركسيا لفلسفة الممارسة لدى كينز في كتابه «مفكرو بريطانيا العظمى». فقال إن النخبة الأرستقراطية المفكرة تعتبر نفسها خارج نظام الطبقات أو أعلى منه؛ نظرا لأنها لا تشارك في عملية الإنتاج بشكل مباشر. فهي طالبت في مجال الاقتصاد بنظام، والذي أطلقت عليه الاشتراكية، لكنها في الحياة الفردية أرادت مزيدا من الحرية، وهو ما ربطها بالرأسمالية.
صفحه نامشخص
تبدو تلك الأطروحة المضادة أقل أهمية اليوم؛ فقليل من الناس الآن يعتقدون أن الاشتراكية - بالشكل الذي رفضه كينز - مناسبة لمشكلاتنا الاقتصادية. لكن السؤال يكمن فيما إذا كان طريق كينز الوسط لا يزال مفيدا أم لا. فقد توقع نمو العجز في إجمالي الطلب في الاقتصاديات الرأسمالية الناضجة - في ظل تضاؤل فرص الاستثمار - لكن ستستمر عادات الادخار الملائمة للعصر الفردي. وسيكون التدخل الحكومي ضروريا للحفاظ على الطلب على الاستثمار، وإعادة توزيع الدخل على الفئات الأكثر استهلاكا، وإعادة تنظيم ظروف العمل والأجور من أجل زيادة الاتجاه إلى الراحة بشكل تدريجي، مع تعزيز العلم لقدرات الإنتاج. وإلا فسيكون الكساد الكبير فيما بين عامي 1929 و1932 - كما حذر - مجرد مقدمة لحالة شبه ركود دائمة. وقد وردت أفكاره السياسية في سياق أفكاره الاقتصادية الموجهة لمواجهة انتشار البطالة في بريطانيا في عشرينيات القرن العشرين، وهو ما سنتناوله في الفصل القادم.
الفصل الثالث
المصلح النقدي
جاءت مناقشة كينز لمشكلة البطالة في بريطانيا في عشرينيات القرن العشرين في إطار نظرية كمية النقود؛ إذ كان متأكدا من أن التقلبات في النشاط الاقتصادي يمكن منعها من خلال تطبيق سياسة نقدية ملائمة. وكان منظرو نظرية كمية النقود في زمن كينز مصلحين نقديين أرادوا استخدام نظريتهم لتحقيق استقرار النشاط الاقتصادي. وكانت تلك النظرية أول نظرية تسعى لتحقيق استقرار الاقتصاد الكلي على المدى القصير.
وتعتبر تلك نقطة غريبة في ظاهرها؛ إذ إن نظرية كمية النقود هي نظرية تربط المعروض من النقود ب «مستوى سعر» شراء السلع بدلا من «كمية» السلع المنتجة. لكن الواقع يشير إلى أن التغيرات الخاصة بالنقود والأسعار كانت ترتبط بالتقلبات في كمية الناتج ومعدل البطالة، وهو ما يحتاج إلى تفسير. وعلى مدار العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين أو نحو ذلك، حاول الاقتصاديون - بما فيهم كينز - أن يستفيدوا مما سموه نظرية كمية النقود لتفسير التقلبات في الناتج؛ وكان من أسباب ذلك هو ملاحظتهم للارتباط بين الأوضاع النقدية والتقلبات في النشاط الاقتصادي، وكذلك لأن السياسة النقدية مثلت نطاق عمل واعد للذين طمحوا لإدارة النظام الرأسمالي لا لتدميره. وفي الثلاثينيات تخلى كينز عن استخدام نظرية كمية النقود في تفسير التقلبات قصيرة الأجل في الناتج. إلا أن النقود في كتاب «النظرية العامة» لا تزال تحتفظ بقدرتها على إرباك الاقتصاد الحقيقي. لكن تأثيرها هذا نابع من وظيفتها كمخزن للقيمة لا كوسيلة للتبادل. ويثير ذلك مسألة أخرى وهي إمكانية الاعتماد على السياسة النقدية باعتبارها أداة للإدارة الاقتصادية.
لقد قامت نظرية كمية النقود على تناول النقود من منظور دورها في المبادلات؛ فالنقود هي وسط للتبادل ووسيلة لتنفيذ عمليات شراء السلع والخدمات وبيعها. ليس للنقود وظيفة أخرى، على الأقل في أي اقتصاد «حديث» في ظل وجود نظام قانوني وسياسي مستقر ونظام بنكي متطور. وفي ضوء هذا، لا يمكن لحدوث تغير في كمية النقود (أو قيمتها) أن يربك المعادلة السابقة إلا إذا أسفر عن تغيرات غير متناسبة في المخزونات النقدية لدى العناصر الاقتصادية الفاعلة. وكان هذا بالفعل هو افتراض الذين استخدموا نظرية كمية النقود في تحليل التقلبات الاقتصادية. وكان دائما ما يقال إن رفع الأسعار يخدم المستثمرين وأصحاب المشروعات على حساب المدخرين والعمال؛ والعكس بالعكس. وقامت هذه المسألة على التمييز بين الأسعار المرنة والأسعار غير المرنة؛ لذا افترض أن أسعار الأجور «ثابتة» أو على الأقل «متماسكة» على المدى القصير، وأن أسعار البيع «مرنة». وفي الوقت نفسه تبدو عملية تثبيت مستويات الأسعار سهلة على نحو خادع، وذلك عند التعامل مع النقود من منظور دورها في المبادلات. فهذا المنظور يعتبر النقود مجرد وسيلة لإجراء المبادلات. طالما قال كينز قبل عام 1914 إن الناس يقبلون على الحصول على النقود فقط ليصرفوها بأسرع ما يمكن. وكل ما كان يجب على السلطة المركزية عمله هو ضمان وجود تدفق ملائم للنقود؛ وسيسير كل شيء على ما يرام. وكانت أعمال كينز منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى وحتى كتابه «بحث في النقود»، بما فيه كتابه هذا، تدور في فلك تلك الفكرة، رغم أنها أصبحت في النهاية إشكالية بالنسبة له.
كانت هناك صيغتان مطروحتان لنظرية كمية النقود عندما بدأ كينز عمله في الاقتصاد؛ الأولى: صيغة «المبادلات» لإرفينج فيشر، والثانية: صيغة كامبريدج ل «الأرصدة النقدية» التي وضعها ألفريد مارشال الذي درس علم الاقتصاد لكينز. واستخدم كينز كلتا الصيغتين في محاضراته فيما قبل عام 1914، قائلا إنهما «يصلان عمليا للنتيجة نفسها.» تنص معادلة فيشر للتبادل على أنه في أي فترة محددة تساوي كمية النقود مضروبة في سرعة دورانها - وهي متوسط عدد مرات إنفاق العملة في فترة محددة - متوسط سعر كل مبادلة مضروبا في الحجم الكلي للمبادلات. وكل ما يعنيه هذا هو أن قيمة ما ينفق تساوي قيمة ما يشترى، وهي نتيجة ليست بجديدة. لكن لا تزال هناك حاجة لثلاثة افتراضات أخرى لتتحول معادلة التبادل إلى نظرية خاصة بمستوى الأسعار؛ أولا: هناك علاقة سببية بين النقود والأسعار. ثانيا: تتحدد سرعة دوران النقود، بغض النظر عن المعروض من النقود، تبعا لمستوى الدخل وعادات الإنفاق في المجتمع، وهما عاملان لا يتغيران إلا ببطء. ثالثا: يتحدد حجم التبادلات، بغض النظر عن كمية النقود، تبعا لقوى «حقيقية». إن صحت تلك الافتراضات، فسيؤدي أي تغير في كمية النقود إلى تغير متناسب في مستوى الأسعار.
أما صيغة «الأرصدة النقدية» من نظرية كمية النقود لمارشال، فتنص على أن كمية النقود تساوي متوسط سعر كل مبادلة مضروبا في الحجم الكلي للمبادلات مضروبا في مقلوب سرعة دوران النقود، وهو النسبة من الدخل أو الثروة (استخدم مارشال المصطلحين بالتبادل) التي يحتفظ بها المجتمع في صورة سائلة في فترة معينة. لم تركز معادلة كامبريدج على إنفاق النقود، وإنما على دور النقود باعتبارها مخزنا مؤقتا للقوة الشرائية فيما بين عمليتي البيع والشراء. ومهد ذلك لوظيفة النقود بوصفها «مخزنا للقيمة» من خلال الإشارة إلى الدوافع الفردية للاحتفاظ بالسيولة النقدية وافتراض إمكانية تحليلها هي الأخرى.
لم تشر تلك النظرية في هذا الاتجاه على نحو أكبر من وجهة نظر كينز قبل الحرب؛ إذ اعتبرها، ليس فقط أنها مجرد تدريب على استعمال المنطق - من خلال عرضها للشروط اللازمة لصحتها - وإنما أيضا مجموعة من الافتراضات الواقعية عن عالم الواقع. ورأى كينز بالتأكيد أن هناك علاقة سببية بين النقود والأسعار، منتقدا «رجال الأعمال» و«الرأي الشائع» لاعتقادهما عكس ذلك. واعتقد أيضا أن «سرعة الدوران» أو «الطلب على الأرصدة النقدية لكي يتم الاحتفاظ بها» يتحدد بشكل مؤسسي، ولا يخضع للتغيرات العشوائية. كما أيد الافتراض الثالث، الذي ينص على أن حجم المبادلات يتحدد وفق قوى «حقيقية». وبهذا يكون كينز قد أيد نظرية كمية النقود بصيغتيها. كما أقر في الوقت ذاته بأن تقلبات الأسعار يمكن أن تكون لها آثار مؤقتة على سرعة الدوران وحالة التجارة، رغم أن مناقشته لتلك النقطة لم تكن باهتمام كبير.
كانت رؤية كينز «لآلية التحول» من النقود إلى الأسعار مارشالية الطابع بامتياز؛ إذ إنه اتهم فيشر بالعجز عن تحديد آلية في هذا الشأن؛ إذ تؤدي الزيادة في احتياطيات الذهب في البنك المركزي إلى انخفاض أسعار الفائدة؛ ومن ثم يزيد اقتراض أصحاب المشروعات؛ ويعد إنفاقهم لودائعهم الجديدة هو السبب في ارتفاع الأسعار، وهذا التأثير «ينتقل تدريجيا لجميع جوانب المجتمع إلى أن تظهر الحاجة لكميات جديدة من الذهب لتمويل قدر جديد من التجارة الفعلية ليس أكبر مما كان في السابق.» فمستوى الأسعار هو ما يوازن بين «الطلب على السيولة النقدية» وبين «المعروض من النقود». لكن النقطة المهمة هي أن ضخ الأموال يستغرق وقتا لتظهر آثاره النهائية على الأسعار، وبينما تتكيف الأسعار مع التغيرات في المعروض من النقود تنشط حركة التجارة أو تقل. كما يترتب على ذلك أنه في ظل معيار الذهب «يعتمد المعروض من القوة الشرائية على البنوك والذهب معا.»
صفحه نامشخص
سعى المصلحون النقديون قبل عام 1914 إلى الحد من تأثير الذهب على «المعروض من القوة الشرائية». وتطلب استقرار مستوى الأسعار وضع كمية النقود تحت سيطرة السلطة النقدية المركزية . لكن عندما تكون النقود الرسمية عبارة عن قطع نقود ذهبية، فستحدد قيمة النقود على المدى البعيد طبقا للظروف غير المنظمة للعرض والطلب في سوق الذهب. وأرجع كثيرون انخفاض مستوى الأسعار في أواخر القرن التاسع عشر، إلى حد كبير، إلى زيادة تكلفة استخراج الذهب من مناجم كاليفورنيا وأستراليا التي نضبت، إضافة إلى زيادة معدل اكتناز الذهب في الهند. من الناحية الفنية، لم تكن كمية النقود الذهبية تعد متغيرا خارجيا؛ فقد وضع المصلحون خططا لتغيير كمية الذهب في النقود - ومن أمثلتها معيار مارشال الجدولي والدولار المعوض لفيشر - بغرض تحقيق استقرار أكبر في مستوى الأسعار. أما الاقتصادي السويدي كنوت فيكسل، فقدم اقتراحا جريئا؛ إذ قال إن المعيار الدولي المثالي هو المعيار الورقي، وهو ما يعطي البنوك المركزية السيطرة الكاملة على المعروض من النقود. وقال فيكسل في كتابه «الفائدة والأسعار» المنشور بالألمانية في عام 1898: «هناك سعر معين للفائدة على القروض يكون محايدا بالنسبة لأسعار السلع، ولا يميل لرفعها ولا لخفضها.» وأطلق عليه سعر الفائدة «الطبيعي» (أو سعر الربح). ويكمن جوهر ما في أفكاره المعارضة لمعيار الذهب في أنها تمنع البنك المركزي من تعديل سعر الفائدة السوقي تبعا للتغيرات في سعر الفائدة «الطبيعي». ولم يتبن كينز هذا التوجه حتى عام 1930. لكنه حتى قبل عام 1914 طالب مثلما طالب إرفينج فيشر بمعيار «أكثر منطقية واستقرارا» من معيار الذهب. واقترح كينز في عمله «العملة والمالية في الهند» (1913) خطة لإصلاح النظام المصرفي الهندي من أجل زيادة المرونة الموسمية لاحتياطي الروبية، وتطلع إلى اليوم الذي تقتصر فيه العملات القائمة على الذهب على دولة أو دولتين، يدير بنكها المركزي ما كان في الواقع معيارا دوليا ائتمانيا. وقال: «من غير المرجح أننا سنستمر في ترك التعديلات الدقيقة في منظومتنا الاقتصادية تحت رحمة منقب عن الذهب محظوظ، أو عملية كيميائية جديدة، أو تغير الأفكار في آسيا.» وأكد أيضا على أن «تفضيل وجود عملة احتياطي ملموسة ... أصبح شيئا من الماضي؛ حيث كانت الثقة في الحكومات في مثل تلك الأمور أقل منها الآن.» لكن خططه المتتالية التي قدمها، حتى خطة بريتون وودز من أجل إقرار عملات مدارة، أبقت على دور «ملكي دستوري» للذهب باعتباره أساسا لنظام سعر صرف مدعوم، وبوصفه خط الدفاع الأخير ضد التضخم.
ورغم أن الخطط «الدستورية» لإصلاح معيار الذهب قبل الحرب العالمية الأولى قد باءت بالفشل، فإن هذا المعيار كان في طريقه للتحول إلى معيار «مدار» في ظل استخدام البنوك مجموعة متنوعة من الأدوات لمعاوضة تدفقات الذهب أو تحييدها من أجل استقرار الأسعار المحلية. وكان يعتقد أن آثار تدفق الذهب إلى الداخل أو الخارج تعتمد على نحو عام على قدرة البنك المركزي على التصرف. وأدى ذلك إلى أن تؤكد النظرية النقدية قبل الحرب بشكل متزايد على دور السياسة المصرفية في تحديد المعروض من النقود. وتحول الاهتمام من تأثير حركة الذهب على الأسعار إلى تأثير تدفق الائتمان. كانت نظرية كمية النقود تتحول تدريجيا إلى نظرية كمية الائتمان. قال كينز في مقال بعنوان «إلى أي درجة يتحمل المصرفيون المسئولية عن تناوب الأزمات والكساد؟» - والذي قرأه على نادي الاقتصاد السياسي في ديسمبر 1913 - إن المصارف يمكنها أن تقرض أصحاب المشروعات دون أن تقترض المبلغ الذي أقرضته من المدخرين؛ فخلق الائتمان يمكن أن يكون سببا مستقلا للتضخم؛ إذ عندما «يسبق» الاستثمار الادخار، فيجب أن يحدث الكساد ليتمكن الادخار من «اللحاق» بالاستثمار. وعرض تلك الأفكار مرة أخرى في منتصف العشرينيات. لكن ما دام البنك المركزي يمتلك وسائل تنظيم معدل خلق الائتمان في البنوك التجارية، فإن وجود النقود الائتمانية لا يشكل أي خطر على قدرة البنك على «السيطرة على المعروض من النقود».
كان معظم الجانب النظري والعملي لعملية الإصلاح النقدي قد تم التوصل له فيما قبل عام 1914، لكن تجربة الحرب وتوابعها على النقد أثرت نظرية كينز، وأعطت لمناقشته للسياسة الاقتصادية أولوية لم تحظ بها قبل الحرب قط. قدم كينز المشورة لوزارة الخزانة في أثناء الأزمة المصرفية فيما بين شهري يوليو وأغسطس من عام 1914؛ حيث فسر الأزمة في ضوء «طلب غير معتاد على النقود» من جانب النظام المصرفي، وذلك بعد توقف التحويلات النقدية الأجنبية وانهيار سوق الأوراق المالية. وتفادى بنك إنجلترا الأزمة بشرائه الأوراق النقدية من السوق. وكان واجب البنك المركزي في التصرف بوصفه «المقرض الأخير» للنظام المصرفي جزءا من نظرية عمله منذ أيام والتر باجيت، التي طرحها في كتابه الشهير «شارع لومبارد» (1870) وأيدها كينز دون تردد. كما ساعدته خبرته التي اكتسبها من عمله في وزارة الخزانة أثناء الحرب على الإشارة إلى أن التضخم آلية يمكن من خلالها للحكومات الفقيرة غير القادرة على فرض ضرائب عادلة أن تحول الموارد الحقيقية إليها. وأنكر كينز في إحدى المراسلات وقت الحرب مع إدوين كانان - أستاذ الاقتصاد بكلية لندن للاقتصاد - إمكانية التغلب على التضخم بمجرد تقليل إصدار الأوراق المالية؛ فقد كتب إلى كانان في 28 يناير عام 1918 يقول:
إن الإفراط في إصدار الأوراق المالية وحجم التضخم - المرتبط بعملية الإصدار تلك وبالزيادة في الائتمان المصرفي - يبدو لي أن سببهما هو تجاوز الإنفاق العام لقدرة الحكومة على تحمله من خلال الضرائب والقروض ... وفي ظل هذا الوضع يصبح تنظيم إصدار الأوراق المالية أمرا مستحيلا ... وأظن أنه من المنصف علميا إرجاع سبب التضخم للإفراط في الإنفاق العام، واعتبار تقليص الإنفاق العام والخاص هو الحل الوحيد لمواجهة هذا التضخم.
وعلى المستوى الأعم كانت القضايا التي شغلت مساحة متزايدة من الاهتمام، مقارنة بنظيرتها السائدة قبل الحرب، هي تلك التي نشأت عن التضخم وقت الحرب وتقلبات العملة بعد الحرب وعبء الديون وقت الحرب. وأرجع السبب في التضخم في أثناء الحرب وبعدها في ضوء نظرية كمية النقود إلى التمويل الحكومي التضخمي. ولتفسير العلاقة بين تضخم الأسعار المحلية وانخفاض أسعار الصرف، وضع الاقتصادي السويدي جوستاف كاسل نظرية «تكافؤ القوة الشرائية» الخاصة بأسعار الصرف. وأثارت مسألة قدرة ألمانيا على دفع التعويضات مناقشة فنية حول طبيعة «مشكلة التحويل». وكان لكينز دور نشط في كل تلك المناقشات. ومن الأشياء المهمة التي قدمها في ذلك الوقت تحذيره من إمكانية حدوث تضخم. وفي كتابه «الآثار الاقتصادية للسلام» اقتبس كينز ملاحظة تعود إلى لينين مقرا بما فيها تقول: «ليس هناك وسيلة لقلب أسس المجتمع القائمة أدق وأقوى من إفساد عملته.» فقد شكل التقلب الشديد للأسعار ولأسعار الصرف في الفترة التالية للحرب مباشرة، بجانب التغير في موازين القوى بين الولايات المتحدة وأوروبا، المادة التاريخية لكتاب كينز «بحث في الإصلاح النقدي» (1923).
كان الهدف الصريح لكتاب «بحث في الإصلاح النقدي» هو تحقيق استقرار الأسعار المحلية. فاستقرار الأسعار وحده كفيل بجعل النشاط الاقتصادي مستقرا أو طبيعيا. وقد كتب كينز يقول: «إنني أعتبر أن استقرار الأسعار والائتمان والتوظيف ذات أهمية قصوى.» ونصت فكرته على أن التقلبات في قيمة النقود تسبب تقلبات على المدى القصير في النشاط الاقتصادي؛ لأنها تغير نصيب الطبقات من الدخل وتخل بالتوقعات القائمة. ويقال إن انخفاض الأسعار يضر بنسبة التوظيف؛ لأن الأجور النقدية تكون ثابتة على المدى القصير، ولأنه يحبط توقعات عوائد المبيعات. لكن كينز قال: «سيكون من الأسوأ في عالم فقير زيادة نسبة البطالة بدلا من إحباط أصحاب الدخول الربوية.» وكان هذا الجمع بين المسائل النظرية والمؤسسية من السمات المميزة لكينز. ويعد ذلك أحد أسباب الخلافات الكثيرة بشأن مقصده الحقيقي. لكن النقطة المهمة التي أكدها هي أن استقرار الأسعار كان ضروريا بالنسبة لإمكانية التنبؤ التعاقدية التي كانت ترتبط باستقرار الاقتصاد. فكان الإصلاح النقدي ترياقا للثورة الاجتماعية.
هناك أربع نقاط لافتة للنظر في كتاب «بحث في الإصلاح النقدي»؛ أولا: أن كينز هاجم السياسات الهادفة لاستعادة معيار الذهب. وخلال ذلك واجه استنتاجها المنطقي بالحجة الخاصة بالمصلحين الاقتصاديين بأن استقرار الأسعار المحلية قد لا يتماشى مع استقرار أسعار الصرف؛ فبدلا من ضبط الأسعار المحلية وفق سعر الصرف، ينبغي ضبط سعر الصرف وفقا لمستوى أسعار محلية يتماشى مع نسبة توظيف «طبيعية» (أي كاملة على نحو معقول). وخصص كينز قسما رائعا عن سوق الصرف الآجل؛ ليبين أن التجار يمكنهم «التحوط» من تقلبات سعر الصرف بشكل أسهل من تحوط المنتجين لتقلبات الأسعار المحلية؛ لذا فإن «العقود والتوقعات الاقتصادية - التي تفترض استقرار سعر الصرف - ربما تقل كثيرا حتى في الدول التجارية، مثل إنجلترا، عن مثيلتها التي تفترض استقرار مستوى الأسعار المحلية.»
كان السياق المهم لتلك الحجة هو الهيمنة الصاعدة للولايات المتحدة؛ إذ قال كينز: «في ظل التوزيع القائم للذهب على مستوى العالم، فإن العودة إلى معيار الذهب يعني حتما أن نسلم إدارتنا لمستوى الأسعار وتعاملنا مع دورة الائتمان لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الخاص بالولايات المتحدة.» وستضع السلطات النقدية الأمريكية سياستها النقدية تبعا لظروفها الداخلية، لا وفق متطلبات الدول الأخرى مثل بريطانيا. وكان أفضل الحلول في هذا الشأن يتمثل في تقسيم العالم إلى كتلتين بعملتين «مدارتين»؛ هما الجنيه الاسترليني والدولار. قال كينز: «وما دام قد تمكن مجلس الاحتياطي الفيدرالي من الحفاظ على ثبات أسعار الدولار، فسيتساوى هدف تحقيق ثبات أسعار الجنيه الاسترليني مع ثبات أسعار صرف الدولار أمام الجنيه الاسترليني.» وسيعود الذهب وسيلة نهائية لتسوية الديون الدولية.
ثانيا: رأى كينز أنه يمكن تحقيق استقرار الأسعار من خلال السياسة النقدية وحدها. فلم ير في ضغط الأجور عاملا معقدا للمشكلة. كما لم يشكك في مسألة مرونة الفائدة في الاستثمار، رغم أنه أدرك وجود حدود توقعية للتغيرات في أسعار الفائدة الحقيقية، وهي فكرة لم يستغلها إلا في كتابه «النظرية العامة». فالسيطرة على التضخم تكمن بالأساس في منع التمويل الحكومي التضخمي.
ثالثا: كان كينز ينظر للنقود بمعناها الواسع، لا الضيق. وكانت السياسة السليمة تقتضي «مراقبة عملية خلق الائتمان والسيطرة عليها والسماح بخلق العملة بناء على ذلك.» ويرجع هذا إلى أن كمية السيولة النقدية كانت مؤشرا عكسيا؛ إذ يجب التصدي للارتفاع المستقبلي في الأسعار، لا ارتفاعها في الماضي. ومهد الخلاف بين كينز وإدوين كانان وقت الحرب لظهور الخلافات بين شكلي النظرية النقدية القائمين على النقود «بمعناها الواسع» و«بمعناها المحدود» في ثمانينيات القرن العشرين. وطرحت مشكلة نوع النقود التي يجب تتبعها أو مراقبتها للمرة الأولى.
صفحه نامشخص