الباب العاشر
بقي علينا أن ندرس ما هو اختلاط الأشياء، وسنتبع ها هنا النمط عينه كما فيما سبق؛ لأن هذا هو ثالث الموضوعات التي تصدينا لفحصها في بداية هذه البحوث. يلزم إذن أن ننظر ما هو الاختلاط وما هو الشيء القابل لأن يختلط، وما هي الأشياء التي يمكن أن يقع الاختلاط بينها، وكيف تتحقق هذه الظاهرة.
1
ومن جهة أخرى يمكن أيضا أن يتساءل عما إذا كان يوجد حقيقة بالفعل اختلاط للأشياء أو أن هذا ليس إلا ضلالا؛ لأنه يمكن أن يظن أن شيئا لا ينبغي ألبتة أن يختلط بآخر كما يزعم بعض الفلاسفة؛ يقولون إنه في الواقع حينما الأشياء التي اختلطت تبقى بعد أيضا ولم تكن لتستحيل لا يمكن أن يقال إنها الآن أكثر اختلاطا مما كانته من قبل، ولكنها دائما في الحال بعينها. فإذا أخذ أحد الشيئين أن يبيد في الاختلاط لا يمكن بعد أن يقال إنهما اختلطا، ولكن فقط إن أحدهما يوجد وإن الآخر لا يوجد بعد، في حين أن الاختلاط لا يمكن في الحق أن يقع إلا بين شيئين يوجدان على السواء. ويزيدون - أخيرا - على ذلك أنه لا يوجد بعد اختلاط، بهذا السبب عينه، إذا كان الشيئان اللذان يجتمعان يفسدان كلاهما بالاختلاط؛ لأنه من المحال قطعا أن أشياء لم تكن بعد ألبتة يمكنها أن تختلط.
2
هذه النظرية - كما يرى - الغرض منها أن يتعين في ماذا يختلف اختلاط الأشياء عن كونها وعن فسادها، وأيضا في أي شيء يختلف الشيء المختلط عن الشيء الكائن وعن الشيء الفاسد؛ لأنه من البين أنه ينبغي أن يكون الاختلاط مغايرا بافتراض أنه واقع بالفعل. ومتى وضحت هذه المسائل تنحل المسائل التي وضعناها لأنفسنا من قبل.
3
ذلك هو السبب في أنه لا يمكن أن يقال إن المادة اختلطت بالنار التي أحرقتها حتى ولا أنها تختلط بها وقت ما تحرقها، كما أنه قد لا يمكن أن يقال إنها تختلط بنفسها في أجزاء النار كما لا تختلط بالنار نفسها. بل يقال ببساطة إن النار تكونت، وإن المادة القابلة للاحتراق قد فسدت، كما أنه لا يمكن أيضا أن يقال لا عن الغذاء ولا عن صورة الخاتم إن الأولى باختلاطها بالجسم والثانية باختلاطها بالشمع قد أعطتا شكلا ما للكتلة بتمامها. ينبغي الاعتراف أيضا بأنه لا الجسم ولا البياض ولا بالاختصار، كيفيات الأجسام وتغايرها يمكنها أن تختلط بالأشياء ما دام أنه يرى أن الاثنين يبقيان. كذلك أيضا البياض والعلم في الواقع لا يمكنهما أن يركبا خليطا ولا أيضا أي واحد من الكيفيات أو الخواص التي ليست قابلة للانفصال.
4
وأيضا يخدع نفسه من يقرر أن الأشياء جميعها كانت سابقا مندمجة، وأن الكل قد وجد مختلطا؛ لأن كلا لا يمكن ألبتة أن يختلط بكل على السواء. يلزم دائما أن كلا الشيئين اللذين يختلطان يمكن أن يبقى على حدة. وحينئذ فإن كيفيات الأشياء لا يمكنها أن تكون منفصلة عنها أبدا. ولكن لما أن من بين الأشياء بعضها تكون بالقوة المحضة والآخر بالفعل المحض فينتج من ذلك الأشياء التي تختلط يمكنها من جهة أن تبقى بعد ومن جهة أخرى ألا تبقى؛ فإذا كان في الواقع الخليط الحاصل من الاختلاط هو شيئا مخالفا فإنه يكون كذلك دائما بالقوة للشيئين اللذين كانا يوجدان قبل أن يختلطا وقبل أن ينعدما في الخليط. وهذا إنما هو على التحقيق الجواب على المسألة التي أثارتها النظرية التي تكلمنا عليها آنفا.
صفحه نامشخص