فهو يقرر بادئ بدء أن ليس شيء يمكن أن يأتي مما هو ليس موجودا. ولكن يرد عليه هذا السؤال: أمن الضروري إذن أن تكون جميع الأشياء بلا استثناء غير مخلوقة؟ أوليس من الممكن أيضا أن تأتي الأشياء بعضها من بعض، وأن هذه السلسلة يمكن أن تتمشى إلى ما لا نهاية؟ أوليس من الممكن أيضا أن تتكون رجعى دائرية بحيث إن الواحد يأتي من الآخر، وأنه على ذلك يوجد دائما موجود ما، وأن كل واحد قد أمكن أن يخرج على هذا النحو من جميع الآخر على التكافؤ في عدد غير متناه من المرات؟ على هذا المعنى لا شيء يمنع أن الكل قد خلق وأصبر حتى مع التسليم بذلك الفرض أنه ليس شيء يمكن ألبتة أن يأتي من لاشيء. وبما أن الموجودات على ذلك غير متناهية فيمكن إذن - كما يشاؤه - أن تسمى بجميع الأسماء التي لا تناسب إلا الوحدة؛ لأنه يطبق هو أيضا على اللامتناهي كيفية أنه كل وأنه يسمى كلا.
16
حتى من غير أن يفرض أن عدد الموجودات غير متناه، يمكن أن يفهم أن كونها دائري، فإذا كان كل بصير وأن لا شيء يوجد كما يزعم بعضهم، فكيف يوجد إذن أشياء أزلية؟ ولكن ميليسوس يتكلم عن الموجود كأنه كائن وكأنه مسلم به على الإطلاق. فإنه يقول: «إذا الموجود لم يصر وإذا هو يكون فيلزم أن يكون أزليا.» وهذا إنما هو تسليم بأن الوجود يتعلق ضرورة بالأشياء.
17
وأكثر من ذلك أنه مع الافتراض - بقدر ما يراد من الافتراض - بأن اللاموجود لا يمكن أن يصير، وأن الموجود لا يمكن أن ينعدم ألبتة، فما الذي يمنع أيضا أن من الأشياء ما تولد ومنها ما تكون أزلية؟ تلك إنما هي نظرية أمبيدقل نفسه؛ فإنه مع أنه مسلم وفقا لرأي ميليسوس بأن من الممتنع أن أي شيء اتفق يخرج مما لم يكن وأنه لا سبيل مطلقا لأن شيئا وجد مرة يمكن أن ينعدم ألبتة «ما دام أن الموجود يبقى دائما حيث أمكن وضعه»، مع كل هذا لا يزال هذا الفيلسوف يؤيد أن من الأشياء ما هو أزلي كالنار والماء والأرض والهواء، وأنه إنما من هذه الأشياء أتت وتأتي جميع الأخر. وعلى رأيه ليس للموجودات كون آخر غير هذا، وأن الكون ليس في الحقيقة إلا اختلاطا وتحللا. وهذا ما يسمى عاميا كون الأشياء وطبعها.
18
ومع ذلك فإن أمبيدقل يزعم أن الصيرورة لا تنطبق على الأشياء الأزلية، وأن ما هو موجود لا يصير. فتلك في نظره محالات واضحة؛ إذ يقول: «كيف يمكن في الحق أن يقال: إن شيئا يزيد الكل؟ ومن أين يأتي ذلك الشيء؟ إنما هو من اختلاط النار وتركبها، ومن جميع العناصر التي تصحبها أن خرج تكثر الأشياء، وبانفصال هذه العناصر وتباعد بعضها عن بعض تنعدم الأشياء من جديد. والتكثر يأتي من الاختلاط والتفرق ولو أنه بالطبع لا يوجد إلا أربعة عناصر بصرف النظر عن العلل، بل عنصر واحد أحد.»
19
حتى مع افتراض أن العناصر لامتناهية منذ الأصل لتكون الأشياء بتركبها وتفسدها بافتراقها كما يدعي أحيانا أنه كذلك كان يفكر أنكساغوراس الذي كان يعتبر هذه العناصر الأزلية غير المتناهية كمصدر لجميع الأشياء التي تتكون. وقد لا ينتج من هذا أيضا أن الكل هو أزلي بلا استثناء، بل يوجد دائما بعض أشياء قد تأتي وتكون أتت من موجودات متقدمة وتفنى في جواهر أخرى.
20
صفحه نامشخص